أحدثكم عن/ شاعر الصعيد الجواني

"محمد أمين الشيخ"

شاعر أزهري، وشيخ شعراء الصعيد!

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

يأتي العالِم الجليل (محمد أمين الشيخ الهلالي) في طليعة الشعراء الإسلاميين في العصر الحديث، بلْ كان أحد الداعين لتأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وواحداً من المساهمين في تكريس مفهوم "إسلامية الأدب" والمشاركين في كثير من ندوات ومؤتمرات الرابطة!

 سبعون عاماً قضاها -يرحمه الله- بمدينة قوص بالصعيد الجواني، ما بين مولده عام ( 1924-حتى وفاته 1995م) لمْ يعرف للنوم موضعاً، ولا للراحة سبيلاً، فحياته صفحة من البذل والعطاء والجهاد المتواصل، في أروقة العمل التربوي والتعليمي والسياسي، ومتنقلاً بين العمل الخاص والعمل العام، ولا يتوقف لحظة عن القراءة والكتابة؛ فتارةً يكتب نثراً، وتارةً يكتب شِعراًُ .. وفي هذا وذاك ينافح عن المعاني الإنسانية والقيم الأصيلة والرؤى الإسلامية!

ولعلَّ أصدق وصف لشاعرنا هو قول الناقد الأكاديمي الطاهر مكي: "ديوان صديق صِبانا محمد أمين الشيخ- صورة من صاحبه، وأسلوبه انعكاس صادق لشخصيته"!

تنقل –شاعرنا- في حقل الدراسات الأدبية والإسلامية ما بين الأزهر، والآداب، ودار العلوم؛ مما جعله يقف على أرضية ثقافية صلبة .. توّجها بعدد من الدواوين الشِعْرية العجيبة، مثل: ملحمة البارود، وأغنيات جنوبية، وعرش الطاووس، ومواكب الفجر، وله ديوانان تحت الطبع: حديث النفس، جواز سفر.

 من حسن حظي أنني كتبتُ عن "شاعر الصعيد الجواني" في كتاب (شعراء في مواجهة الطغيان) باعتباره أحد الشعراء الذين جهروا بالحق المر! فلم يركن إلى الذين ظلموا، والذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد!

لعلَّ الإحساس بمعاناة الناس، ومشاركة المسلمين همومهم؛ أبرز ما يميز شاعرية (محمد أمين الشيخ) فتارة ينافح عن القدس وساكنيها، وتارة يواسي لبنان في محنتها، وتارةً يتألم لِما آلتْ إليه (بغداد) التي كانت عاصمة الخلافة الإسلامية! فيناديها قائلاً:

بغدادُ والجرح العميق يهزني، لنْ أنثني

فأنا عشقتكِ من قديمٍ قلعة في موطني

وأنا احسُّ بأنَّ همكِ في الحياة يهمني

.................................

بغدادُ يا بنت الرشيد تجلّدي وتحصّني

لا تسجدي إلاَّ لربِّ العالمين وتنحني!

 وها هو يشاطر مسلمي البوسنة أوجاعهم ومصائبهم، فيبكي لبكائهم، ويتألم لآلامهم، ففي قصيدة (إلى أخي في البوسنة) يقول:

أبكي على دمكَ الشريف مبعثراً فوق التراب!

أبكي على طفلٍ رضيعٍ في المهانة والعذاب

أبكي على تلك الفتاة وقد تخاطفها الذئاب

أبكي على الشيخ الوديع وقد تمزق بالحراب

أبكي المآذن في ربوعك قد تغشّاها الضباب!

.......................................

أبكي على تلك الحياة حياة قومي القاعدين!

أبكي المهانة .. والتساؤل: أين جيش المسلمين؟!

وفي خضم الأحداث المروّعة، والمصائب التي تترى على ربوع الإسلام، فهنا دماء تتدفق، وهناك أشلاء تتطاير، ومدائن تتلاشى، وعواصم تتساقط غنيمة باردة بأيدي الغزاة الماكرين! لمْ يجد الشاعر سبيلاً سوى الدعوة إلى الوحدة والتضامن العربي والإسلامي، ففي قصيدته "هموم مسلم" يقول:

من القدس حتى ضفاف الخليج
مضيتُ حزيناً ففي كل أرضٍ
وتبدو المآذن .. كالنائحات
ويمضي الشَّهيد على أرضها
دفاعاً عن الحق .. يعطي الدماء
........................................
تعالوا إلى الله .. نبغي حِماه
نُلمْلِمُ أشتات شعب كريم

 

وبين "رُبَا البوسنة" الحائرة
مذابح محمومة قاهرة
تعاني من الطغمة الجائرة
وينثر أشلاءه الطاهرة
وقد باع دنياه بالآخرة
.........................................
وتجمعنا وحدة قادره
ووعد من الله أن ينصره

 كثير هم الشُّعَراء الذين حجّوا واعتمروا وتعطروا بأرض الحجاز، وكثير هم الذين فاضتْ قريحتهم بالتعبير عن أجواء الحرم المدني الشريف، وما فيه من نسمات النعيم، وشاعرنا محمد أمين الشيخ- واحد منهم، وقبل رجوعه من أداء مناسك "الركن الخامس" نظم قصيدته (في رحاب يثرب) لا أقول سَطَّرها بماء الذهب، بَلْ بالذهب ذاته!

 وما العجب في ذلك؟ إنه يناجي الرسول الأعظم في روضته الشريفة! فكان حقاً عليه أن ينسى هنالك أهله وداره ووطنه .. استمع إليه وهو يَتَدَلَّه في المدينة وساكنهاe، حيث يقول:

دَنَتْ مآذنها .. واشتدّ بي وقدي
طَوَّفتُ في هذه الدنيا ورحبتها
إنِّي نسيتُ هنا أرضي ومتعتها
 * * *
وجئتُ نحو رسول الله في لَهَفٍ
أُلْقِي السلامَ عليه .. أستجير به
 * * *
يا خيرَ من جاء بالتوحيد يا أملي
كُنْ لي شفيعاً .. فإنِّي قد لجأتُ إلى

 

 

لَمْ يَبْقَ إلاَّ رسولُ الله في خلَدي
وَلَمْ ترَ العين ما ألقى بذا البلدِ
ولستُ أذكر منها الأهل أوْ ولدي
 * * *
والشوق يملأ أعماقي .. وفي كبدي
وأملأُ العينَ من (بَدْرٍ) إلى (أُحُدِ)
 * * *
إذا التقى الناس يوم البعثِ في مددِ
هذي الرحاب .. وقد مُدَّتْ إليك يدي

 

 بعد رحلته إلى البقاع المقدسة، التي رأى فيها ما رأى، ظل –الشّاعر- بقية حياته مديناً لهذه الرحلة المباركة؛ إنها "رحلة العُمر" فأينما توجه بخاطره، تذكّر صاحب الرسالة ونبيّ الهُدى، فيبعث له وابلاً صيّباً من التحيات والصلوات، فيقول في قصيدة (يا صاحب الذكرى):

أيا صاحب الذكرى .. حديثكَ عاطرٌ
طلعتَ على الأكوان فجر هدايةٍ
وجئتَ وليداً بين وديان مكة
........................................
عليكَ سلام الله .. إنَّا بحاجةٍ

 

وذكراك بستانٌ .. وحقلك وافر
ونوراً وقرآناً وشورى تقرر
فهلْ دَرَتْ الوديانُ ماذا يُدبَّرُ
.........................................
إلى دينكَ الوضّاءُ يعلو ويظهرُ