الرؤية الجمالية في الغزل، الشعر العباسي نموذجًا

د. ياسر عبد الحسيب رضوان

مدخل :

للشعراء عين بصيرة وإحساس مرهف وقريحة زاكية ؛ وربما لذلك كله أُطلق عليهم شعراء ؛ لأن تلك الملكات تمنحهم الإدراك والعلم المرادف في اللغة للشعر ، ومن ثمة كانت تسمية الشاعر شاعرًا ؛ لأنه " يشعر ما لا يشعر غيره ، أيْ يعلم " ([2]) :

فَلِلسَّاقِ أُلْهُوبٌ وَلِلسَّوْطِ دِرَّةٌ *** وَلِلزَّجْرِ مِنْهُ وَقْعُ أَهْوَجَ مِنْعَبِ

بينما قال علقمة [طويل ] ([4]) ؛ فقد " انبنت موضوعيتها على معرفة بالصورة المثالية للفرس ، هذه الصورة التي لا تهتم بجانب وتتغافل عن آخر ، ولعلها بسليقتها وفطرتها قد انتبهت إلى العامل المادي والنفسي بين الفارس وفرسه ، متخذة من الإرث العربي في العلاقة بين العربي وفرسه دافعًا لهذا الحكم "([6]) 0

وإلى جانب تلك المنافرات الشعرية وُجدت المعارضات والنقائض ، والمساجلات والإجازات التي اشتهرت في الشعر الأندلسي ، وكلها صور تؤكد على الاختلاف والتباين بين الشعراء في التعبير عن الموضوع الواحد ، لسبب واضح هو أن كلاًّ منهم ينظر إليه من زاوية خاصة ، دون أن نغفل العاطفة والحالة النفسية والسياق ، وكل ذلك يجعلنا نتساءل عن موقف الشعراء العباسيين من توظيف دالة الشمس في أشعارهم ، وكيف كانت رؤيتهم الجمالية للسياق الشعري الذي وردت فيه هذه الدالة /الشمس ، وقد حددنا لهذه الرؤية الجمالية سياق الغزل 0

الغزل بالمرأة :  

ارتبط الغزل في الشعرية العربية منذ العصر الجاهلي بالمرأة ، قبل أن يظهر التغزل بالمذكَّر أو الغِلمان والفتيان في العصر العباسي ، وهو في مدونة النقد العربي " التصابي والاستهتار بمودات النساء " ([8]) ويبدو أنه بهذا المعنى يكون في مرحلة تالية للنسيب الذي تقترب دلالته من دلالة الغزل فالنسيب هو " ذكر خَلْق النساء وأخلاقهن ، وتصرف أحوال الهوى به معهنّ " ([10]) وربما كان ذلك من القواسم المشتركة بينهما ، والشمس مرادفة للغزالة ، فهي الشمس ، أو هي الشمس عند طلوعها ، أو عند ارتفاع النهار ، والغزل حديث الفتيان والفتيات وهو اللهو مع النساء ، ومغازلتهن بمعنى محادثتهن ومراودتهن ، والغزال من الظباء هو الشادن ، وتشبه به الجارية ـ المرأة عامة ـ في التشبيب ([12])  0 

وقد استمر توظيف الغزالة في الشعر العباسي حيث وُظِّفَتْ في السياق الغزلي تشبيهًا للمرأة بها ، وهي صورة من الصور الموروثة عن شعر الجاهلية ، وكأن الشعراء على اختلاف أزمانهم وثقافاتهم كانوا ينظرون النظرة الجمالية للمرأة في السياق الغزلي ، حيث كانت الغزالة الرمز الأنثوي للجمال في عيون الشعراء سواء كانوا يعيشون في البادية ، أو في الحضر والمدن ، وكذلك الحال بالنسبة للشمس التي  كان الجاهليون يرمزون عنها " بالمرأة والفرس والغزال والمهاة والنخلة ، وهذه رموز يختلط فيها الحيوان بالنبات والإنسان ، وتُعكَسُ على الشمس بسبب ذلك صفات بعينها هي صفات الخصوبة والقوة والجمال التي كانت تتصف بها هذه الإلهة الأم ، كما تعكس صفات أخرى جسدية تجعل منها صورًا مثالية للجمال والعطاء والحياة في لينها وقسوتها " ([14])  :

وَصَــــــاحِـــبٍ كَـــــــانَ لِي فِي ***  هَــــــــــــوَايَ ذَا تُهَمَـــــــــاتِ

لَـــــمْ يَطَّلِــــــعْ طِلْـــعَ شَـــأْنِي ***    إِلاَّ اتِّهَـــــــــامَ هَـنَـــــــــــــاتِي

فَبَيْنَمَـــــا نَحْــــــــنُ نَــــمْـــشِي ***    بِــــجَــــــــانِبِ الــــطَّــــــاقَـــــــــاتِ

إِذْ قِيـــــــلَ شَمْسُ ضُــحَـــــاهَــا ***  فِي أَرْبُــــــــــــعٍ عَـــطـــِـــــرَاتِ

فَـــقُــــلْتُ : شَمْـــــــسٌ وَرَبِّــــي ***  قَــــــــدْ جَـــــــلَّــــــتِ الظُّلُمَـــاتِ

حيث نجده يقدم صورة جمالية للمرأة التي يبدو أنه لم يكن وحده المدرك لجمالها وطيب رائحتها ، وإنما قِيل شمس نهار تشبيهًا للمرأة بشمس النهار التي ظهرت بالليل والظلام دامس ، وما كان منه إلا التأكيد على هذا الجمال الذي يبدو أنه كان مرتبطًا بالوجه خاصة ، فأقسم بربه أنها شمس أجلت الظلمات ، وهو رد فعل طبيعي لرؤية وجه المرأة الأبيض الجميل الذي أضاء ببياضه ظلمة الليل دون أن يستدعي ذلك تفسيرًا ميثولوجيًّا لم يرد ببال الشاعر ، ومن ثمة فإن نصه لا يحتمل أمثال تلك التأويلات التي كانت مستساغة مع الشعر الجاهلي وصوره الفنية ([16]) :

لَـمَّـــا رَأَيْتُ مَحَلَّ الشَّمْسِ فِي الأُفُــقِ *** وَضَــــوْؤُهَــــا شَــامِــلٌ لِلـدُّورِ وَالطُّــــرُقِ

صَيَّــــرْتُــهَـــــــــا لِلَّتِي أَحْــبَــبْــتُــهَـــــا مَـــثَـــــلاً ***  أَنْ لاَ يَــنَـــالَـــهُــمَـــا شَيْءٌ مِـنَ الْـحَـدَقِ

