ما نراه وما لا نراه، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب

في العام 1863 وبعد عجزها عن حل مشكلة شبكة الصرف الصحي التي أدت إلى تزايد في معدلات الإمراض والوفيات في المدينة المقدسة، وافقت الدولة العثمانية على قبول مساعدة هندسية من أحد الجمعيات الخيرية البريطانية لتطوير نظام المدينة الصحي.

الفريق الهندسي المزعوم الذي حضر لمساعدة السلطات العثمانية لم يكن في حقيقة الأمر سوى بداية الفصل الاستخباري الطويل الذي أفضى إلى احتلال البلاد بعد نصف قرن.

ففي أكتوبر 1864 أي قبل 143 عاماً من اليوم حضر الضابط الشاب تشارلز ويلسن 28 عام على رأس فريق هندسي مهمته مسح المدينة طبوغرافياً تمهيداً لتصميم شبكة صرف صحي ملائمة.

ويلسن وفريقه الهندسي الصغير أتموا مهمتهم المعلنة بنجاح بعد أقل من عام، بالإضافة إلى ذلك تمكنوا من رسم أول خارطة عصرية عالية الدقة للمدينة باستخدام أحدث معارف وتقنيات عصرهم.

جهود ويلسن لم تقتصر على انجاز المهمة المعلنة في حل المشكلة الصحية، ولا مهمته الاستخبارية التي تقضي برسم خارطة عصرية وعلمية للمدينة، فقد انخرط ويلسن في التنقب الأثري في منطقة الحرم الشريف بعد أن حصل على إذن بمباشرة الحفر كمكافأة له على إعادة اكتشاف جسر مدفون يربط منطقة الحرم بالمدينة العتيقة.

العام الواحد الذي قضاه الضابط المغمور ويلسن في المدينة المقدسة جعله أباً للاستخبارات بالتربيع، فهو من منحه هالة رومنسية تستدعي العبقرية والمغامرة بعد أن كان لا يستدعي إلا معاني التلصص والخسة، وهو الذي أبلغه الحيوية التي حولته من نثار هامشي في مكتب الحرب البريطاني إلى مؤسسة هامة قائمة بذاتها موجهة لغيرها.

في نوفمبر 1865 أوكلت إلى ويسلن مهمته الثانية، والتي تقضي بمسح غرب فلسطين واستكشافها بالإضافة إلى مسح هيدروليكي لمنطقة غور الأردن، لم يلبث الضابط الشاب أن أتمها في غضون عامين، لينصرف بعدها إلى انجاز مسح عسكري لسيناء، العمل الذي اعتبره مكتب الحرب البريطاني بالغ الأهمية لارتباطه برغبة الإنجليز في إقامة منطقة دارئة في شبه الجزيرة تحول بين العثمانين في الشام وبين مناطق نفوذهم في مصر.

سبيعينات القرن التاسع عشر  شهدت تتويجاً ألقاً لأعمال الضابط ويلسن، حيث طبعت خارطة مسح غرب فلسطين في 26 صفحة، ألحق بكل صفحة منها مجلد بحثي، اعتبرت ذورة سنام العمل الطبوغرافي يومها.

بعد كل هذه النجاحات عاد ويلسن إلى بلاده ليرأس شعبة الطبوغرافيا في مكتب الحرب، بالإضافة إلى تعيينه كوارترماستر جنرال لشعبة الاستخبارات.

في صيف 1882 وأثناء عمله كملحق عسكري في الأناضول طُلب من ويلسن الالتحاق بتجريدة الفلد مارشال ولسلي للقضاء على الثورة التي اشتعلت في مصر، ويلسن وظف كل خبرته في المنطقة وأهلها لتحديد ثغرات جيش فلاحي مصر بقيادة الأميرالاي أحمد عرابي مما أدى انهياره بعد نصف ساعة من بدء المعركة.

بعد تقاعده من الخدمة عمل ويلسن كرئيس للتعليم العسكري، بالإضافة إلى ترأسه لصندوق استكشاف فلسطين، المنظمة التى وفرت الغطاء للعمل الاستخباري في فلسطين وسيناء.

في 1904 وقبل وفاته بعام واحد زار ويلسن المدينة للمرة الأخيرة في حياته، ليخرج منها بقلب جاف ونفس خائبة، دون أن يطلب من جهوده فيها أثراً آنياً ومجداً مباشراً، قانعاً بثقته أن جموع تجواله في الأرض المقدسة تكفي لأن تصعد الدم إلى الرأس فور مصادفتها لعقل ألمعي، الأمر الذي تحقق بعد وفاته باثني عشرة عاماً عندما تمكن الجنرال اللمبي من كسر الخط الحربي العثماني في غزة، وما تلاه من فتح المدينة المقدسة.

