صدمة التلقي ومتواليات الحزن
(عفوا أيها القهر)
يوسف يوسف
لم أقرأ للكاتب ( حيدر قفّة) سوى مجموعته القصصية التي وقعت مؤخرا بين يدي :عفوا أيها القهر. وعلى الرغم من ترددي عموما في قراءة أي نص أدبي أجهل منزلة صاحبه الأدبية / إلا أن عنوان المجموعة أثارني أكثر مما أثارني اسم الكاتب الذي قلت أنني لم أقرأ له سابقا . وسبب الاثارة قيامه بالاعتذار للقهر ، وبما يكشف عن تراجيدية حياة هذا القاص ، الذي وجدت لديه حرصا شديدا على إنجاح صدمة التلقي بحسب مفهوم ( هانز روبرت يوس) ذلك الألماني الشهير الذي تحدث حول أفق الانتظار ونظرية التوصيل ، وكيفية كشف غموض الوجود بأكبر قدر من الفنية . بمعنى فإن ما لفت انتباهي إنما يرتبط بأفق الانتظار ذاته ، من حيث كونه الفترة الزمنية الواقعة بين البدء بالقراءة وبين الفهم واستيعاب أبعاد النص القصصي ، منت حيث اعتباره متواليات يسرد الكاتب فيها أشكال الحزن الذي يتسبب في القهر الذي يشعر به كمخلوق بشري سرقت منه الكثير من احتياجات الحياة التي في حالة فقدانها ستتحول الحياة إلى جحيم حقيقي لا يطاق .
وهذا القاص الذي يبدو متمكنا من صنعة القصة القصيرة ، وبمنأى عما قد يتصوره البعض رأيا انطباعيا ،استطاع تقديم قصص نبخسها حقها عند التقييم إذا قلنا بانها مجرد متواليات لفظية ، لا جمال فيها ولا فكر. والجميل في هذه القصص انها في مطابقتها مع شروط الصنعة ، لكل واحدة منها حجمها ووزنها الواضحين ، وفيها الناظم الدرامي الذي يتنامى ببراعة بالغة ، لدرجة أنها تضاهي تلك التي كتبها قاصون مرموقون في مراتبهم الأدبية التي وصل الواحد منهم إليها . وقصة ( إنهم يزرعون الحقد) واحدة من قصص يقدم القاص شخصياتها من خلال سلوكها ، مبتعدا في ذلك عن كل ما من شأنه التقليل من قيمتها الفنية كالمباشرة والسطحية والإخبار المجرد
( رجل يقوم من مقعده .. رجل آخر ينتهز الفرصة ليجلس .. ليريح ساقيه وقدميه من طول القيام .. امرأة تخرج ثديها لترضع طفلها .. العيون تدور في المحاجر تبحث عن لا شيء)(ص5).
وحيدر وبحسب ما يتوخاه النقاد يربط النص الذي يكتبه بأرضية اجتماعية . صحيح أنه بقلمه يكتب ، وأن العقل الذي في جمجمته هو من يحرك هذا القلم ويحدد له المسارات التي عليه سلوكها ، إلا أن القصة سابقة الذكر ، إنما يمكن النظر إليها باعتبارها بنية دلالية تم إنتاجها ضمن إطار اجتماعي أوسع مما هو عليه في حالة
(2)
الذات المنفردة التي تحرك القلم ، وهذا ما يقصده بعض النقاد ممن يقولون بأن النص الأدبي متوالية من القضايا ، وليس من الجمل أو الأقوال فقط ( بعض الوجوه التي نادوا على اصحابها تعود لتجلس في القاعة . الوجوه ازدادت اصفرارا وهما وصمتا ، إلا من تنهدات مكتومة ، وحركات عصبية في اليدين والرجلين . الاسنان تقضم الشفتين في عصبية ، اليدان تتحدثان حيدثا صامتا / حركات متوالية)(ص13-14) . إننا بصدد الحديث عن الكيفية التي يصور بها القاص جهنم ، التي يعيش فيها بطله عبد الله صابر ، والآخرون ممن التقى بهم في إحدى الدوائر الأمنية . يقول عبدالله صابر حينما يسأله السائق عن المكان الذي ينوي التوجه إليه : إلى جهنم ..