فَــلَــــوْ رَآهَـــــا أَنُـــــو شِــــرْوَانَ صَـــوَّرَهَــــــا *** فِــيــمَـــا يَـحُــــوكُ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالسَّرَقِ

وَقَـــالَ لِابْـــنَــيْـــهِ ضِــنَّــــا عِـنْـــدَ بَيْعِكُمَا *** شَــيْـئًـــــا قَــلِــيــــلاً لِـــتَزْدَادَا مِــــنَ الْـوَرِقِ

لقد قال أبو نواس هذه المقطَّعة الشعرية في جنان جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي المحدِّث ، وكانت ـ كما ورد في الأغاني ـ جارية امتازت بالحُسْن والظرف والأدب والعقل ورواية الأشعار ومعرفة الأخبار مما جعل أبا نواس يكلف بها ، بل قيل : " إن أبا نواس لم يصدُق في حبه امرأة غيرها " ([18]) الأبيات الأربعة  0 

ونلحظ أن أبا نواس قد جعل الشمس شبيهة بوجه جنان متمنِّيًا ألا تلحقها الأبصار والعيون ـ الحَدَقُ ـ مثلما لا تدرك العيون والأبصار عين الشمس لأنها قد بلغت من الحُسن بحيث تترك أثرها على الجميع ، فهذا أنو شروان الديباجي الحائك الذي كان يعمل مع هانئ والدِ أبي نواس لو رآها لصورها في ديباجه وحريره ـ السرق ـ ، ولأمر ابنيه أن يضنا ببيعها ؛ طمعًا في إغلاء الثمن ـ الورِق/الفضة ـ على المشترين  0

ويتغزل الشاعر أحمد بن أبي فنن بامرأة موظفًا آلية المقابلة ليصور وضاءتها في الليل فيقول [ وافر ]  ([20]) :

 أَلاَ إِنَّ شَمْسَ الأَرْضِ فِيمَــــا يُقَــــالُ لِي  *** تَمَشَّتْ عَلَى شَمْسٍ فَطُوبَى لَهَا طُوبَى

فَقُولِي لَهَــــا : يَــا شَمْسُ عَنِّي مَا الَّذِي  *** سَرَّكِ فِي قَتْــــلِي؟ أَمَــــا لَكِ مِــــنْ بُقْيَــــــا

وهو هنا يجمع بين الشمس الطبيعية التي تنير الأرض وعرفها بها ، فهي شمس الأرض ، والمحبوبة التي يصورها بشمسٍ دون أن يعرفها ، بيد أنه ربما حسد شمس الأرض بدعائه لها : فطوبى لها طوبى ؛ لأنها لامست جسد المحبوبة ـ شمس ـ بتمشيها عليها  ، ثم يحملها رسالته الاستفهامية المتعجبة تحسرًا ما الذي يسُرُّ هذه المحبوبة بقتله وحرمانه من الوصال ، أو بالدلال عليه ، والتصريح بالشمس وتكرارها في البيتين دال على مدى ارتباطه بها وشغفه بجمالها الذي استعار له الشمس بما لها من أثر على الموجودات ، إذ لاشك أن غيابها قد يتسبب بقتل النباتات ، ولعل هذا هو الرابط بين الشمسين  0 

ويبدو أنه كانت بين العباس بن الأحنف ومحبوبته معاتبات ومراسلات ، إذ يقول في ذلك [ طويل ] ([22]) بإشارة تعريفية لصاحبه ـ كما فعل العباس بن الأحنف ـ أو بغير إشارة تعريفية ، والتضمين على كلٍّ يشير إلى علاقات التأثير والتأثر بين الشعراء السابقين واللاحقين الذين لم يكونوا لينفصلوا من تراثهم الشعري  0

ويقدم المؤمل بن أميل المحاربي صورة للمحبوبة المتدللة بجمالها على من يحبها ، فيقول [ بسيط ] ([24]) :

هِيَ الشَّمْسُ إِلاَّ أَنَّهَـا تَسْحَرُ الْفَتَى *** وَلَــمْ أَرَ شَمْسًا قَبْلَهَــا تُحْسِنُ السِّحْرَا

رَمَتْ بِالْحَصَى يَـــوْمَ الْجِمَــارِ فَلَيْتَـهُ  *** بِـعَـيْـــــنِي وَإِنَّ اللهَ حَــــــــوَّلَــــهُ جَــــمْـــــــــــــرَا

فهو يبدأ بيتيه بهذا المركب الإسنادي المتكئ على تعريف طرفيْه ، إنتاجًا للحصر والقصر ، ثم يكرر المسند إليه في عجز البيت الأول تكرار ترديد حيث جعله نكرة للعموم والشمول مع تصدير مركبه الفعلي بدالة النفي التحويلي لم لإفادة الامتداد الزمني لدلالة النفي  بحيث يشمل الماضي والحاضر ، ويوقع النفي على معرفته شمسًا ـ المحبوبة ـ على العموم تحسن السحر ، ثم يأتي بالبيت الثاني مستدعيًا فيه السياق القدسي حيث شعيرة من شعائر الحج وهي رمي الجمار التي يتمنى لو كانت المرأة المحبوبة ترميها بعينيه ، وقد حولها الله تعالى جمرًا يحرق العينين ويذهب بنورهما 0 

وعندما يشكو مسلم بن الوليد حب محبوبته إليها ، ترد عليه بابتسامة جعلته يتساءل قائلاً [ طويل ] ([26]) :

وَقَـــد كَــــانَت تُجيبُ إِذا كَتَبنا *** فَيــــا سَـــقْـيًـــا وَرَعْيًـــــــــا لِلمُجيبِ

تَخُطُّ كِتـــــابَهـــــــا بِــــقَـــضيبِ رَنــــدٍ *** وَمِســــكٍ كَـالمِدادِ عَلى القَضيبِ

كِتـــــابٌ فـــيــــهِ كَم وَإِلى وَما إِن *** أُقَـــــضّي مِــــــن رَســائِلِهــــا عَجَبيبِ

نُعَمّيهِ عَلى ذي الجَهلِ عَمداً *** وَلا يَخفى عَـــــــلى الفَطِنِ اللَبيبِ

وَقَـــــد قــــــالَت لِـــبـــيــضٍ آنِساتٍ *** يَصِـــدنَ قُــــلـــــوبَ شُبّانٍ وَشيبِ

