مهمّة الشاعر
عرف الناس الأستاذ سيد قطب، مفكّرًا، وداعيةً، ومجاهدًا، وشهيدًا، وعرفه النُقادّ ودارسو الأدب العربي، مثقفًا، وأديبًا، وناقدًا فذًا، منذ بداياته في هذا الكتاب، الذي هو محاضرة نقديّة – كان يُبشّر بميلاد ناقد عربي أصيل، بل ربّما صار إمامًا في النقد، ولكنه لم يواصل طريقه النقديّ، وانحاز إلى طريق الجهاد والاستشهاد الذي قاده إلى الفردوس الأعلى.
هذه المحاضرة النقديّة، قدّمها لشُداةِ الشعر، وهو طالب في سنته الثالثة، وقد وعد في مقدّمتها أن تكون هي –المحاضرة- مقدّمة لكتاب كبير في الموضوع نفسه: مهمة الشاعر في الحياة. وربما وضع المعالم والصّور لمهمات عظام، للإنسان الجادّ الذي يسعى ليكون شيئًا مذكورًا في هذه الحياة، شاعرًا كان أو مفكّرًا، أو أديبًا، أو ناقدًا، أو فنانًا، أو إنسانًا صالحًا وذا مشروع في الحياة.
وقارئ سيد قطب، يلاحظ الجديّة في بداياته فيما كتب وعمل، يتسامى عن السّفاسف والموبقات، ويبدو كأنه صاحب مشروع لم يتوضّح لديهِ بعد، ثمّ ما لبثَ أن وجد مُبتغاه في المشروع الإخوانيّ فأسرع إليه، وصار من مفكّريه ومن قادته الكبار العاملين على تحقيقه، إلى أن لقي ربّه شهيدًا من سادة الشهداء، بعد أن خطَّ لإخوانه وللناس جميعًا، سبيل الرشاد إلى المنهج الربانيّ الذي ينهض بالأمة، لتكون كما كانت من قبل: خيرَ أمّةٍ أخرجتْ للنّاس.
في كتاباته المُبكّرة إرهاصات لما انتهى إليه في زمن النضج والرشد، فلم يكن اندماجه في العمل الدعويّ قفزة أو طفرة، بل كان يصعد السّلم في تُوءدةٍ وتأنٍّ، حتى إذا اقتنع، أحرق السّفن التي قد تعيقه أو تثبّطه، وتركَ وراءه مشاريعه الأدبيّة، والنّقديّة التي ارتقى فيها مرتقى لفت إليه أنظار الكبار، ومنهم أستاذه مهدي علّام، الذي قدَّمه للمثقفين في هذه المحاضرة، ثم في هذا الكتاب، وتوقع له مستقبلًا أدبيًا ونقديًا باهرًا، فقد وجد في سيّد، مثقّفًا وناقدًا ثقفًا لقفًا، مبدعًا في شعرهِ ونثره.
في هذه المحاضرة، مهّد سيّد لمدرسةٍ فكريّة وأدبيّةٍ ونقديّة، أتبعها بعددٍ من الدراسات النقدية، ثمّ الكتب النقديّة، مثل كتابه: "كتب وشخصيّات" ونقد كتاب: "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين، ثم كتابه البديع: "النقد الأدبي: أصولهُ ومناهجه" ودعا فيه إلى نظريةٍ جديدة في النقد، هي نظرية الصور والظلال، كما بسط القول في مناهج النقد الأدبي الأربعة، وهي: المنهج الفنيّ، والمنهج التاريخيّ، والمنهج النفسيّ، والمنهج التكامليّ الذي وقفَ عنده، وكأنه يؤثرهُ على ما سواه من تلك المناهج.
وكان في كتابيهِ الرائعين: "التصوير الفني في القرآن"، و"مشاهد القيامة في القرآن"، مبدعًا ومجدّدًا ورائدًا، ولقي الكتابان حفاوة في الأوساط الأدبية والعلمية والدينية، والكتابان في هذا السياق النقدي الذي لم يُسبق إليه.
كان سيد –كدأبِ الروّاد- يضع الأسس والأطر، ويأتي بالنماذج، ثم يترك للدارسين، شرح تلك الأسس والمتون، ليُبدِئُوا ويُعيدوا فيها، حتى تكتمل النظرية، كنظرية الأدب الإسلامي التي تلقّفها أخوهُ تلميذه وشارح أفكاره، الأستاذ الكبير محمد قطب –رحمه الله رحمة واسعة- وأبدع في صياغتها في كتابه البديع: "منهج الفن الإسلامي".
في هذه المحاضرة/ الكتاب، ترك لمن بعده أن يدرس ويطوّر ويُنضج ما هُدي إليه ذلك الشاب العشريني سيد قطب، وما كتبه بعد ذلك في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، فقد يُثري الدارسون تلك الكتابات –كما فعل محمد قطب، ونجيب الكيلاني–، وقد يصلون إلى ما كان يعتمل ويثور في نفس المفكر المبتكر الثائر سيد، فتأتي النظرية كاملة متكاملة بين النظريات النقدية والأدبية في المذاهب والأجناس الأدبية الأخرى.. تأتي النظرية النقدية منسجمة مع فكره الدعوي، وأظنهما يتعانقان، فإنّ سيدًا، كما كان ثوريًا وإصلاحيًا فيما قدَّم من شعر وقصة ورواية ونقد، ودراسات إسلامية حتى بداية الخمسينيات -التصور الفني، مشاهد القيامة، العدالة الاجتماعية، معركة الإسلام والرأسمالية، السلام العالمي والإسلام، دراسات إسلامية- كان ثوريًا وإصلاحيًا بل مجاهدًا في ميادين الدعوة والسياسة والأدب.