هنا وبمناسبة الحديث عن صدمة التلقي ، تحضر مقولة الشهير غوته ( المؤلف الذي تحتاج قراءته إلى معجم لا يساوي شيئا). ولربما يرى البعض أن خبرة القارئ لها قيمة كبيرة في ميزان الفهم والاستيعاب ، وأنها مما يقربه من النص ودواخله ، بالدرجة نفسها التي يكون قد اقترب بها من ظاهره ، إلا ان القاص الذي يحرص على الابتعاد عن الغموض ، ومثل ذلك عن المباشرة الفجة ، يكون قد قدم نصا قصصيا لا يمكن أن يتصارع حوله حكمان من أحكام القيمة الأدبية او الفنية . وقصة ( خرج ولم يعد ) هي الأخرى إنما يتأسس بنيانها على أرضية اجتماعية ، وحيث يعيش البطل في بيئة يأبى أهلها تطهير معابدهم من أوثان الفكر والقيم الاجتماعية الهزيلة التي يقدسونها ولا يتخلون عنها . أو بمعنى آخر ، فإن الرجل العالم الحكيم لن يجد له مكانا في مكان يعيش أهله في ظلام المعتقدات الهابطة ، وهل ثمة ما هو أشدّ من هذه الحال فضاضة وقسوة ( الرجل المثقف المفكر لم يعجبه الحال .. تدخل ليخرج (برفع الياء وكسر الراء) الجلسة من عنق الزجاجة : يا جماعة .. نرجو الهدوء حتى نناقش الأمر بموضوعية.. بلا موضوعية بلا نيله .. ردّ أحدهم وأضاف بسخرية : ضبّ علماتك على شقة ( أي دع علمك جانبا) .. أنت ما بتعرف الناص .. هؤلاء لا يصلح لهم إلا قلة القيمة)(ص37-38) . إننا إذا ما وضعنا الدافع الفكري جانبا ونظرنا إلى أسلوب القاص ، فسوف نجد الحرص على توسيع أفق الانتظار ، أي بمعنى الأخذ بيد القارئ ليفهم حقيقة الواقع الذي نعيش فيه الشخصيات ، ودواعي التغيير الذي يتوخاه ( حتى عقلي توقف.. عيناي تدوران على الجالسيني .. لا أحد يقدّر الموقف ، كأننا في بورصة أسعار .. لا أحد يسمع أحدا.. القذائف المتبادلة بين الحضور تمر من أمامنا وفوق رؤوسنا .. التاريخ العائلي لكل واحد منهم اندلق أمامنا .. انصبّ في جحورنا)(ص38).وحيدر قفّة لا يفرض على المتلقي موقفا محددا ، أو خيارا بعينه ، وإنما يقوم بوضع الشخصيات أمام أقدارها وفي واقع يحرص على تقديم سلبياته ، ثم
(3)
يترك المتلقي أمام هذا كله ، ليقرر ما عليه فعله ، وهذا مما سيحول القصة إلى فاعل اجتماعي هي الأخرى ، تماما مثلما شخصياتها التي يقدمه القاص بغير تعسف أو تدخل كما يحدث عند الكثيرين . يقول الشاب الصغير السن في حديث حول دواعي خروج العالم المثقف ومغادرته الجلسة : الرجل لم يخطئ .. وأنتم عندما أرسلتم لي لأحاول إقناعه بالانضمام لكم لكي تستفيدوا من علمه وفهمه وحكمته ، أراكم تريدون إنزاله إلى مستواكم لا الصعود إلى مستواه )(ص40).
إذا أخذنا بمقولة بارت التي يعتبر النص فيها عملية إنتاجية ، وأنه نسيج توليدي تنحل فيه الذات المبدعة، فإن القاص الذي لا يقبل أن يحدد مكانه في معزل عن المحيط الاجتماعي الأوسع ، يكون قد أطلق لقصصه العنان ، وأرسلها بلا قيود ، لتنهل من هنا وهناك مما يثري أطروحتها الفكرية ، وبما يدعو للتغيير والانقلاب على الواقع المرير الذي وجدت أنها فيه تعيش عيشة مريرة . وهو في النتيجة الأخيرة كمبدع ، يقدم لنا أشكالا ممتعة، تبعث في أعماقنا إحساسا بالمتعة : متعة استقبالها كقراء ، تحاولنا ونحاورها ، في حميمية قلما نجد ما يضاهيها إلا في النصوص التي أراد لها كتابها أن تكون جزئيات من الزمان والمكان وكذا من الواقع الاجتماعي الذي يصورونه. ففي
(عيون المها) يذهب القاص إلى إقليم المعتقد الشعبي حول الجسد ، ويقدم معالجة يقطع فيها بسيف العقل عنق هذا الوثن الذي تحول في عقول الناس إلى أيقونة يتسابقون في تقديسها ( لما ضاق زوجي بشكواي منها ومن زيارتها – تقصد الجارة الحسودة- وما تسببه من مصائب ، وضاق أيضا من سلبيتي في السكوت عن إفهامها أو التلميح لها بما يجب أن تقول، أو كيف تتصرف / اقترح علي أن نكتب لوحة نضعها أمامها، نكتب عليها عبارة ( ما شاءالله) .. لوحة تقرؤها إجباريا كلما وقعت عيناها عليها )(ص49). وهكذا بقية الجزئيات – القصص : ففي ( كبر الخرج) وحيث القاص يؤسس بنية جميلة على المثل الشعبي الذي يقول : حط في الخرج -اي ضع في الخرج الذي يقال لكل من يطلب من غيره عدم الاكتراث لما يدور حوله من المصائب حتى، فإن بطل القصة الذي تتكالب عليه الهموم ولكنه يأبى أن يضعها في الخرج كما يقال ، تتحول حياته إلى كابوس مرعب يتم التعبير عنه بسخرية جارحة يخز فيها القاص الأعماق وهو يصور فداحة ما يحدث في الواقع من الانقضاضات على أشيائه الجميلة : الخرج يتضخم .. يتضخم .. بدأ يزحف نحوي .. بحركة بطيئة يقترب مني .. هربت .. هربت .. لكنه واصل مطاردتي بحركة بطيئة .. يتنامى .. يزداد طولا وعرضا وارتفاعا.. أصبحت محاصرا .. يدفعني نحو حزمة من الحطب ملتهبة .. النار المتأججة تشهق .. تزفر.. تزمجر.. أهرب منها .. ألسنتها كأذرع الأخطبوط تمتد نحوي (ص59).