أَنا الشَمسُ المُضيئَةُ حينَ تَبدو *** وَلَكِن لَستُ أُعرَفُ بِالمَغيبِ

بَــــرانـــي اللَهُ رَبّـــــــي إِذ بَـــــــــرانــــــي *** مَـــبَـــــــرَّأَةً سَــــلِـــمتُ مِـــــنَ العُيوبِ

فَــلَـــــو كَـــلَّمْـتُ إِنْسَـــاناً مَريضاً *** لَما اِحتاجَ المَريضُ إِلى الطَبيبِ

وَخَــــــــلـــقي مِــسكَــةٌ عُجِنَت بِبانٍ *** فَلَستُ أُريـــــدُ طِـيـبًــا غَـيْـــرَ طيبِي

وَأَعقِـــــدُ مِئزَري عَقــــــداً ضَعيفــــاً *** عَــــلى دِعصٍ رُكـــــامٍ مِــــــــن كَثيبِ

وَجِـــــلـدي لَـــو يَـــــدِبُّ عَـلَــيهِ ذَرٌّ *** لَأَدمى الــــــذَرُّ جِــــلدي بِالدَبيبِ

وَريــقـــــي مـــــــاءُ غــــادِيَـــةٍ بِـشَهـــدٍ *** فَما أَشهى مِـــنَ الشَهدِ المَشوبِ

إن هذه الحوارية الكتابية التي يقدمها الشاعر لمحبوبته التي كتبتْ إليه تجيبه بنبرة متدللة مفتخرة بنفسها تبدؤها بهذه الذاتية النرجسية في الصورة التشبيهية : أنا الشمس المتكئة على تعريف الطرفين لإفادة القصر والحصر ، فهي الشمس والشمس هي والجامع بينهما هو الوضاءة المصحوبة بجمال دائم يعطيها الأفضلية على الشمس التي تغيب في حين أنها لا تُغرف بالمغيب 0

وبعد هذه الذاتية المزهوة بنفسها تجيء ستة أبيات تسيطر فيها ضمائر التكلم على الخطاب المباهي بالذات وأوصافها التي يُجملها قولها : سلمتُ من العيوب ، على أن الأوصاف التي تسردها في الأبيات الأخيرة تؤكد الوصف الجمالي الذي بدأته الصورة التشبيهية أنا الشمس ، وتتبدى هذه الجمالية في نعومة الجلد الذي يُدميه النمل ـ الذَّرُّ ـ إذا مرّ عليه ، وفي ريقهاالعذب الذي يشبه ماء السحابة المصحوبة بالشهد  0

لقد عُني الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي بجمال جسد المرأة جملة وتفصيلاً ، وقد استمر هذا الأمر حتى العصر العباسي ؛ فإنه بالرغم من الثقافة الدينية الإسلامية التي طهرت النفوس وانتشلتها من غياهب المادية والشهوانية ، وارتقت بالمرأة وسمت بإنسانيتها ، ودعت إلى صيانتها وإعفافها ، فإن الشعراء لم يتغافلوا عن غرائزهم البشرية ، وإحساسهم بالجمال ، وراحوا يصورون المرأة في السياق الغزلي تصويرًا حسيًّا لم يخلُ من نظرة جمالية خالصة كهذه الصورة التي يقدمها بشار بن برد في عَبْدَة [ بسيط ] ([28]) :

قَــــامَــــــتْ لِــــتَـــرْكَــب فَارْتَجَّتْ رَوَادِفُهَــــــــا  ***  فِـي لِـــيـنِ غُــصْــنٍ مِــنَ الرَّيْـحَـــانِ مُـنْـــآدِ

كَـــأَنَّــمَــــــــــــــا خُـــلِقَــتْ فِي قِـشْرِ لُـــؤْلُــــــــؤَةٍ  ***  فَـكُــــــلُّ أَكْـــنَــــافِـــهَــــــا وَجْـــــــــــهٌ بِمِرْصَادِ

فَقُلْتُ:شَمْسُ الضُّحَى فِي مِـــرْطِ جَارِيَة  ***  يَـا مَــــنْ رَأى الشمسَ في مِـــرطٍ وأْبْــرَادِ

تُلقَى بِتسَبِيحَة ٍ مِــــنْ حُــــسْنِ مَـــــا خُلِقَتْ  ***  وَتَـــسْــتَـــفِــــــزُّ حَـــــشَـى الـــــرَّائِــــي بِــإرْعَــــــادِ

كَــــــأنَّ عَــيْــنِي تَــــرَاهَــــــا فِي مَـجَـــاسِدِهَـــــا    ***  إِذَا رَأَيْــــتُ رُسُـــــــــــومَ الــدَّارِ وَالنَّــــــــــــادِي

بَيْضَـــــــــاءُ كَــــالــــــدُّرَّة ِ الــــــزَّهْـــــــــــرَاءِ غُــرَّتُهَــا   ***  تَـصْـطَـــاد عَـيْنًـــــا ولا تُــرْجَـى لِـمُـصْـطَــادِ

كَـــأَنَّـهَـــا لا تـــــــرَى جِــســمًــــــا تَـخَـــــوَّنَــــــهُ     ***   بَيْـــنَ الْـحَــبِيبِ وَلَمْ تَــشْـــعُــــرْ بِـإسْـهَـــــادِ

أَصُــــــومُ يَـــوْمًـــــــا فَــــأَرْقَـــــــا مِـــــنْ تَـذكُّرِهَــــا   ***    وَلا أُصَــــلِّـي الضُّـــــحَى إِلاَّ بِــــــعَـــــــــــــــــــــدَّادِ

ويبدو من الأبيات أن الشاعر الكفيف قد استشعر بمخيلته الشعرية ، أو بمساعدة خارجية حركة المرأة المتأهبة للرحيل ، فلفت نظره تلك الجمالية المسيطرة على جسد المرأة كله بدءًا من ردفيها اللينين لين الغصن المتمايل ، ومرورًا بكل جزء من جسدها الذي بدا جميلاً وضاءً كوجهها ، وكأن كل جزء من جسدها وجه كأنه مصوغ من لؤلؤة بيضاء مشعة كأنها شمس الضحى ، وهنا يتعجب من المرأة/الشمس التي ترتدي ثياب جارية مستفزة مصطادة عواطف الناظر إليها الذي يسبح الله من حُسْن خَلْقها ، وهو الشاعر الكفيف تراها عينه في ثيابها ـ مجاسدها ـ بيضاء كأنها الدرة البيضاء ـ الزهراء ـ وهنا نلحظ التشبيه بالدرة في البياض ، وهو تشبيه يستدعي الصورة الجاهلية للمرأة وما يحوطها من هالة أسطورية ، إلى جانب ما ارتبط بالدرة من دلالات الطهارة والنقاء ، والعفة والصون 0  

