وظيفة الأدب بين حرية الأديب وحرية المتلقي
1- عندما نناقش قضية كهذه فإننا نجد أن وظيفة الأدب والاستفادة منه هي وظيفة تالية، يكشفها الناس في إنتاج الأديب بعد أن تخرج نصوصه من ملكيته، وتصبح ملكاً عاماً لأمته، وعندما يجد الناس في أدبه ما يفيدهم يوظفونه في مناهج التربية والتعليم والإعلام والسياسة والثقافة والفكر والفنون: كالغناء والإنشاد والمسرح والتمثيل والقراءة من النقاد والمتذوقين والعلماء والباحثين).
وهذا يدل على أن المجتمع لا يملك أن يتدخل في حرية الأديب قبل ميلاد النص، وقبل وصوله إليهم، ولكن قد يتأثر الأديب بثقافة مجتمعه، ومنذ طفولته وشبابه ومراحل حياته، فيمتص منها ما ينفعه، وما يقتنع به بحرية تامة في مراحل التكوين الأولى لشخصيته.
وعلينا أن نتذكر أن التأثير متبادل بين المجتمع الأديب، باختيار تام من الطرفين، فهو يتأثر بهم وهم يتأثرون به، وتتم قراءة النص في فترات متباعدة وأزمان مترامية، ومن الأمثلة التاريخية التي تؤكد ما ذهبنا إليه أن وظيفة الأدب يصنعها المجتمع، وهي وظيفة منفصلة عن مراحل الإبداع. ما حدث في تاريخنا الثقافي والنقدي وهي أن العرب اكتشفوا جمال الأدب وتأثيره فوظفوا هذا الجمال في حياتهم ومجالس سمرهم، واستعملوه في تهذيب الأبناء وصقل ترتبيهم حين حرضوا على الاهتمام به وحفظه لما وجدوا فيه من عظيم الفائدة في التهذيب وتعلم الفصاحة وتذوق الجمال وتدريب الملكة اللغوية عند الأبناء.
أما في عصرنا وأيامنا فقد تعمقت علاقة المجتمع مع الأديب، فليس من الضروري أن تكون مقاييس (القارئ أو الجمهور) للأدب هي نفس مقاييس (الأديب المنتج)، فقد يمجد الجمهور الأدبي (القارئ والمستمع والمستمتع والباحث والناقد والعالم والمتعلم والمنشد والمغني والأدباء ومؤسسات المجتمع) القيم والقواسم الثقافية المشتركة مع المبدع، وكثير من الناس يهتم لقيمة الجمال ويتأثر بها، وبقدرة المبدع على الإيصال، ولكنها ليست القيمة الوحيدة في العمل الفني، وقد يمجد القارئ قيمة البطولة والثبات أو الدعوة إلى العدل، وقد يمجد القارئ الصدق والالتزام ومقارنه التجربة بينه وبين المبدع، وقد يهتم هذا القارئ بكشف أغوار النفس أو جدوى الحياة أو الجرأة، وقد يهتم القارئ بشعر الحكمة والوصف والتجارب لأنه يقدر الخبرة وينتفع منها، أو الاهتمام بشعراء الدعوة الإسلامية لما في إنتاجهم من تفاعل مع دين الأمة، والبعض يرى في الشعر والقصة والخطابة والمسرحية وبقية الفنون الأدبية أنها تربي على الفصاحة والرجولة وتنضج الحكمة وتنمي العقل وتصقل الطباع وتهذبها، مما يؤدي إلى صناعة الذوق العام للأمة، فيصنع لها سلوكا عاما في تذوق الجمال وترشيده والرقي به، ومعرفة حدوده مع القبح.
