النقد كصناعة

عبد الرزاق اسطيطو

عبد الرزاق اسطيطو /المغرب

[email protected]

"توجد قصائد جميلة من دون أبيات، كما توجد أبيات جميلة من دون شعر"

  Abbe du boS

كيف صار النقد صناعة بعدما كان ذوقا وانطباعا؟

كلما ارتقى الشعر وتطور عبر التحديث في بنيته أو عبر التجريب في محاولة للتحرر من إكراهات العروض بدءا بثورة أبي نواس وبشار بن برد على المقدمة الطللية الغزلية، وصولا إلى الآن ما بعد الحداثة كما يعرف بها الشاعر والناقد والمفكر أمجد ريان يقول في حوار معه،" كثير من الدواوين والقصائد المنشورة ليست سوى اجترار للتراثين الشعريين القديم والجديد،وأستطيع القول إن الفترة الأخيرة قد أجبرت الجميع على فهم الحساسية الجديدة".

فمع أي تحول أو ثورة أو انعطافة شعرية ، إلا ويصاحبه  تحول بالضرورة في مجال النقد ،بالبحث عن آليات وأدوات نقدية جديدة قادرة على تحديد ملامح الظاهرة الجديدة والتعريف بنشأتها  وبشكلها وإيقاعاتها المستحدثة.

وبالرجوع إلى الوراءتاريخيا إلى العصر الجاهلي نجد أن النقد لم يكن مبنيا على قواعد فنية وأسس علمية متعارف عليها، أي لم يكن نقدا معللا وإنما كان ذوقا  ساذجا وانطباعا أي كان مرادفا للذوق الفني والإحساس الفطري،ولم تكن هناك مواضعة على أدوات أو مناهج كما يقول طه الحاجري في كتابه  "تاريخ النقد والمذاهب الأدبية".

وبمجيء الإسلام سيصبح للنقد معنى أخلاقيا ، وما يدل على ذلك ما رواه الأصفهاني في "الأغاني "عن ابن عباس في قوله "خرجت مع عمر في أول غزوة غزاها فقال لي ذات ليلة ،يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء ، قلت  ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال"ابن أبي سلمى" قلت وبما صار كذلك؟ قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام ، ولا يعاظل في المنطق،ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمدح الرجل إلا بما  يكون فيه، فكان في نقد عمر ظاهرة  جديدة لاعهد  للنقد بها".

فما كان من الشعر يخدم الدعوة إلى دين الإسلام فهو مقبول وما كان غير ذلك فهو  رديء ومرفوض.

ويذكر الباحثون والدارسون للشعر انشغال الناس في هذه الفترة عن الشعر بالقرآن الكريم والفتوحات الإسلامية.

تبقى إذن بذرة ظهور النقد الموضوعي مع أوائل القرن الثالث ببروز مجموعة من اللغويين والنحويين والنقاد والمنظرين للشعر في اللغة والنحو والغريب في الشعر.

فهذا متفوق في النحو وهذا متفوق في الغريب والآخر في العروض والآخر في اللغة.

ماهي العوامل أو الظروف التي ساهمت في الإرتقاء بالنقد في هذه الفترة وتحوله من نقد فطري إلى نقد علمي يعتمد الفكر والإستقراء الدقيق والتحليل؟

من أسباب رقي النقد في هذه الفترة كثرة الأسواق التي كانت تحتضن الشعراء والنقاد كسوق عكاظ وسوق المربد،والمجالس الأدبية عند الأمراء ،والرحلات ، والإنفتاح على ثقافة الآخر خاصة اليونانية والفارسية، فالأجواء المناخية من تحرر وترف  وانفتاح على ثقافة الآخر ساهمت في تحديث الشعر  بمحاولة خلق أشكال  جديدة في الشعر توازي  وتقابل الشكل التقليدي العمودي وبالتالي إغناء جنس الشعر بأشكال وتجارب متعددة بدل الشكل الواحد، ومن مفهوم واحد للشعر إلى تعدد المفاهيم . وكلما ازداد التحرر والإنبهار حد الإغتراب أو الإستيلاب بتعبير هايدغر بثقافة الآخر ،كلما  ازداد ت قوة التحديث  ، كما حصل مع مدرسة أبوللو والآن مع قصيدة النثر وجماعة شعر وفيما بعد مع الحساسية الجديدة بعد  سقوط بعض الأسس التي تقوم عليها قصيدة النثر كما عرفت بها سوزان برنار،الكثافة والإيجازوالتوهج والمجانية، حيث نجد الإسهاب والتفكك والفوضى وغياب المجانية.

إذن أي خلخلة أو تجريب أو استنساخ للثقافة الشعرية للآخر الأنجلو أمريكية والفرنسية ،لا بد وأن يصاحبه  تحول بالضرورة بالإجتهاد والبحث عن آليات ومفاهيم نقدية جديدة ، تواكب الظاهرة الجديدة وغالبا ماتكون هذه المناهج والآليات كذلك مستنسخة مثال ما تفرع عن لسانيات دو سوسيرمن فيمينولوجيا وبنيوية وسيميوطيقا وسميائيات وسميولوجية...