وقد تضمنت الصورة هنا كذلك تشبيه المرأة ـ سلمى ـ بشمس الضحى ، أو بالشمس ، وما الدرة البيضاء إلا " صورة مصغرة للشمس المشعة البراقة " ([30]) :

إِنَّ الْمَنَــــــــازِلَ سَــــــاوَرَتْهَــــــا فُـــرْقَـــــةٌ  ***  أَخْــــلَتْ مِــنَ الآرَامِ كُـــــــلَّ كِــنَــاسِ

مِنْ كُلِّ ضَاحِكَةِ التَّرَائِبِ أُرْهِفَتْ  ***  إِرْهَــــافَ خُــــــوطِ الْـبَـــانَــةِ الْـمَيَّــاسِ

بَـدْرٌ أَطَــاعَتْ فِيــكَ بَــادِرَةَ النَّـــــوَى  ***  وَلَعًــا وَشَمْسٌ أُولِـــعَــتْ بِشِمَــــاسِ

بِكْــرٌ إِذَا ابْتَسَمَتْ أَرَاكَ وَمِيضُهَــــا  ***  نَــــوْرَ الأَقَــــاحِي فِي ثَـــرًى مِيعَــاسِ

حيث نجده يرسم للمرأة صورة جمالية موظفًا ما في الطبيعة من عناصر باعثة على الإحساس بالجمال لجمالها ـ العناصر ـ بطبيعتها : الآرام وهي أولاد الظباء – خوط البانة المياس – بدر – شمس – نَوْر الأقاحي ، وهو بهذه الصورة لم ينفصل من التراث الشعري الجاهلي ؛ ذلك أن تشبيه النساء بالآرام من التشبيهات الشعرية الشائعة في الشعر الجاهلي وقد أفسحت المجال الواسع أمام أصحاب الاتجاه الأسطوري ؛ ليسبحوا في بحار الأساطير ويُسقطوها على نماذج كثيرة من الشعر الجاهلي ، والشعر الإسلامي ؛ حيث ربطوا بين المرأة والمهاة والظباء/الآرام والغزلان والحصان ، و " جعلوها رموزًا مقدسة للأم/الشمس ولهذا أُظْهِرَت هذه الرموز متجاورة عند تصوير الشعراء للمرأة فيما وصل إلينا من شعر مرحلة ما قبل الإسلام " ([32])  0

ومخالفتنا هنا مبنية على هذا الشعر العباسي الذي نثبته هنا من مثل قول أبي تمام السابق ، فهو يجمع فيه عناصر تلك اللوحة الجاهلية حيث تشبيه المرأة بالآرام/ الظباء ، وتشبيهها بالبدر في الوضاءة ، وتصويرها بالشمس في النصاعة ، وإن أضفى أبو تمام على تلك الصورة الشمسية دلالة الإباء والامتناع في كلمة شِماس من خلال المرجعية اللغوية لدالة شمس ، فالمرأة التي يصفها بهذه الأوصاف الجمالية بادرت الفراق ، وشُغِفَتْ بالإباء والامتناع 0على أن هذه النظرة الجمالية التي يقدمها أبو تمام للمرأة من خلال إدخال الشمس في ذلك السياق الجمالي ، نجدها حاضرة وبقوة في السياقات المختلفة للشاعر ، فهو يقول [ طويل ] ([34]) والتناص الاستدعائي هنا يشير إلى قصة رد الشمس التي رُدَّت لأبي تمام عندما لحق بركب المرتحلين ليلاً 0  ويقول أبو الحسن التهامي [ طويل ] ([36]) :

قَـــضَيْتُ ذَلِكَ مِــــــنْ قَــــــــوْلِــي إِلَى فُـــنُــــقٍ *** تَــــلْــهُــــــو بِــمُــكْتَـــحِــلٍ طَـــوْرًا وَمُـخْـتَــضِبِ

حَـــــوْرَاءُ فِـــي وَطَــــفٍ قَــــنْــــوَاءُ فِــي ذَلَــــفٍ *** لَــفَّـــــاءُ فِـي هَـــيَـــفٍ عَـــجْـــــزَاءُ فِــي قَــبَـــبِ

كَالشَّمْسِ مَا سَفَرَتْ وَالْبَدْر مَا انْتَقَبَتْ *** نَــاهِــــيـــكَ مِـــنْ مُــسْــفِــرٍ حُــسْنًـــا وَمُنْتَقِبِ

إن الصورة التي يقدمها ابن الرومي في هذه الأبيات صورة بصرية خالصة عمد فيها إلى رسم صورة جسدية للمرأة يغلب عليها الطابع الجمالي بدءًا من صغر السن المصحوب بنعومة الجسد / فُنُق ، ومرورًا بتلاعبها بصغار السن وكباره على حدٍّ سواء / مكتحل ، مختضب ، وكأنها بهاتين الصفتين قد أسرت الجميع ، ومرورًا بالوصف الأثير للعين في الشعر الجاهلي وهو الحَوَر  الذي لم يخلُ من تأويلات ميثودينة وميثولوجية يربطها البعض بالدلالة المعجمية للحَوَر الجامع بين شدة السواد وشدة البياض في العين ، ومن ثمة يكون لهذين اللونين في العين دلالة على " الأمومة في ثنائيتها الأسطورية الفريدة باعتبارها ربةً للحياة والموت الضدين اللذيْنِ أرَّقا الشاعر الجاهلي والكاهن الأمومي زمنًا طويلاً " ([38]) في حين عرَّج البعض على الأساطير المصرية القديمة وربط الحَوَر بعين حورس  وما ارتبط بها من دلالات التعظيم والتقديس([40]) وربما لكل ذلك كانت الصورة الأخيرة التي يقدمها للمرأة عندما يشبهها إذا ما أزالت النقاب عن وجهها بالشمس ، وبالقمر عندما تستر وجهها بالنقاب ، وفي كلا الحالين يتعجب من حُسنها وجمالها 0 وعندما يُطلب إليه وصف وحيد المغنية ، يقول [ خفيف ] ([42]) :

لَــيَــــالِي لُــــبَــيْــنَى بَـــدْرُ لَــــيْـــلِي إِذَا دَجَــــا ***  وَشَمْسُ نَهَـــــارِي الْمُسْفِرِ الْمُتَوَضِّـحِ

