"القوقعة" .. المعنى والمبنى
"القوقعة" .. المعنى والمبنى
الرواية وفضاءات الإبداع
يوسف يوسف
الروائي هو الآخر كمثل بقية الأدباء فاعل اجتماعي ، أو هكذا ينبغي أن يكون ، وذلك لكي يصح القول فيه بأنه لسان عصره ، أو حجة زمانه ، الذي وضع الدلالة بين أيدينا إلى منزلته التي احتلها في كل من الأدب والحياة على حد سواء. وأما لماذا استخدام هذه الصيغة من اللفظ التي تدل على الحتمية التي تصل إلى القدرية حتى، فذلك لأنه كانسان حاله كمثل حال الآخرين ممن يعيشون حوله ، يتعرض إلى ما يتعرضون إليه من الضغوط وعلاقات القوة والسيطرة التي تفرض إرادة التغيير شكل الصراع معها ودرجته . قد يكون هذا واحد من الأسباب التي جعلتني أواصل قراءة هذه الرواية الطويلة نسبيا( 383صفحة) ، لكنه ليس الوحيد قطعا. ولقد سألت نفسي بمجرد أن انتهيت من قراءة الرواية في وقت قصير نسبيا : ماذا فيها من المبنى والمعنى مما يمسك بالتلابيب ، فلم تضعها جانبا وبقيت مستلقيا على ظهرك ساعات ، أو قاعدا فوق كرسي ، تقرأ وتقرأ ، بدون أن تشعر بالملل والكلل، وأنت تلتهم الكلمات التهاما ، وبالذات في صفحات الرواية الأخيرة التي تكون قد وصلت فيها إلى الذروة ، وهي تحقق اصطدام الذات مع نفسها ، قبل أن ترسم شكل اصطدامها بالآخر الذي هو السجان في هذه الرواية التي تحمل اسم "القوقعة"؟(*) .
ثم : لماذا " القوقعة" وليس غيرها من المفردات استخدمها الكاتب ليحدد بها اسم الرواية ؟ وقبل معرفة الجواب لا بدّ من الاشارة إلى أن الرواية تسرد يوميات شاب عربي أنهى دراسته في باريس وقرر العودة إلى وطنه لأسباب في مقدمتها رغبته في العمل فيه وحبه له . يقول هذا الشاب لصديقته قبل مغادرته باريس " سوزان .. أنا أحب بلدي .. مدينتي .. أحب شوارعها وزواياها .. أحنّ إليها .. هذا أولا ، واما ثانيا فهو أنني أريد أن أكون مخرجا متميزا.. في رأسي الكثير من المشاريع والخطط. إن طموحي كبير . في فرنسا سوف أبقى غريبا . اعمل كأي لاجئ عندهم .. لا.. لا أريد .. في بلدي أنا صاحب حق .. وليس لأحد ميزة التفضل عليّ.. بقليل من الجهد أستطيع أن أثبت وجودي "(ص8). بيد أن أيا مما كان يفكر به هذا الشاب لم يحدث . وبدل أن يمارس عمله في الاخراج السينمائي ، فقد وجد نفسه في سجن صحراوي ، أغلب نزلائه من الاسلاميين الذين لا تربطه بهم أية علاقة ، وهو المسيحي الكاثوليكي الذي لا يعرف سببا لاعتقاله من المطار بمجرد نزوله من الطائرة التي حملته عائدا من
(2)
باريس . من هنا سنرى كبف يتحول الحيز المكاني الذي سيحتله في السجن إلى قوقعة، بعد أن وضع نفسه فيها مضطرا ، لأن هؤلاء الاسلاميين ، وبالذات المتشددين منهم ، كادوا يجهزون عليه في أكثر من مرة تحت ذريعة محاربة الكفر والكفار . لقد كان من الممكن أن يواصل حياته في السجن بدون أن يعلن عن مسيحيته ، لكنه حينما فعل ذلك، فإنما لأنه كان يظن بأنه ثمة خطأ ما قد حدث ، وأنه بسببه تم اعتقاله ، لذا فقد أعلن عن مسيحيته بهدف الخلاص ، ولكنه وجد نفسه في مأزق كبير، فرض عليه الانعزال عما حوله ، والعيش في قوقعة ، لإطفاء النار التي تتأجج في قلوب هؤلاء المتدينين ، الذين ظلوا ولفترة طويلة يعتقدون أنه جاسوس زرعته الدولة بينهم ، على الرغم من أنهم كانوا يشاهدون عذاباته التي لا تقل عن عذابات أي واحد منهم . ولأن القوقعة ليست مجرد شكل أو تكوين محدد ، فإن الروائي استطاع أن يقدم تجربة من الحياة، مليئة بالمرارة والحسرة ، وهو مما يجعلنا نقول بأنه استطاع تقديم مقاربة إبداعية إلى القوقعة من حيث أن الكائن الذي في داخلها وإن كنا لا نستطيع رؤيته ، إنما يقوم بممارسة الحياة ، وهذه هي حال بطل الرواية هو الآخر ، الذي ظل من خلال فتحة صغيرة في القوقعة التي اصطنعها لنفسه يراقب كمل ما يدور حوله ، سواء في داخل المهجع حيث يعيش مع السجناء الآخرين ، أو في خارجه ، في ساحات السجن ، حيث تتم عمليات القتل والاعدام شنقا ، وحيث في مقدوره رؤية جلسات التعذيب لآخرين سواه من نزلاء السجن الصحراوي حيث يمضي حياته. هنا نلاحظ أن الروائي مصطفى خليفة وهو يقدم تجربة في النضال