عندما يتحوّل التشبّه بالغرب من غاية إلى وسيلة

لقد حذّر ابن خلدون من مخاطر ثقافة الآخر قبل تحصين الذّات في ثقافتها وفكرها في المقام الأوّل. ذلك أنّ التّلاقح الفكري الإيجابي لا يحدث إلاّ عندما يتمكّن الإنسان من استيعاب لغة وثقافة مجتمعه وحضارته. إلاّ أنّ وضع الأقطار العربية اليوم تبعا لتعرّضها لأمرين خطيرين، حيث خضعت لاستعمار مباشر تلاه استبداد محلّي أو استعمار ثان بالوكالة، فإنّه قد تمّ عمدا في مرحلة أولى إضعاف الوازع الديني والثقافي والحضاري لدى النّاشئة وفي مرحلة ثانية تهيئتها وبرمجتها  لتقبل ثقافة وحضارة الآخر بكلّ سلبياتها بل وبالإعجاب الشديد بها.

وقد انعكس ذلك سلبا على تصرّفات الشباب والنخبة على حدّ سواء. وهو ما عقّد مهمّة المصلحين والمدافعين عن الهوية والقيم الحضارية. فأصبح خطاب الإصلاح في هذه البيئة المضطربة وكأنّه شكل من أشكال الحرث في الماء. حيث تلبّستنا ثقافة وعادات وسلوكيات الآخر تلبيسا. فغدا المجتمع في الأغلب الأعمّ لا يميّز الخيط الأبيض من الأسود. حيث طغت اللغة الأجنبية على نقاشات الخاصّة والعامّة. وطغت الموضة الأجنبية على لباس العامّة واصطبغت سلوكيات العامّة بسلوكيات الغرب في كلّ كبيرة وصغيرة. وهو ما يتجلّى بوضوح في نوعية حلاقة الشّعر وموضة اللّباس من قصير وشفّاف وممزّق ومقطّع من كلّ الجهات، وفي السلوكيات الجديدة والغريبة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالآخر وثقافته وحضارته من مثل الاحتفال برأس السنة الميلادية والتهنئة بحلول هذه السنة ومن مثل التشبّه بهم في اللّباس وفي كلّ عاداتهم وتقاليدهم. وهو ما نبّه إليه الرسول الكريم حيث ورد في الحديث الشريف : 'لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ ؟'. 

فالكثير من النّاس ممّن طغت عليهم هذه السلوكيات،برغم قيام الثورة، لا يزالون يصرّون- ربّما عن حسن نيّة- على التشبّث بما هم عليه من سلوكيات خاطئة متشبّثين في ذلك بمفاهيم العولمة تارة ومتّهمين طورا خطاب الإصلاح بالتشدّد والتحجّر والنّهل من ثقافة السلف، ومتوجّهين إلى منتقديهم في استغراب وتعجّب بسؤالهم الإنكاري التالي : في أي كوكب وفي أي عصر تعيشون ؟ ('وين عايشين ؟ ') وهو ما يؤكّد أنّ هذه الفئة،برغم قيام الثورة، لا تزال تحت تأثير الانبهار الحضاري بالآخر الذي حجب عنها الرّؤية، رؤية التطلّع إلى المستقبل والاستقلال الثقافي والإقلاع الحضاري. وهو ما يستدعي تكثيف المحاولات من أجل حث ودفع كل مؤسسات المجتمع المدني لتبنّي سياسة وطنية تقطع مع سياسة الانحلال والاندماج في الآخر، وتنحو نحو التماهي مع روح الثورة القادرة على إعادة تشكيل وعي جديد يؤسّس لبداية الإقلاع الحضاري.

وما يؤسف له أنّ محاولات الإصلاح هذه لا تنفع ولا يمكن أن تنفع مع فئة من النّخبة باعت ضمائرها للآخر في مقابل الاستحواذ على مقدّرات البلاد. وهنا يكمن الخطر الأعظم. حيث يتحوّل الاستلاب الثقافي من غاية إلى وسيلة لإشباع الأطماع. فهذه الفئة تتقمّص شكل ومظهر وهيئة و "لوك" الإنسان الغربي أو تتلبّسه تلبيسا من أجل تقديم وعرض نفسها للدولة العميقة المرتبطة بالدوائر الإقليمية والعالمية عن طريق ذبذبات وإشارات الشكل والمظهر من مثل نوع الكسوة وشكل اللحية وشكل ونوع غطاء الرأس وطريقة التدخين وطريقة ولغة الحوار. حيث يصبح المظهر رسالة للآخر مضمونة الوصول تعلمه بأنّ هذه الفئة على الخط و "نحن منكم وإليكم ومستعدّون لكل الاشتراطات والإملاءات". وما ذلك إلاّ شكل من أشكال الانخراط في المنظومة كما كان أيام الاستبداد عن طريق الانخراط  وحمل 'بطاقات التجمّع'. فبطاقة الانخراط الجديدة في منظومة الدولة العميقة لا تقتصر على بطاقة يقع تعميرها وإيداعها لدى السّلط المعنية والتأكيد عليها من خلال حضور كل الاجتماعات الحزبية والتصفيق والتهليل. بل إنّها أصبحت ترتكز أساسا على المظهر واللّوك وعلى الصورة. فنحن نعيش عصر الصورة وعصر الانترنت. حيث أضحت الصورة تخترق،في لحظة زمنية، كل الحواجز المحلّية الإقليمية والعالمية.  

وخلاصة القول أنّ هذه الفئة ارتكبت جريمتين : الأولى أنّها ارتمت في أحضان الغرب واستغلّت مصيبة التغريب لغاية تحقيق أغراض سياسية وجني مصلحة لأغراض شخصية. والثانية أنّها ساهمت- كنخبة وكقدوة للمجتمع- في نشر ظاهرة التغريب على نطاق واسع. وهي  باختصار عنوان نكبة الأمّة.

وسوم: العدد 754