وَمَـا الْوَرْدُ يَجْلُوهُ الضُّحَى فِي غُصُونِهِ *** بِأَحْسَنَ مِــــنْ خَـــــدَّيْ لُـبَـيْـنَى وَأَمْـلَــــحِ

وهذا الجمع بين البدر والشمس وما يستدعيانه من المفارقة الدلالية بين المصراعين ، إنما يرسم صورة الوضاءة والجمال لهذه المرأة التي تضيء ليله بجمالها ، كما أنها الشمس التي تضيء نهاره ، ثم يؤكد هذه الوضاءة من خلال تفوق جمال خديْها ووضاءتهما على الورد الذي يجلو الضحى جماله ووضاءته 0 ويتغزل في جمال الوجه والعين والجيد ولين القدّ ، فيقول [ خفيف ] ([44]) وقد جعل في هذا السرب من النساء شموسًا وجعلهن يمشين مشيًا وئيدًا ، والصورة هنا مركبة متداخلة حيث يشبه النساء بالظباء ـ السرب ـ ثم يستعير لهن الشموس تصريحًا بهن وهن يتدافعن ويبدين حاجاتهن ويكشفن وجوههن ، ويتبسمن فتبدو أسنانهن كأنها الأقحوان ، ولوضاءة وجوههن أثر في الليل ، إذ بدا الليل بوجوههن كأن به عمودًا من نور يضيئ ظلمته 0 

وما ذاك العمود المضيء إلا امرأة استدعى لها الحقل الحيواني مرة أخرى ؛ إذ كنى عنها بالمهاة في البياض لملاءمة عمود النور الذي أضاء الليل ، ومن ثمة يكون المراد باستدعاء المهاة هنا هو الإشارة إلى وضاءة وجه المرأة ؛ لأن تشبيه المرأة بالمهاة في البياض ، إنما يعني به البلّورة أو الدرة ([46]) ولكنه جعلها لينة ، ومن ثمة يكون الوجه الجامع بين استدعاء تلك المفردة المنتمية إلى حقليْ الحيوان والنبات هو اللين وهو مما سناسب الوصف الجماليَّ الذي يقدمه لتلك المرأة 0  

ويقدم ابن مناذر [ت198ه]  للمرأة صورة مطولة في داليته التي بلغت عدة أبياتها واحدًا وأربعين وأربعمائة بيت ، يقول منها [ رمل ] ([48]) :

جَـــــاءَتْ تُـرَفِّــــــلُ فِي ثِيَـــــــــابٍ *** إِسْـــكَـــنْــدَرَانِـيَّــــةٍ حِـسَــــــــــــانِ

شَمْسٌ عَلَى وَجْهِهَـا شُمُـوسٌ *** تَـــزُفُّــهَـــــــــا أَشْـمُـسٌ ثَــــمَـــــــانِ

فمما يؤكد بها جماليتها وصفه مشيتها المتبخترة ـ دلالة العُجْب بالنفس ـ في ثياب هي ذاتها جميلة بنسبتها إلى مدينة الإسكندرية ، ثك زاد هذا التأكيد في البيت الثاني باستدعاء دالّة شمس ثلاث مرات منكرة تعظيمًا ، بدأها بهذا الوصف الإسنادي المحذوف المسند ـ المبتدأ ـ إذ تقدير الكلام : هي شمس ، فتكون الصورة تشبيهية مركزة على المشبه به ؛ لأنه المراد من الوصف ، وقد يكون المذكر حالاً ويكون التقدير جاءت كشمس ، وفي كلا الأمرين تأكيد على الوصف الجمالي المشبه للمرأة بالشمس ، ولأنها كذلك فإن من تداعيات التبخبتُر والعُجب بالنفس أن يكون لها شُموس أو جِماحٌ ، فهي لا تُطالع الرجال ولا تُطمعهم تدليلاً بجمالها ، ومن تداعيات التبختر والعُجْبِ كذلك أن الفتيات اللاتي يصحبنها هنَّ شموس ـ شبيهات بالشمس ـ كذلك 0    ويقول ماني الموسوس [ت 245ه] في صورة للمرأة [مديد] ([50]) يقول منها ربيعة الرقي [ وافر ] ([52]) :

وَلَيْلَتُنَا طَابَتْ وَطَابَ بِهَا الْهَوَى *** إِلَى أَنْ بَدَا أَوْ كَـادَ يَنْسَلِخُ الْفَجْـرُ

فَمَــــا عَـــدَلَتْهَــــا لَيْـلَةٌ ذَاتُ نِعْمَــــةٍ *** وَلاَ لَيْـلَةُ الأَضْحَى وَلاَ لَيْلَةُ الْفِطْــرِ

إِذَا هِيَ قِيسَتْ بِالَّليَالِي وَجَدْتُهَــا *** يَكَــادُ يُسَاوِي فَضْلُهَـا لَيْلَةَ الْقَــدْرِ

تَمَلَّيْتُهَـــــا حَتَّى الصَّبَـــــــاحِ بِــطَفْـــلَةٍ *** مُصَوَّرَةٍ أَبْهَى مِنَ الشَّمْسِ وَالْـبَــدْرِ

قَتُــــولٌ بِـعَيْنَيْهَــا خَــــلُــوبٌ بِــدَلِّـهَــا *** سَــلُوبٌ لأَلْبَابِ الرِّجَالِ وَمَا تَدْرِي

إن الجمالية التي ترتسم خطوطها في تلك الليلة إنما تستمد عناصرها من الأجواء المقدسة التي ترسم ملامحها عند القِرَانِ بينهما ، فطيبها وطيب الهوى استمر حتى انسلاخ الفجر بما يوحي به من الأجواء الروحية البهيجة التي تبعثها صلاة الفجر في النفس ، وهو ما يبدو من التعبير بالفجر دون النهار ، وانسياقًا مع هذه الأجواء المقدسة استدعاء ليلة الفطر والأضحى وليلة القدر ، أما المرأة التي قضى معها تلك الليلة ، فإنها طفلة رخصة ناعمة ، والنعومة دليل ثراء وراحة وهي صفة موروثة عن الجاهليين ، وصورتها أبهى من الشمس والبدر ، والتعبير بالبهاء هنا يستدعي ما ختم به الأبيات السابقة تلك الأوصاف المبالغ فيها من قتل للرجال بعينيها وخَلْبٍ لهم بدلالها ، وسلْبٍ لألبابهم دون دراية منها أنها تفعل بهم ذلك الفعل ، وكل ذلك من الصور الموروثة عن الشعراء السابقين جاهليين وإسلاميين وأمويين ، مما يعني استمرار الأثر الفني للشعراء السابقين في إبداعات اللاحقين من الشعراء 0