والسجن ، استطاع أن يصور التحولات في حياة الشخصية الأساسية ، وكذلك في سواها من شخصيات الرواية ، وبالتالي فهو قد أجبرني أنا القارئ ما دمت بصدد البحث عن أسباب الجذب ، على التحول بدوري إلى كائن يشغل مخياله ، ويتجول في فضاءات المعنى ، ويستسلم ، بل وينسى نفسه ، ويقارنها بالبطل ، ومن هنا يتم الحديث عن التغيير ، ويتحقق للروائي الوصف الذي قلناه : إنه فاعل اجتماعي . ولقد صدق فرانسوا مورياك حينما قال في كتابه المهم "الروائي وشخوصه " : مثل (بفتح كل من الميم والثاء ورفع اللام) الفنان كمثل الطيور السارقة . كمثل العقاعق التي يقال أنها تلتقط في مناقيرها كل ما تجده يلمع على الأرض ، ثم تأخذه لتدسّه في أعشاشها .
الرواية في شكلها تبتعد عن التجريب . وهي أقرب ما تكون إلى النصوص التقليدية:بداية ، وسط ، ونهاية . وإذا ما وضعنا جانبا الانضباطية الصارمة بهذه الوحدات الثلاث ، فإن الروائي خليفة وبخاصة في الجانب الفكري من الرواية ، إنما يسعى إلى تثمين الحياة ، وتحرير المجتمع مما قد يؤثر سلبا في فعاليته في الواقع . إننا
(3)
أمام بطل يزرع الكاتب بواسطته مفهومات جديدة ، وهذا البطل في الصياغة التي نراها تتحرك أمامنا ، لا يكتفي بالتلصص ومراقبة الحراس وما يفعلونه بالسجناء الآخرين ، وإنما نراه يطيل النظر والتمعن في ذاته وبالدرجة نفسها التي يوليها لغيره . ومن هنا ارتحال الروائي عبر جغرافيات المعنى الذي سيتشكل منه الوعي الجماعي المقاوم ، وبما يؤكد تاريخية اللحظة – الزمن الذي يحيا فيه السجناء ، جميعهم وبلا استثناء . هنا قد نسأل : إذا كان المثقف النقدي ينفصل عن مختلف أشكال الانتماء المذهبي والأطر الأيديولوجية الدوغمائية ، فأين موقع الكاتب خليفة من هذا المثقف ؟ ونحن في اختيارنا هذا النوع من المثقف ، فإنما لاعتقادنا بأنه الأقدر من سواه على إنتاج الأحداث في الحياة . والحدث الذي نقصده هنا ، إنما هو الفعل الفريد في نوعه الذي يبتكر كما يقول محمد شوقي الزين في كتابه ( إزاحات فكرية) الفكرة وينسج القوة. ولقد أصاب الزين كبد الحقيقة عندما قال في انتقاده الواقع العربي : إننا بالعكس نحسن صناعة الواقعة في تدمير الذات بتمزيقها ونفيها ، أو تكبيلها بأسئلة الهوية التي هي في درجة قصوى من البؤس والهشاشة ، لأنها أسئلة تعيد تلقين البداهات وترسيخ المسلمات ( محمد شوقي الزين/ إزاحات فكرية/ منشورات الاختلاف 2008، ص13).
عندما أعلن الشاب العائد إلى بلده أنه مسيحي كاثوليكي ، لم يكن يخطر في ذهنه أن هذا الاعلان قد يسبب له عداوات أخرى ، ولربما قد يجرّ إليه القتل الذي يحاول الفرار منه . لقد فعل ذلك لأنه يسعى للمحافظة على حياته التي يرى أنها قد أصبحت في خطر، ولكن لأن السلطة السياسية القاهرة لا يهمها دين ، فإن الشاب يواجه ما يواجهه الاسلاميون المتشددون . وهنا لو افترضنا ان الرواية اختارت بطلها من هؤلاء المسلمين المتشددين وليس من المسيحيين كما هي الحال ، فإنها كانت ستفقد الكثير مما استطاع المؤلف تحقيقه ، وهو الذي يريد أن يقدم نفسه للقارئ كمثقف نقدي . أو في تعبير آخر ، فإن مسيحية الشاب التي لم تشفع له أمام السجان والأجهزة الأمنية ، سوف تتساوق من حيث الفعل المقاوم مع إسلام الشباب الآخرين حتى وإن كان هؤلاء الشباب هم الذين يملؤون السجن الصحراوي وسواه من السجون ، وهي غاية يهدف المؤلف من ورائها إلى تحريك الثوابت الراسخة والماهيات المتجذرة في عقول بقية السجناء ، وبالذات المتشددين منهم الذين يكفّرون(برفع الياء وتشديد الفاء مع كسرها ) سواهم من الناس . إنه لا يقول لهم أنهم يحملون أنساقا فكرية بالية ، او أنها انساق مخرومة ، ولكنه يوصلهم إلى هذه النتيجة ، بعد أن يكون قد وضع سجينه الشاب المسيحي اثني عشر عاما في السجن ، امضى غالبيتها في السجن الصحراوي في رفقتهم . ولكانه
(4)
أراد القول بأنه ليس ثمة هناك أيقونه مقدسة يجب التشبث بها والحكم من خلالها على الآخرين ، وإنما هناك الانتماء للمقاومة الذي يضعه فوق أي اعتبار آخر حتى لو كان هذا الاعتبار هو الديني الذي يؤمن بها كما نفهم من الرواية .