وهكذا عوض المفهوم الواحد للنقد سيصبح لنا مفاهيم متعددة، وعوض المدرسة الواحدة تصبح لنا مدارس متعددة، وعوض المنهج الواحد يصبح لنا مناهج متعددة،ويبقى السؤال هنا هو كيف  نطبق هذه المناهج  على المتون المدروسة ومتى؟ وما الذي يصلح من هذه المناهج وما الذي لا يصلح؟

ومع التجريب سينقسم النقاد ومعهم جمهور القراء إلى طائفتين طائفة تعارض وطائفة تؤيد وقد نجد طائفة تتحفظ وقد تتحول المواقف مع الوقت من مؤيد إلى معارض والعكس صحيح.

هذا الإختلاف في تلك المرحلة  سيؤدي إلى ظهورمجموعة من المؤلفات التنظيرية والنقدية وكلما ازدادت حدة التجريب والرفض لإكراهات العروض كلما توسعت دائرة النقاش واغتنت المكتبة العربية بالمؤلفات والكتب القيمة.من هذه الكتب في تلك المرحلة "طبقات فحول الشعراء" لابن سلا م الجمحي الذي يعتبر اللبنة الأولى في النقد العربي فهو أول من حاول دراسة الشعرالعربي دراسة علمية منهجية،"نقدالشعر" لقدامةابن جعفر،"الشعر والشعراء"لابن قتيبة ،"عيار الشعر" لابن طباطبا العلوي "البديع" لابن المعتز ثم "الأغاني" للأصفهاني وتوالت الكتب النقدية والتنظيرية حول الشعر "الموازنة" للآمدي ثم الجرجاني والبقلاني والجاحظ ،وإشكالية النظم وقضية اللفظ والمعنى.إلى"  قضايا الشعر المعاصر" لنازك الملا ئكة وصولا إلىتنظيرات جماعة شعر أدونيس "زمن الشعر" " الثابث والمتحول" "الخواتم" لأنسي الحاج،"في البنية الإيقاعية" لكمال أبي ديب "النص المشكل " للناقد محمد عبد المطلب

"القصيدة وفضاء التأويل" للناقدة وجدان الصائغ، "قراءة في أدب اليمن المعاصر" للناقد عبد العزيز المقالح،"أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث " للناقد المغربي أحمد المعداوي،"عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي "وتوالت الأسماء وتعددت ومعها الكتب والمقالات  التي يصعب حصرها .

فهذا الثراء النقدي مرجعه بالأساس الخروج بالشعر عن ماهو متعارف عليه،بدءا بإبي نواس وبشارا بن برد مرورا بأبي تمام  ثم مدرسة أبوللو ثم قصيدة النثر إلى الحساسية الجديدة.

فالخروج بالشعر عن ماهو متعارف عليه عند المتقدمين "الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى " بتعريف قدامة ابن جعفر في نقد الشعر وبتعريف ابن رشيق في كتابه العمدة"الشعر يقوم على أربعة أشياء وهي اللفظ والوزن  والمعنى والقافية وذلك بعد القصد والنية" .فالخروج بالشعر عن هذه الحدود المرسومة له والتي اعتبرها البعض هي أساس الشعر فيما اعتبرها البعض قيودا تحد من جموح الشعر .

فبثورة أبي نواس وبشار ابن برد على المقدمة الطللية الغزلية أولا. يقول أبو نواس:

لا تبكي ليلى ولا تطرب إلى هند

واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها

أجدته حمرتها في العين والخد

ويقول:

صفة الطلول بلاغة القدم

فاجعل صفاتك لابنة الكرم

 وبمحاولة التجريب ثانية في محاولة لخلق إيقاعات جديدة للشعر فقد وردفي كتاب" العمدة"لابن رشيق الجزء الأول ص120 أن الأمين بن زبيدة قال لأبي نواس مرة هل تصنع شعرا لا قافية له، قال نعم " .

كما أن بشار ابن برد كتب قصائد سميت بالمزدوجات، ومعه ابان ابن عبد الحميد اللا حقي وأبي العتاهية، وابن المعتز، وأبو العتاهية تجاوز التنويع في القافية في القصيدة الواحدة إلى محاولة ابتكار أوزانا جديدة وحين قيل له  أنه خرج على العروض قال  " أنا أكبر من العروض" الأغاني للأصفهاني المجلد الثالث ص254 ويضيف الأصفهاني عنه وله أوزان لا تدخل في العروض".

ونفس الشيء سيحصل مع الشاعر  أبو العلاء المعري.

ففي كتاب"أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث " للدكتور الناقد المغربي أحمد المعداوي في دراسته لتقنية الإيقاع الحديثة وهي  الجملة الإستغراقية التي قدمت  على أنها إحدى الإنجازات الإيقاعية الحديثة المتقدمة لحركة الشعر الحديث،هي في الواقع ليست كذلك، لأنها تقنية معروفة على الأقل منذ القرن الخامس الهجري فقد نقل ابن خلكان مقطوعة منسوبة لأبي العلاء المعري ،هذا نصها.

أصلحك الله وأبقاك

لقد كان من الواجب أن يأتينا اليوم

إلى منزلنا الخالي

كي نحدث عهدا بك يا خير الأخلاء

فما مثلك من غير عهدا أو غفل.

فكيف ينبغي أن يكون الناقد الجيد؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه لا حقا.مع تتمة الحديث حول التجريب في علاقته بالنقد.

يتبع

               

هامش

ABEEDUBOS

من مقالةلنتالي فانسون مونيا

ترجمة محمد آيت العميم

أمجد ريان حاوره السيدرشاد

منشور بمجلة الشعر ع138