وفي صورة جامعة بين الطبيعة الصامتة والحية حيث الشمس والظبي في سياق الغزل يقول خالد بن يزيد الكاتب [ منسرح ] ([54]) يقدم صورة رقيقة من الغزل العفيف الذي لا يكاد يلامس حدود البنية العميقة للوصف الحسي ومكتفيًا في الآن عينِه بالدلالة السطحية بصدقها وشفافيتها على ما يلقاه من صد الحبيب ودلاله وتيهه من عذاب لا يملك إزاءه سوى الإغراء بجمالية الوصف أو المغازلة : ظبي سبحان من صاغ حُسنه فيه ، ووجنتين وضيئتين كأنما تستمد الشمس وضاءتها منهما ؛ لأنها تطلع منهما ، كما يشبهه الدر فوق الجبين ، وحُسن الوجه باستدعاء صيغة التفضيل النافية لمساواته فيه ، كل هذا الإغراء الغزلي يقدمه مستعطفًا أن تجود عليه بقبلة منه يهنئه بها ، والمراد يهنئ نفسه أو قلبه في انزياح أسلوبي تغيب فيه النفس حيث الأنا ويحل محله الـ"هو " إمعانًا في إظهار الصدق الفني والعاطفي الذي يميز شاعرًا قصر شعره على الغزل  0

وفي سياق الهجر والبين يستدعي المعري أثره على المرأة التي يبدو أنها بادلته التأثر بالفراق ، فأخذت في البكاء ، يقول المعري [ طويل ] ([56]) فهو يصور المرأة وقد طار لُبُّها من أثر الفراق فنسيت المكان الذي تعلق فيه عقدها وكان بكاؤها الشبيه بالدر ـ العقد ـ قد جرى وسال على وجنتها ، فكأنه لشبهه بالدر العقدُ ، وهي صورة ربما بدا فيها بعض الإغراب الناتج عن التداخل التشبيهي الذي يبدو على هذا النحو :

حَيِّ مِـــنْ أَجْـــلِ أَهْــلِـهِـنَّ الـــدِّيَــارَا *** وَابْــكِ هِـــنْدًا لاَ النُّؤْيَ وَالأَحْجَارَا

هِيَ قَالَتْ لَمَّا رَأَتْ شَيْبَ رَأْسِي *** وَأَرَادَتْ تَـــــنَـــــــــكُّـــــــــــــــــــرًا وَازْوِرَارَا

أَنَـــــا بَــدْرٌ وَقَدْ بَدَا الصُّبْحُ فِي رَأْ *** سِــــــكَ وَالصُّـــبْحُ يَطْــرُدُ الأَقْمَــــــارَا

لَسْتِ بَـــدْرًا وَإِنَّمَــــا أَنْــتِ شَمْسٌ *** لاَ تُـــرَى فِي الدُّجَى وَتَبْدُو نَهَــــارَا

إن المفارقة الضدية بين دلالة البدر على صِغَر المرأة ، ودلالة الشيب على كِبَر الرجل وضعفه ربما قد تكشف ما يذهب إليه البعض من سوء علاقة المعري بالنساء وسوء ظنه بهنّ ، واعتقاده نُدرة العفة فيهن ([62]) ويمكن ترتيب الحجج التي وردت في بيت أبي العلاء على النحو التالي :

-        أنا بدرٌ

-        الشيب صبحٌ

-        الصبح يطرد البدر ـ الأقمار ـ

وهذه المقدمات الثلاث تؤدي إلى نتيجة واحدة في نظر المرأة وهي انفصام علاقتها بالشاعر الذي ينقض هذه النتيجة على النحو التالي :

-        أنتِ لستِ بدرًا

-        أنتِ شمسٌ

-        الشيب كالصبح حيث الشمس

والنتيجة التي تؤدي إليها هذه المقدمات في نظر الشاعر هي : استمرار علاقته بتلك المرأة  0  

ويرسم المتنبي صورة بصرية للمرأة التي سفكت دمه بجمال جفونها موظفًا الأسلوب الحواري لاستكمال عناصر الصورة ، فيقول [ كامل ] ([64]) رغم ما يرتبط بهذا اللون الذي هو لون الشمس من دلالات مفارقة لما سبق من مثل دلالته على البهجة والسرور والخير والسعادة ؛ لارتباطه بالشمس والذهب والنحاس والطيب وبعض الثمار ([66])  0

كما يمكننا إدراك القيمة الجمالية للون الأصفر باعتباره لون الشمس التي استخدمت في الصورة التشبيهية مشبَّهًا به للمرأة في السياق الغزلي دلالة على الجمال والإشراق والوضاءة التي يستدعيها البيت الأخير عندما يشبه هذه المرأة بقرن الشمس ، وهو لونها الأبيض أول ما تطلع في الصباح ؛ ليتساوق ذلك مع وصفها بأنها قمر الدجى ذو اللون الأبيض الوضاح ؛ ليكون هذا الوصف تأكيدًا لاستدعاء لون البياض في البيت الثالث مقرونًا بصفة الحياء عند هذه المرأة 0

والحياء يرتبط بالطهر والعفاف ، وهما مما وعاه حقل اللون الأبيض من مصاحبات دلالية ، فقد ارتبط " عند معظم الشعوب ـ بما فيهم العرب ـ بالطهر والنقاء  " ([68]) وعليه كان اللون الأبيض من الألوان المفضلة عند الشعراء العرب في سياق الغزل بالمرأة  وكذلك الأمر عند المتنبي 0 وإذا كانت الصورة السابقة قد وظفت دالتين صريحتين للون ، فإنها قد اتكأت كذلك على بعض الدوال اللغوية المرتبطة باللون من مثل دمي التي تستدعي اللون الأحمر ، صحيح أن سفك الدماء يستدعي بعض الدلالات السلبية كالقتل والموت ، بيد أن استخدامه هنا رامز إلى ما تركه جمال المرأة من أثر عليه ؛ ولعله بذلك يستدعي معركة طرفها الأول العاشق الغزِل وهو الشاعر ، والطرف الثاني المرأة بجفونها التي سفكت دمه ، في دلالة واضحة على المعاناة التي كابدها الشاعر في حبه لهذه المرأة ، وسفك دمائه دليله على عشقه ، ومن ثمة لا نستغرب ارتباط اللون الأحمر بالعاطفة ([70])  :