فرانسوا مورياك يرى بأن من بين اهم مهمات شخوص الرواية ، هي تلك التي تتمثل بكيفية جعل القارئ يكتشف نفسه . وقارئ هذه الرواية الذي يسعى إلى اكتشاف نفسه في واحدة من شخصياتها وأطروحتها الفكرية ، سوف يضع ذاته في المكانين معا : الأول الذي يكون فيه واحدا من السجناء المسلمين ، وما سيتبع ذلك من إجابة على السؤالين : كيف سأتصرف في السجن وهل سأمتلك القدرة على الصمود في وجه السجان ، وكيف سأتصرف مع السجين المسيحي الذي يشاطرني العذاب والمهجع معا: هل سأعاديه كما فعل البعض أم هل ستكون علاقتي به طبيعية ؟ وأما الثاني فإنه الذي يكون فيه في مكان المسيحي السجين الذي يرى أمامه كلا من السجان والاسلامي المتشدد ، كلاهما لا يحمل له الحب ولربما يريد قتله ، فماذا سيفعل ؟ وعند هذه الدرجة من إشغال التفكير ، تظهر لنا صورة ما قلناه حول تحول القارئ إلى كائن ذي مخيال واسع ، ينسى نفسه وهو يقرأ ، ويتقمص هذه الشخصية أو تلك .. إلخ مما يرتبط بالتماهي بين القارئ وأولئك الذين يسميهم مورياك أكباش الفداء – شخصيات الرواية ، أية رواية وليس رواية القوقعة وحدها .
بمعنى آخر فإنه وبسبب هذا التماهي الذي لا يعني قطعا الاذعان ، وإنما المواكبة ، فإن ايا من الشخصيات لن تكون الناطقة بأسمائنا ، وهي واحدة من الصفات الحميدة التي تحسب لصالح النص . نحن لا نتحدث عن جثث تنطرح على بطونها في الرواية ، وإنما عن شخصيات لها حيواتها الخاصة الممتلئة بالفعل، وهي في الوقت نفسه لا تجردنا من مشاعرنا التي نحملها في أعماقنا . وليس هذا القول مجرد افتراض نظري ، والملاجظ أنها شخصيات لها مهمات وظيفية في الحياة ، وعليها القيام بمهمات معينة ، تتحدد بالصمود ومقاومة الجلاد الذي يتجه هدفه نحو محاولة إفنائها وسحق كل ما فيها من أسباب المقاومة .
عندما رأى الشاب العائد إلى بلده القيود في حول معصميه ، أصبح من الواضح في عقل الروائي ، أن هذا الشاب إنما سيعيش زمنا تاريخيا بكل ما تتسع له التاريخانية . ولأنه في شأنه كمثل جميع حديثي العهد بالسجون أغلبهم يلاحقه الوهن في بداية دخول السجن ، فإنه أصبح في حاجة إلى تثويرات فكرية وسلوكية معا ، وهكذا إلى أن وجد نفسه وقد وضعه الكاتب في امتحان الذات أمام ذاتها وتاريخا ، وامام أغيارها كما يقول محمد شوقي الزين في بحثه عنمعنى الازاحة الفكرية ، وهم المسلمون المتشددون
(5)
والسجان على حد سواء .
باختصار فإن رواية ( القوقعة) تبعث القوة والحركة كلتيهما معا في شخصياتها وفي قرائها . وفيها لا ينسخ مصطفى خليفة واقعا حرفيا ، كما أنه لا يلغي الحقائق التي فيه ، وسوى هذا فإنه إنما يبدع كائنات وأشياء تؤلف جميعها مع بعضها ، عالما واسعا، حتى وإن تحدد هذا العالم بجدران السجن الضخمة ، في موقعه الصحراوي الذي يمكن أن ينعزل فيه غن غيره من الأمكنة ، والمخلوقات البشرية حتى .
القوقعة ( رواية )
المؤلف، مصطفى خليفة
الناشر / دار الآداب ، بيروت
الطبعة الثانية 2010