2- حالة التفاعل ما بين المنتج والمتلقي (تحليل وتفسير) :
ومن الأمور التي تساعد على تفسير حالة التفاعل أو الانقطاع بين الأديب والجمهور المتلقي من أبناء أمته، أمور وعوامل كثيرة، هي التي تجعل هذه الوشائج والعلاقة تتصل أو تنفصل، من خلال معرفة المشترك بين (الأديب) والمتلقي (الجمهور) التي تكشف المؤثر المهم من هذه العوامل المشتركة بين الطرفين وهي: (اللغة والذوق الجمالي المشترك والثقافة المشتركة، والانتماء لحضارة واحدة، وللتاريخ المشترك والجغرافيا المشتركة (الوطن) والدين الذي يصنع الفهم المشترك والمصالح المشتركة والإنسانية المشتركة)، فإذا خرج المبدع على المشترك الذي يوحده مع أبناء أمته، وبدأ بتدمير هذه العلاقة معناه أنه بدأ يفقد علاقته مع المتلقي تدريجيا بحدود ما دمر أو خرج عنه، وهكذا فإن الأديب إذا ركب رأسه واختار حريته ومنافعه على حساب الجوامع والقواسم المشتركة مع أبناء أمته، فأظن أن قد انبتّ بينهم حبل التفاهم، ولم يعد لهم حاجة في أدبه، لأنهم لا يجدون فيه ما يتناسب مع ذوقهم أو ينفعهم، ولم تعد تهمهم فصاحته وتجديده ومواهبه وعبقريته، لأنه وظفها في هجاء الأمة وعقائدها وثقافتها، فكيف يطلب من الأمة أن تقدر موهبته، وهو الذي فضل حريته وفرديته تحت مسمى (حرية الأديب) في التطور وربما الانحراف عن طريق الأمة وانتماءاتها، وبذلك ظهرت إشكالية طارئة تسمى (الحريات المتضاربة) حرية الأديب تقابلها حرية المجتمع (القارئ والجمهور) الذي يملك أن يهمله، ويغرقه في بحر النسيان، ( ولهذا يلجأ هذا النوع من الأدباء إلى تلقي العون والدعم من الجهات، التي أغوتهم وحرضتهم ضد الأمة، لمحاولة حمايتهم من الإهمال عن طريق العرض الإعلامي المتكرر ومنح الجوائز وحشد الجمهور والتضخيم الإعلامي لفرض هذه الأسماء على الجمهور، وهي وسيلة رخيصة وقد تكرر الأسماء على مسامع الناس، وقد يقع الناس في تكرار هذه الأسماء لكثرة ما سمعوها،ولكنهم في الحقيقة لا يحفظون شيئا من نصوصها) وهو جمهور مؤقت صناعي وليس طبيعياً.
في نهاية هذه الفقرة نذكر المبدع والمتذوق أن الحرية المطلقة لأي من الطرفين لا معنى لها، لأنها تعني الانفلات، ولا يكون التوازن الطبيعي إلا أن يدرك الجميع قيمة القواسم المشتركة، التي تجمع بين (المبدع والمتذوق) لحفظ حبل التفاهم والتواصل بينهما دون الوقوع في العبث والحماقات الجاهلة التي تهدد الأمة بالتفسخ والتشظي في ثقافتها.
3- شبهات مستوردة يثيرها العلمانيون: يزعم العلمانيون أن الالتزام يضعف الأدب، لأن الالتزام في زعمهم يقوم على القيود، والأدب يقوم على الحرية التي ترفض القيود، وهذا في زعمهم يؤدي إلى تشتيت طاقة الأديب ويضيع جهده في المواءمة بين (الحرية والقيود) فيؤدي إلى ضعف الإبداع، وهو زعم غير مبرر وغير مقنع، لأن الالتزام قناعة قائمة على الحب والاختيار والحرية وتمتد في تربية الأديب منذ طفولته، وحتى نضجه وبإرادته واختياره، وهو الذي يصنع شروط الالتزام الذي يراه مناسباً لفهمه ووعيه وحبه للقضايا التي يستمتع في الدفاع عنها بقناعة وارتياح.
كما أن خلو ذهن الأديب من أي التزام أمر شبه مستحيل، وكل أديب له فكر يؤمن به في تفسيره للحياة، وهذا الفكر يشارك في صناعة أدبه ويؤثر فيه، ومن فرضيات هذا الالتزام أن يكون إما ( دينيا أو فلسفيا أو صوفيا أو عبثيا أو خرافيا أو فنيا). ولكن ما يقصد إليه النقد العلماني من الأيدلوجية هو (الدين) بينما نراه يتسامح مع العقيدة والإيدلوجيا إذا كانت فلسفية أو صوفيه أو فنية أو عبثية. وهنا يتبادر إلى ذهننا هذا السؤال وهو: لماذا يوافق العقل العلماني على نسبة الأدب إلى اللغة وإلى الزمان والعصر والمكان والفلسفة، ولكنه يهاجم نسبة الأدب إلى الدين؟
وأظن أن هذا الموقف السلبي من الدين في النقد العلماني يعود لحالة العداء التاريخي بين العلمانية والكنيسة، وهنا نعود إلى سؤال آخر: وما ذنب الإسلام في هذا الأمر؟!