انْظُــرْ إِلَى شَـمْسِ الْقُصُورِ وَبَدْرِهَا *** وَإِلَى خُــــزَامَـــاهَــــا وَبَـهْـجَـةِ زَهْــرِهَـــــا

لَمْ تَبْلُ عَيْنُكَ أَبْيَضًا مِـنْ أَسْــــوَدٍ *** جَمَعَ الْجَمَالَ كَوَجْهِهَا فِي شَعْرِهَا

فهو يجمع لمحبوبته كل العناصر المنتجة للجمال البشري بدءًا من تشبيهها بالشمس التي تضيء القصور وتزينها ، ومرورًا بالبدر المضاف إلى القصور استدعاءً لصفة الوضاءة المقترنة بالبياض في النهار حيث الشمس ، وفي الليل حيث البدر المشبه به الأثير لجمال المرأة في الشعرية العربية القديمة والحديثة على حد سواء ، ومرورًا بالنبات حيث الخزامى ذو الزهر البهيج الأطيب ، وانتهاءً بالتصريح بانتفاء الجمال في غير وجهها الجامع بين جمالية التضاد في بياض الوجه وسواد الشَّعر  0 ويقول ابن المعتز في وصف محبوبته [ كامل ] ([72]) :

يَــا طَــلْعَةَ الشَّمْسِ لَمَّــا صَــادَفَتْ حُــــلَلاً *** مِــنَ السَّحَابِ عَــلَى أَرْضٍ مِــنَ الزَّهَـــرِ

بَـدَرْتِ وَالْبَدْرُ نَحْــوَ الشَّمْسِ فِي خَطَـــرٍ *** فَــجِــئْــتِ قَـــامِـــــرَةً يَــــا طَــلْــعَــةَ الْــقَــمَـــرِ

إن الصورة التي يقدمها الشاعر لهذه المرأة جاءت محملة بدلالات علوية من الوضاءة والإشراق وهو ما يستدعي بياض لون الوجه ، ومن ثمة رأيناه يستدعي لها الشمس أول طلوعها ، بل لعله لم يفرق بينها وبين الشمس ؛ لأنه جعل ظهورها كطلوع الشمس ، ومن ثمة ناداها بهذا النداء ـ طلعة الشمس ـ ولعله بهذا النداء يُثير فكرة تقديس الشمس عند الجاهليين ، ذلك التقديس الذي بدا من شغلها مساحة كبيرة من الصور الشعرية الجاهلية المرتبطة بالمرأة في سياق الغزل وبالرجل في سياق المدح ، وكلاهما يشير إلى معاني الوضاءة والإشراق والبياض إلى جانب الصفاء وطهارة العِرْض 0

 وإمعانًا في استدعاء صفة البياض في المرأة نجده يستدعي القمر وما ارتبط به من دوال لغوية في البيت الثاني مثل : بدرتْ – البدر – قامرة – يا طلعة القمر الذي استدعى في التفسير الميثولوجي فكرة القداسة والألوهية التي تشير إلى عبادته الشائعة في العصور القديمة عند معظم الشعوب ومنها العرب الذين " زعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة ، وإليه تدبير هذا العالم السفلي ، ومن شريعة عبادتهم أنهم اتخذوا له صنمًا على شكل عجل ، وبيدِ الصنم جوهرة ، يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أيامًا معلومة من كل شهر " ([74]) وفي سنن الترمذي " كأن الشمس تجري في وجهه " ([76]) والمراد هنا الجمع بين تمام البياض وتمام حُسْن الشَّعر ، ومما يؤكد ذلك أيضًا ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أن " البياض شطر الحُسن " ([78]) وظل الأمر على هذه الحال في العصور العربية المختلفة ؛ لأن الطبيعة البشرية لا تختلف من زمن إلى آخر ، ومن مكان لآخر إلا في طبيعة الرؤية وفنية التعبير وجمالية التصوير ، وأن " شعور الإنسان بالجمال جزء من الطبيعة الإنسانية التي جُبِلَ عليها منذ أن عرف الحياة ، وقد طبعت عليه نفسه " ([80]) :

سَقَتْنِي بِهَــــا الْــقُـطْــرُبُّــلِيَّ مَــلِــيحَــــــةٌ *** عَلَى كَـاذِبٍ مِـنْ وَعْدِهَا ضَوْءُ صَـادِقِ

سُهَــادٌ لأَجْفَـــانٍ وَشَمْـسٌ لِـنَـاظِـــــرٍ *** وَسُـقْــمٌ لأَبْـــدَانٍ وَمِــسْـــكٌ لِــنَـــــاشِــــــــــقِ

والتماح التداخل بين حقلَيْ المرأة والخمر هنا لا يقف عند حد النص الشعري وحده من حيث تقدير المبتدأ المحذوف قبل السهاد في صدر البيت الثاني : هل يُقال : هو فيكون الضمير عائدًا على الشراب /القطربلي ، وهل يُقال : هي ، فيكون الضمير عائدًا على المليحة التي تأخذ الأفضلية باعتبار قرب المرجعية في عُرْف النحاة ، وإنما يتعدى التداخل علائق النص إلى التلقي حيث وجدنا شراح الديوان مختلفين حول المراد من الأوصاف التي يحملها البيت الثاني وارتباطها بالشراب ، أو بالمليحة ([82]) :

أَيْـــــنَ الــتَّـــــــوَرُّعُ مِــــــنْ قَـلْبٍ يَــهِـيــــــــمُ إِلَى *** حَـــــانَــاتِ قُــــــــــطْــرَبُّــــلِّ وَالْــعُــــودِ وَالـــنَّـــــايِ

وَصَـــــــــوْتِ فَـــــتَّـــــــانَـــــةِ الــــتَّـــغْــرِيـــدِ نَـاظِـــرَةٍ *** بِــعَــيْـــــنِ ظَــــبْــــيٍ تُــــــرِيــــدُ الـــــنَّــــــوْمَ حَــــــوْرَاءِ

جَرَّتْ ذُيُولَ الثِّيَابِ الْبِيضِ حِينَ مَشَتْ *** كَـــــالــشَّــمْــــسِ مُـــسْـــبِـــلَـــةً أَذْيَـــــــــــالَ لأْلاءِ

وهو في هذه الصورة التي تدور عناصرها في حانة الخمر ، يصدرها بالاستفهام النافي لتورح هذا القلب المشتاق إلى الحانة ، وتلك الساقية المغنية بصوت فتَّان كأنه تغريد حمامة شاجية تنظر بعين كعين الظبي البيضاء التي تأخر بها السهر وأرادت النوم ، ولأنها بيضاء بدتْ عندما ذهبت إلى النوم كأنها الشمس أسبلت ذيول ضيائها  0