قبل وفاته بأيام طلب ويلسن أن تنقش على شاهد قبره الآية السادسة من سفر ميخا "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه الرب منك، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك".

صديقه السير تشارلز واطسون، قال مؤبناً إياه لقد صنع الحق وأحب الرحمة وسلك دوماً بتواضع مع إلهه.

--------------------

ملاحظات:

ويلسن/

لماذا ويلسن؟ إعرف الآخر أولاً  تعط كل شيء، فالنظر في المرايا لا يحمل مفاجئات ولا مصادفات، فنحن نعرف سلفاً ماذا ينتظرنا على المرآة، قطعة لحم فظة ومظلمة "وجهنا القديم الأبدي". أما ما يحرك حمأ القعر ويمزق السطوح الناعمة من ألوان القتل والعشق والجنون والأحداث الكبرى والولادات فهو خلفنا أو خلف المرآة.

إن مجهولاً يأتي إلى بيتنا، هو غائب ينبغي تحديده، وتحقيق هويته والتعرف على آثاره، وإلا فسيكون نقطة عمياء أخرى على شبكية عيننا.

الخرائط التي رسمها ويلسن  لم تكن عرفت من قبل حيث أتت بمقياس  (1:63360)، وهذا ما جعل منها نقطة تحول في الجغرافيا العسكرية.

نشر ويلسن فيما بعد كتاب أسماه "فلسطين المنظرانية Picturesque Palestine"، اعتبر من أكثر الكتب مبيعاً في زمانه، ومن الكتب التي ألهبت التعلق الرومنسي بالأرض المقدسة مجدداً في الوجدان الأوربي، بالإضافة إلى الكتاب ذائع الصيت "استعادة القدس: رواية الاستقصاء والاستكشاف في المدينة والأرض المقدسة The Recovery of Jerusalem: A Narrative of Exploration and Discovery in the City and the Holy Land".

الشاب ويلسن الذي كان قد تلقى تدريباً مبدئياً في الدبلوماسية رأي أن أولى وظائفه هي التآلف مع البييئة الاجتماعية الجديدة بعد التأقلم مع البيئة الطبيعية، وهذا جوهر الفكرة الاستخبارية التي حكمت تعامل المستعمر مع المنطقة من ويلسن مروراً بلورنس العرب حتى أفول الاستعمار التقليدي.

العبقرية/

ملكة عظيمة موضعها من الجسم الأقدام، يستطيع صوتها بلوغ الأعماق، لكنها لا تنطق بكلمة ولا تلقي بنظرة لا تكون في ثناياها نية الظفر، تخرس كل ثرثار ذي هرج وغرور، وتعلمه الإصغاء إلى الأرض بتواضع.

التجوال/

بلا نشاط جسمي ليس من نشاط فكري، لا بد من وضع حد لفلسفة الجالسين، الإنسان لا يفكر أي تفكير جيد وهو جالس.

المساعدات الإنسانية/

بقدر ما يكون صدور المساعدة الإنسانية خيراً في حق الأفراد، يكون صدورهاً شراً مطلقاً وإقداماً عدائياً من الدول، فشرط وجود الخير في الحيز الدولي هو الكذب، وشرط قبوله عند المتلقى وهم ابتعدعه خيال المجتمع الكسول.

حل مشكلة الصرف الصحي، ساهم فعلاً في تحسين شروط الحياة في المدينة المقدسة، لكنه أفضى إلى ضياعها بعد ما لا يزيد عن 50 عاماً، ولا زال يعمل على طمس هويتها، فالقوس الأموي الذي اكتشفه ويلسن والحق بالتاريخ اليهودي زوراً وبهتاناً هو النقطة المؤسسة لأعمال الحفر تحت الحرم الشريف التي لا زالت تلقي على المدينة بؤساً فوق شقاء.

الخارطة/

كتب كرستوفر مارلو في مسرحية "تيمورلنك العظيم" على لسان تيمورلنك فاتح آسيا الوسطى وهو على فراش الموت: "أعطني خارطة، ثم أرني كم تبقى لي لإتمام فتح العالم بأسره".

السياسة هي الاجتماع مكثفاً، والخارطة هي السياسة في محلها، الخارطة هي أن تقول الحقيقة بإيجاز وأن تموت عارفاً.

وسوم: العدد 755