فالإنسان لا يمكن أن يعيش بدون عقيدة ولكن (العلمانية) تمارس عملية فصل الأدب عن الدين والقيم قسرا وإكراها ،بعد أن سرقت سوط الكنيسة وحاربت استبدادها،عادت العلمانية لتمارس دور الكنيسة المسيحية بكنيسة جديدة هي ( كنيسة العلمانية اللادينية) التي تحكم العالم بسوط العلمانية، وحتمياتها التي تفرضها على الآخرين، فمن الذي فوض العلمانية هذه السلطة العمياء الظالمة التي لا تلزم أحدا بالخضوع لها؟
وهنا نكرر ما قلناه في صفحات سابقة، وهو أن الأديب لا يعيش هم الالتزام أثناء كتابة النص، وإنما يعيش هموم المبدع، أما الالتزام فهو عملية سابقة واختيار مبكر قام على الحب والإختيار.
مع علمنا أن الأديب الفذ هو الذي يمتص أطياف الأيدلوجيا بأنواعها: ( الدينية أو الفلسفية أو الصوفية أو الثقافية أو الخرافية أو الفنية (المذهب الفني) ويهضمها ويدخلها ويضعها ذائبة سائغة في كيان النص، ولا يلصقها على سطح النص بطريقة فجة، وأنها عملية هضم فني، وتمثيل لهذه الأيدلوجيات تدخل في تطعيم النص من خلال الأساليب الذكية الجميلة، التي يمتاز بها الأدب على غيره والأنشطة التي يمارسها العقل البشري تماما مثلما فعل الشاعر الإنجليزي أليوت في قصيدته (الأرض الخراب) وكذالك في قصائد ونصوص الشاعر الباكستاني محمد إقبال الذي أدخل المشاعر الإسلامية إلى عمق النص بقوة واقتدار والأمثلة كثيرة ولا حصر لها حيث أدخلت الأيدلوجيا (الدين) إلى عمق النص، تشارك في كيانه وتكوينه، ولم تلتصق على جسد النص كما يحصل في النصوص الرديئة.
ونلاحظ أن العلمانية تطالب بعدم محاسبة الأديب على مضمون النص والاكتفاء بمحاسبته على مشروعه الجمالي فقط، وإهمال المضمون، وهذا طلب غير عاقل، لأن النص المتوازن ينجح في البناء الفني ويتوازن مع المضامين الراقية، وهذه الدعوة إلى عدم محاسبة الأديب على مضامينه، أظن أنها دعوة إلى التهرب من الالتزام ومن المحاسبة، ليعود نموذج الأديب الذي يوظف الجمال الأدبي في خدمة الأهواء والباطل، تحت مسمى الحرية التي لا يحسن كثير من الأدباء معرفة حدودها في ثقافة أقوامهم رغم كثرة المزاعم التي تدعي الحرص على المصلحة العامة عند كثير منهم ، فالأدب الصادق هو الذي يجذب قلوب الناس بقدرته الحرة على عرض النص عرضاً جمالياً فنياً ، بعيدا عن الضخ الإعلامي والدعاية المضلله للرأي العام ،التي يصنعها أصحاب المشاريع السياسية المشبوهة لحماية مصالحهم ويستثمرون فيها الأدب لأغراض سياسية انتهازية ، وليس بهدف رفع ذائقة الجمهور التي لا يقوم بها إلا الأدباء الصادقون الذين يخرجون من عمق الأمة ويحملون همومها ومعاناتها ، وانظر إلى ما تشير إليه هذه الأبيات من تلك الأحوال :
* وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
إذا اشتبكت دموع في عيون تبين من بكى ممن تباكا
* لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.
وسوم: العدد 795