سيد هو سيد، في أدبه، وفكره، ونقده الأدبي والاجتماعي، والسياسي، وثورته على الظلم والظالمين، وعلى الفاسدين والمفسدين، وعلى الخونة السائرين أو السادرين في ركائب الاستعمار والاستغراب والتخريب..
لنقرأ معًا هذه الكلمات من هذه المحاضرة/ الكتاب:
"وقد لاحظتم في كل النماذج التي اخترناها لشعرائنا الناشئين لمحة من البؤس: الصامت أو الصارخ، ومن الشكوى والتخبط والحيرة، وبعضكم يَعجبُ لهذه الظاهرة المتشائمة الشاكية المضطربة، ولكن ذلك في نظرنا دليل صدق هؤلاء الشعراء وسلامة فطرتهم. فهم صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة، فترة الانتقال والحيرة والاصطدام، في جميع النواحي السياسة والاقتصادية والاجتماعية، الاصطدام الذي تُخيبُ فيه الآمال، ثم تبدأ في الانتعاش، ثم تصطدم من جديد! مُدُّوا بأبصاركم في كل نواحي الحياة المصرية، ألا ترونَ التصادم بين القوى الناشئة، والظروف المحيطة بها، التي تُناوئها مناوأةً قاسية؟ ألا تسمعون الصيحات داوية بالألم والاستنكار من كل جانب؟ فعلامَ إذن لا يكون كذلك الشعر؟ وهو أدقّ مُعبِّرٍ عن الإحساس الدّفين".
علامَ يُغرِّدُ الشعراء بأناشيد الفرح والمراح؟ كيف تدُبُّ روح النشاط الطروب في الفنون؟
أنْتصرنا في موقعة حربية على جيوش الأعداء؟ فيغني الجيش والشعب أناشيد الظفر والسرور؟
أَفتحنا في العالم فتحًا جديدًا؟ لا بل، أَحصَلنا على استقلالنا المغصوب؟ أَنتنفس بحريةٍ في أي جوٍّ من الأجواء؟
أَلنا عظمةٌ صناعية على الأقل نتغنى بآثارها؟
ألنا عظمة علمية نُمتَدحُ بمزاياها؟.. ودَعْ ذلك كله.. أفلنا فقط سياسة تعليمية رشيدة! وهذا أبسط الشؤون؟!
كل ما في البلد جدير بالشكوى، وكل ما فيها يلذع بالألم، وإن التألم والشَّكاةَ، لدليلُ عدم الرّضا، ودليل السعي لتغيير هذه الحال، وتلك عدتنا للمستقبل، وأملنا الوحيد للإصلاح المنشود.
ولو أن هذه الشكوى الدائبة صمتت اليوم أو انقلبت إلى لهوٍ ومراح، لكان ذلك دليلًا على الموت والاضمحلال. لأن الأمة التي لا تشكو من مثل هذه الحالة، أمةٌ لا تحس، فهي أمة في طريقها إلى الفناء الرهيب، وإن الذين يهزلون اليوم أو يغنّون ويمرحون، هم أحد فريقين: فريق أنانيٌّ مجرم لا يُعنى بهذه الأمّة، ولا يحفلُ بآلامها؛ لأنه في ظلِّ نعمة، ولا علاقة له بالآخرين، وفريق ميّتُ الوجدان، ذليل الكرامة، لا تنبض به الحياة إلا كالدّواب والجراثيم!
نصحت مرّةً -1972م- الشاعرة المبدعة: نازك الملائكة –رحمها الله رحمةً واسعة- أن تكتب ملحمة عن سيد، ووعدتها أن أزوِّدها بالمعلومات، وتُقدّرون، وتضحك الأقدار، فقد داهمنا حكم حافظ أسد، والاعتقال، والعمل تحت الأرض، ثمّ "السياحة" في بلاد الله الواسعة منذ ما يزيد عن خمسٍ وثلاثين سنة، مليئة بالمواجع، وداهمها المرض، ثم الانتقال إلى رحاب الله الرحمن الرحيم، وكان أمرُ الله مفعولًا.. وكان أمرُ الله قدرًا مقدورًا.
***
سيّد.. أيّها السيّد قطب..
هنيئًا لكَ ما قدّمتَ، وما استقبلت، وما أراكَ ولا أتخيلك، إلا مع أبطال الإسلام في الفراديس العلا، جزاء وفاقًا لجهادك المبرور، واستشهادك في سبيل الله، ومن أجل دينه الذي بشّرتَ أن المستقبل له.. لهذا الدين العظيم.. وها هي ذي بشائر النصر بالتمكين لهذا الدين تلوح في الأفق، وتتلامح بين ركام الكوارث والمصائب والمآسي في بلاد الشّام والعراق، وفي كنانة الله في أرضه، في مصر.. في شرق الأرض وغربها، في شمالها وجنوبها، تستهدف أتباع هذا الدين وجُنده الميامين، تستهدف هذا الدّين.. ولكن هيهات أن يتحقق لهم ما يتمنّون، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 795