ويجمع أبو فراس بين المرأة والشمس في قوله مصورًا ما أصابه من الصبابة والكآبة بسبب هذه المرأة / الغزالة الشمسية فيقول [ كامل ] (


[2] - امرؤ القيس : ديوانه – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – ط5/1990م – دار المعارف – القاهرة – ص 51  0

[4] - انظر قصة المنافرة في : الشعر والشعراء لابن قتيبة – تحقيق أحمد محمد شاكر – ط2/1982م – دار المعارف – القاهرة  1/218- 219  0

[6] - انظر في خبر ذلك : الأصفهاني : الأغاني – تحقيق د/ إحسان عباس ورفيقيه ط3/2008م دار صادر – بيروت – 8/ 185 – 188  0

[8] - ابن رشيق : العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده – تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد – ط5/1981م – دار الجيل – بيروت – 2/ 117  0

[10] - ابن منظور : لسان العرب – دار صادر – بيروت – 6/113 مادة شمس 0

[12] - انظر كتابنا : الشمس في الشعر الأموي بين الرؤية الميثولوجية والدينية ، وهو الكتاب الحائز على المركز الثاني في مسابقة اتحاد الأدباء الدولي الثانية 2017م/2018م - ص 22- 33  0

[14] - أبو نواس : ديوانه – تحقيق غريغور شولر – دار النشر فرانتر شتاينر – فيسبادن 1982م- جمعية المستشرقين الألمان - المطبعة الكاثوليكية – 4/30- 31  0 

[16] - ديوان أبي نواس 4/82 ، الحَدَقُ واحدته حدقة والمراد العيون أو الأبصار – السرَق : الحرير 0

[18] - ديوان أبي نواس 4/82- 83  0

[20] - ابن الأحنف :ديوانه ـ شرح وتحقيق د/عاتكة الحزرجي ـ دار الكتب المصرية 1954م ـ ص2 0

[22] - العسكري : كتاب الصناعتين – تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم – ط1/1952م – دار إحياء الكتب العربية – القاهرة – ص 36  0

[24] - المؤمل بن أميل المحاربي – حياته وما تبقى من شعره ـ السابق ـ ص 202  0

[26] - مسلم بن الوليد – شرح ديوانه ـ السابق ـ ص 191- 192  0

[28] - ديوان بشار بن برد 2/318- 319  0

[30] - أبو تمام : ديوانه بشرح التبريزي – 2/243- 244   0

[32] - السابق ص 171 – 172  0

[34] - ابن حجر العسقلاني : فتح الباري بشرح صحيح البخاري – رقّم كتبه وأبوابه وأحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي ، وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب – المكتبة السلفية – 1379ه – 6/221 وقد ذكرنا حديث الشمس بالتفصيل في مبحث المدخ والاعتذار من هذا الكتاب 0

[36] - ابن الرومي : ديوانه – تحقيق د/ حسين نصار – ط3/2003م – دار الكتب والوثائق القومية – مصر – 1/ 191  0

[38] - دعاء هشام بكر اشتية : العين في الشعر الجاهلي – دراسة ميثولوجية – رسالة ماجستير – جامعة النجاح – نابلس – فلسطين 2014م – ص 101  0

[40] - انظر : علي البطل : الصورة في الشعر العربي ـ سابق ـ ص 58  0

[42] - البحتري : ديوانه – تحقيق وتعليق وشرح حسن كامل الصيرفي – ط3/1977م – دار المعارف – القاهرة – 1/450  0

[44] - ابن منظور : لسان العرب 1/464 – مادة سرب  0

[46] - ابن منظور : لسان العرب 1/ 680 مادة قضب  0

[48] - شعر ابن مناذر ـ السابق ـ ص 186  0

[50] - ابن المعتز : طبقات الشعراء – تحقيق عبد الستار أحمد فراج – ط3/1976م – دار المعارف – القاهرة – ص 162  0

[52] - د/ رشدي علي حسن : شعراء عباسيون - إعداد وجمع وتحقيق – ط1/2010م – دار يافا العلمية للنشر والتوزيع – عَمَّان – الأردن – ص 122  0

[54] - الشابشتي : الديارات ـ تحقيق د/ كوركيس عواد ـ ط2/1966م ـ مطبعة المعارف ـ بغداد ص 15

[56] - المعري : سقط الزند - السابق 3/1043  0

[58] - د/ عبد الفتاح صالح نافع : الصورة في شعر بشار بن برد –– دار الفكر للنشر والتوزيع – عَمّان1983م  – ص 100 0

[60] - السابق 2/652  0

[62] - د/ سامية الدريدي : الحجاج في الشعر العربي – بنيته وأساليبه – ط2/2011م – عالم الكتب الحديث – إربد – الأردن – ص339 – نقلا عن : المنطق الحديث لـ جان بلاز قريز 0

[64] - د/ أحمد مختار عمر : اللغة واللون ط2/1997م – عالم الكتب القاهرة – ص 74  0

[66] - أحمد أمين : فيض الخاطر – ط3/1953م – مكتبة النهضة المصرية – 1/322  0

[68] - د/ محمد عبد المطلب : شاعرية الألوان عند امرئ القيس – مجلة فصول مج5-ع2 – يناير/مارس 1985م – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ص 59  0

[70] - ديك الجن : ديوانه – تحقيق وتكملة د/أحمد مطلوب وعبد الله الجبوري – دار الثقافة – بيروت – 1964م – ص 168  0

[72] - أبو فراس الحمداني : ديوانه – جمع ونشر وتعليق سامي الدهان – بيروت 1944م – 2/224

[74] - ابن حجر العسقلاني : فتح الباري بشرح صحيح البخاري – سابق – 6/565  0

[76] - ابن القيم : روضة المحبين ونزهة المشتاقين – تحقيق محمد عزير شمس – ط1/1431ه – دار عالم الفوائد – مكة المكرمة – ص 339  0

[78] - د/ نوري حمودي القيسي: دراسات في الشعر الجاهلي – ط1/1972م – مطبعة الإرشاد – بغداد - ص163   0

[80] - المتنبي : ديوانه بشرح العكبري ـ سابق ـ 2/318  0

[82] - شعر ابن المعتز ـ سابق ـ 3/3  0

[83] - ديوان أبي فراس الحمداني ـ سابق ـ 2/99  0

وسوم: العدد 785