بَيْتُ الْقَصِيدَةِ وَقَصِيدَةُ الْبَيْتِ
لما نُقد على بَشار بن بُردٍ مرةً بعضُ شعره قال: إِنَّ لِيَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَصِيدَةٍ، لَعَنَهَا اللهُ، وَلَعَنَ قَائِلَهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كلٍّ مِنْهَا بَيْتٌ فَرْدٌ!
يدفع عن شعره باثني عشر ألف بيت فَرْد (متفرد الجودة [لا يوازيه في قصيدته بيت جيد غيره]، متفرد الإنشاد [يُفرد من قصيدته ليُروى في المجالس وحده])، هو الذي كان قديما يسمى "بيت القصيدة"، وكأن ليس فيها سواه! ثم صار اسمه هذا حديثا، من أحسن الكنايات عن خُلاصة المراد!
لم يكن يميز "بيت القصيدة" هذا، إلا خَناذِيذُ الشعراء -وما أقلَّهم!- الذين جمعوا علم الشعر إلى فنه، مثلما فعل الفرزدق الذي أُنشِدَ مرةً معلقةَ لَبيد بن ربيعة "عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا"، فلما بلغ الإنشادُ قولَه:
وَجَلَا السُّيُولُ عَنِ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلَامُهَا
سَجَدَ؛ فأَنكرَ عليه مَنْ بالمجلس؛ فقال:
مَا لَكُمْ! أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَأَنَا أَعْرِفُ سَجَدَاتِ الشِّعْرِ، وَهَذَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ!
وسجدات القرآن بضعة عشر موضعا من كتاب الحق -سبحانه، وتعالى!- في كل منها كلمة من السجود، ينبغي للقارئ إذا قرأها أن يسجد، عرفها علماءُ القرآن، ونَبَّهوا على كلٍّ منها بخط من فوقها -وهكذا كانوا يخطّون من فوق، لا كما صرنا نخطّ من تحت! وقد أدركت محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا رحمه الله وطيب ثراه، لا يخط عند التنبيه إلا من فوق!- فتكون "سجدات الشعر" التي عرفها الفرزدق وسمى بعضها، هي تلك الأبيات الأفراد في قصائدها، التي تستحق بجودتها أن ينبهر بها من عرفها ويخضع لها!
وما أكثر تأملتُ قول لبيد -رضي الله عنه!- هذا الذي سجد له الفرزدق -غفر الله له!- فأَكْبَرْتُه إذ وجدته يهطل فيه المطر وتتدفق سيوله حتى تعمَّ الطلولَ (جمع الطَّلل عند الكثرة، لا كالأطلال عند القلة)، عموم خير وبركة، لا عموم نسف وخسف؛ فلا تغادرها حتى تكون قد كنستها ومسحتها ولمَّعتها، مثلما يمر النُّساخ بأقلامهم على حروف كلمات الكتب المنطمسة، فتعود كما كانت أولَ كتابتها!
وعلى أن معلقة لبيد أحبُّ المعلقات كلها إليّ، جرى بيتها ذلك الفرد، مجرى بيت امرئ القيس (كبيرهم الذي علمهم السحر)، بمعلقته الفاخرة:
كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ
الذي شبه فيه الجبل في أول المطر عليه بشيخ قبيلة متزمل بكساء مخطط!
تلك أبيات القصائد التي كان شعراء العرب يتفاخرون بها عند أنفسهم ويتفاضلون عند غيرهم، حتى أظلَّنا زمانٌ تنازع فيه مُتَثَقِّفُونَا أطرافًا مِن كلامِ بعضِ العجم في كلامِ بعضٍ، ضَرَبوا بها الطَّبْلَ، وتنافسوا طوالَ النصف الأول من القرن الميلادي العشرين في النعي بأبيات القصائد على شعراء العرب دلالتَها على تفكك القصيدة العربية القديمة، ثم رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنهم هم الظالمون، ولكن بعد أن وقفوا مِن كلامِ بعضِ العجم في كلامِ بعضٍ كذلك، على ضد ما وقفوا عليه منه قبلئذ؛ فاستفزوا خليفة التليسي الحَبر الليبيّ الجليل إلى وضع كتابه "قصيدة البيت الواحد"، عام 1983، الذي راجع فيهم كبار القصائد العربية، واستخلص منها أفراد أبياتها؛ فأوردها وحدها، تنبيهًا على ظاهرة انحصار مقدار الشعر الحقيقي، التي يشترك فيها شعراء العالم جميعا، وأن ليس بِدْعًا فيها ما كان من شعراء العرب، غير سفاهة السفهاء بهم وغفلة الغافلين عنهم!
ثم بعد ثلاثين عاما (2010)، وضع علي أحمد سعيد أدونيس كتابه "ديوان البيت الواحد"، الذي أراد به إكمال "ديوان الشعر العربي"، الذي جمع مختاراته من قبل في أربعة أجزاء، ليطلع متلقو الشعر من أحوال الشاعر العربي على حال الوَمْض الإبداعي بعدما اطلعوا على حال السُّطوع، ولم يشر إلى كتاب التليسي، مع اشتمال كتابه على ما لم أحصه مما اشتمل عليه كتاب التليسي، من مثل قول امرئ القيس:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ
-وإن رواه التليسي:
أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ زَائِرًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ-
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
تُخَيِّرُنِي الْجِنُّ أَشْعَارَهَا فَمَا شِئْتُ مِنْ شِعْرِهِنَّ اصْطَفَيْتُ
...، ...، ...!
ولعل الغزي محق فيما أخذه على أدونيس، ولكن أهم من ذلك عندي أن كلا التليسي وأدونيس قد ألْبَسا على متلقِّي هذا الأبيات الأواحد، ما كان منها واحدا في أصله ليس معه غيره بما كان أحد أبيات قصيدةٍ أُفْرِدَ منها؛ فإنه إذا استقامت لأولهما تسميتهما (قصيدة البيت)، لم تستقم للآخر غير تسمية القدماء "بيت القصيدة"!
وسوم: العدد 801