نفتقد غسان اليوم أكثر

إبراهيم جوهر – القدس

 ( الكلمة التي ألقيت في الندوة الخاصة بذكرى اغتيال الأديب غسان كنفاني – في ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني/ الحكواتي 22 /7 /2010 م. )

 لقد أتعبني غسان هذه المرة ، بل أنا الذي تعب واحتار .

تعبت وأنا أفكر من أين أبدأ ؟ وماذا سأضيف ؟ وماذا سأقول ؟ وأنا من اقترح هذا النشاط بعنوان ( نفتقد غسان دائما ، ولكننا اليوم نفتقده أكثر ) ، تماما كما تعبت وأنا أفكر في كيفية تقديم قامة غسان وعطائه لأطفال رياض غسان كنفاني في غزة .

لا أريد نصّا تقليديا ،

ولا كلمة افتتاح باهتة في ذكرى حارّة ،

ولا كلمة مزايدة تشير إلى دور غسان في الثقافة العربية الفلسطينية وتؤكّد وعيه المبكر وإخلاصه الصادق وتنتهي إلى أنه كتب بالدم لفلسطين ، ونحن اليوم نقرأ ما يكتب بالماء المغشوش !

لم أرد إعادة ما كتب عن غسان ، ولا اقتباس مقتطفات مما قيل أو كتب وبحث عنه ، وهو كثير واف وكاف نسبيا ، مع أن ما قدمه غسان للثقافة والأدب والفن يظل – كما أراد له بوعيه الفني المتقدم – مفتوحا للمقاربات والدراسات والاستنتاجات والتأويلات ، تماما كما كانت قصة ( القنديل الصغير ) التي كتبها لابنة أخته لميس رفيقته في الدم والشهادة حين أراد لها أن تكبر معها ، فكلما كبرت اكتشفت جديدا في القصة وفهمت شيئا جديدا . وها نحن نكبر بالمعنى نفسه ونفهم ما أراد لنا أن نفهمه ونكتشف ما أراد لنا أن نكتشفه ، ربما .

إن غسان بثقافته الواسعة وقامته العالية ومشروعه الثقافي المتميز يستحق منا المزيد دائما ، والقراءة الواعية دائما ، والاهتمام الدائم ، لأنه كان يعي عمق القضية فكتب من وحي عمق تعقيدها لتكون كتاباته ذات تأويلات متعددة الرؤى وزوايا التناول والبحث .

واليوم  نستحضر روح إبداعه لتمدّنا بنار الأمل ونور العدل وصدق المسير ، وتشحننا لنعيد النظر في توجيه البوصلة التي حرفها ( زكريا ) عن اتجاهها ... اليوم يحضر غسان أمسيتنا هذه ليحذّرنا ممن يسرقون القمصان ، ومن ( أبو الخيزران ) .

اليوم نفتقد غسان أكثر .

واليوم عرفت أن ( جوجل ) يوفّر المزيد للقارىء والباحث ، فماذا عساني  أضيف فوق ما قيل وكتب ؟!

في موقعه الذي ما زال تحت التحديث والإعداد منذ أربع سنوات (!!)  (موقع غسان كنفاني ) وردت الأسئلة التالية بعد أن قرّر الكاتب  أن المضمون لدى غسان كان فلسطين ، وأن الأسلوب كان هذا العالم الباهت والمضطرب ، والأسئلة هي ؛

" هل كان غسان كنفاني بذلك يحافظ على عالمه الداخلي وتوازنه ؟

هل كان يعي خطورة الراهن والمستقبل ؟

هل كان يمضي إلى النهاية ؟

هل كانت همومه واعتقاداته أكبر من هذا العالم ؟

هل كان سيغيّر العالم ؟ "

وبقيت الأسئلة دون إجابات ، تماما كما ظلت موهبة غسان نفسه دون نظير يوازيها أو يكمل مشروعها الذي صادرته قوات الاغتيال والاحتلال .

ومع اشتداد حلكة المرحلة التي نعيشها سياسيا وفكريا وثقافيا تبرز الحاجة أكثر لغسان الذي افتقدته الساحة الثقافية الفلسطينية والعربية والعالمية يوم 8 تموز 1972 م.

افتقدناه مذّاك ، واليوم نفتقده أكثر .

 اليوم نفتقد غسان أكثر من أي وقت مضى .