(4)
ومثل هذا أيضا ، فإن قصة ( الدود) ومن خلال مقاربة إبداعية جميلة ، يوازن القاص بين الدودة من حيث كونها حشرة تعيش بين الأوساخ والقاذورات ، وبين من يفقد الضمير فيقبل العيش على أكتاف الآخرين . والاثنان : فاقد الضمير والدودة ، كلاهما كائن طفيلي يعيش على حساب غيره ، ولا يكاد يترك فعلا طيبا في الحياة تمكن الاشارة إليه . يقول القاص : الديدان لا تعيش إلا في المزابل النتنة .. في المزابل تتكاثر.. تتناسل .. تكثر.. وتكثر.. تبعث رائحة كريهة ( ص68). ولن الابن يأبى دفع رشوة للمعلم – الدودة في مقابل الحصول على درجة أعلى في الامتحان ، فإنه يكون قد انتصر في الحياة ، حتى لو لم تكفه درجته التي حصل عليها للنجاح . يقول له والده وهو يرى انعاكس تربيته الحسنة في سلوكه الحياتي : نعم يا ولدي .. بعض الدود يحتاج إلى استقطاب كمين .. وبعضه يكفيه نفخة من سمين .. لكن الدود .. كل الدود.. يرهبه (برفع الياء وكسر الهاء) واحد مثلك .. يعلن التحدي .. مبارك .ز نجحت يا ولدي
كان من بين أبرز ما وقعت عليه عيناي بمجرد ان بدأت القراءة ، كثرة الأفعال وبالتالي غلبة الجملة الفعلية . والكاتبة فلافري أوكونور ترى بأن كل شيء له نقطة تذوق في العين ، وهذه واحدة من قواعد كتابة القصة ، باعتبار أن عين القارئ وهي تراقب هذه الشخصية وتلك من شخصيات القصة ، فإنما هي تقوم بالاحاطة بها لمعرفة كل ما يرتبط بها . ولم يأت استخدام الأفعال بهذه الكثرة عبثا ، ولعله من الأمور التي يقصدها الكاتب ، بالنظر لما للأفعال من تأثير في التعجيل بإيقاع القصة وسرعة جريان الأحداث . وهما أمران يرتبطان بصدمة التلقي ، وبسرعة إنجاز تطوير أفق انتظار القارئ ، الذي سوف يجري هو الآخر بدوره ، لاكتشاف حقيقة ما ستؤول إليه المتوالية من الأقوال التي يجد نفسه أمامها ، فيلاحقها بعينيه أيضا ( ثارت الدماء في عروقه .. طوفان الدماء تصعد إلى رأسه.. تغزو جمجمته.. تغطي على عينيه .. لا يجرو احد ان يقول له هذه الكلمة –يقصد الكلمة البذيئة التي قالها رجل المخابرات- تذكرأبناءه..تذكر أحفاده.. شبابه .. شباب العائلة.. مكانته في قريته(ص19) و( شعرت أنه كاد يقذفني بحجر الأرجيلة التي يكركر عليها .. قمت وانصرفت.. وتركتهم يمورون في بعض.. وانفرط العقد )(ص40) و( نادو عليّ.. فقد فرغوا من تجيز السفرة.. وضع الطعام.. العائلة تنتظر نزولي من الطابق العلوي لتناول الطعام .. نزلت .. اخذت مكاني)(ص62) و( بلع باني ريقه وسكت.. وهانذا جئت إلى بريطانيا .. سألني موظف الجوازات عن جنسيتي .. فقلت : فلسطيني .. فكتب مكان الجنسية :
(5)
(استيت لس ) ( لا جنسية ولا وطن) .. نزف جرحي .. وضعت يدي على فمي وسكت )(ص81).
عند إصدار أي حكم نقدي على نص ما ، فإن الناقد امام مرجعيات هذا النص الفكرية والفنية معا . فأما من حيث ما في القصص من الأفكار ، فإنها تأخذ كل ذلك من الواقع المعاش – واقع الفلسطيني ، وأما من حيث ما فيها من المعالجات الفنية ، فإنها قصص واقعية في اسلوبها ، سريعة الجريان ، وليس فيها ما يتعب القارئ ، وبالتالي فإن قطوفها دانية وقريبة المنال .
(*) عفوا أيها القهر(قصص) / حيدر قفّة/ دار القلك / دمشق