غسان الذي ظل وجهه مبتسما وجسده يتفجّر ويتوزع على أسطح عمارات بيروت وشوارعها غادرنا وهو مطمئن على الدالية التي برعمت ، وعلى ( خالد ) الذي أمل أن يكون قد التحق بصفوف الفدائيين ليكون المستقبل ، وليكون الحل/ البديل لاستعادة ( خلدون ) ويافا .

وجه غسان كان مبتسما لأنه مطمئن على أن ( أم سعد ) و ( خالد ) و ( حامد ) عرفوا طريقهم وساروا في الاتجاه الصحيح الذي أراده لهم ... فماذا سيقول لنا اليوم لو عاد ورأى ما نحن عليه من ذل وهوان وضياع وانقسام وتشرذم وضباب رؤيا ؟!!

غسان الأديب احترم عقل القارىء ووعيه ، وأخذ بيده إلى مواطن الجمال الروحي ليعمّق الانتماء ويدفع إلى العمل . لقد قدّم أعماله الأدبية بروح معاصرة سبقت وقتها الذي كتبت فيه ، لأنه كان يتطلع إلى المستقبل ويمتلك أدواته الفنية . وهذا ما دعا ناقدا هو الدكتور عادل الأسطة ليقول : إنه بدأ بما انتهى إليه محمود درويش .

ومع هذا فلم يغادر بساطة الطرح الواقعية فلم تكن أعماله ملغزة ، بل شفيفة الرمز مفتوحة على التأويل لاكتشاف السر اللذيذ الذي يميّز الأدب عن التاريخ والحكاية .

لقد حملت أعماله رموزا وإشارات ذات دلائل وإيحاءات قريبة ومؤثرة ؛

ها هي الأرض النابضة التي تتوحد مع المرأة ،

وها هي خربشات قلم الرصاص والدرجة المكسورة والطريق المعاكس إلى حيفا ،

وتلك هي الخيمة التي تفرق عن خيمة ، والدموع التي لا تحمل زورقا ورقيا ،

وتلك مقولته ( الإنسان قضية ) ،

وتلك الساعة التي أزاحها حامد عن معصمه فشعر براحة تشبه من يزيل دملا قديما ،

وهذه شخصية ( أبو الخيزران ) المتناقضة التي تسرق وتهرّب وتقسو ، ولكنها تتعاطف وتسأل ( لماذا لم تدقّوا جدران الخزان ؟) ،

وهذا ( القميص المسروق ) الذي ما زال يسرق ...

ابن الست والثلاثين عاما عاش القضية بأبعادها وخلفياتها وقدّم رؤيته الوطنية والفكرية والفلسفية ؛ قدّم مشروعه الفني والثقافي التعبوي بشكل ما زال متفرّدا في الساحة الثقافية الفلسطينية .

 كان وكأنه في سباق مع الزمن ، وكأنه يدري أن عمره الفردي على وشك النهاية ، وعليه أن يطيل عمر قضيته التي أمل لها أن ( تبرعم ) .

لقد كتب غسان ليرسم طريقا نحو الوطن ، وليصوغ إنسانا مثقفا يعي واقعه ويمتلك أحلامه ورؤاه .

لقد صاغ مشروعا ثقافيا متكاملا بأعماله . هذا المشروع الذي كان من المأمول أن يغنيه بتنويعاته وتكرار بعض أجزائه ومفرداته وتوضيح رموزه ومفاصله الفلسفية ليزداد وضوحا ورسوخا وتأثيرا ، وهو المجدّد في الأدب الفلسطيني حين انطلق من غموض فني لم يكن مألوفا قبل أكثر من خمسين عاما حين بدأ الكتابة .

لقد خاض مغامرة التجريب الفني وانشغل بشاغل التغيير الأسلوبي بفعل اطلاعه ومخزونه الثقافي ، إلى أن انتبه إلى أهمية الاقتراب من الجماهير الواسعة فكتب بلغتها وأشخاصها وعاطفتها وروحها ، فكانت أم سعد بواقعيتها وعفويتها وحميميتها وإنسانيتها ورمزيتها أيضا ... لأنه يكتب وفي ذهنه مستويات القراء والباحثين والسياسيين . إنه أديب شامل متعدّد المستويات .

لقد وعى غسان خطورة الواقع والمستقبل كليهما فأراد تغييرهما ؛ تغيير الواقع بتثويره ، وتغيير المستقبل بالإعداد لما يجب أن يكون عليه ، وما يحب أن يكون عليه .