المخزاة الجعيطية
المخزاة الجعيطية
في كتابة السيرة النبوية
أ.د/إبراهيم عوض
منذ شهور كتبت دراسة طويلة أرد فيه على رأى سخيف للدكتور هشام جعيط ملخصه أن اسم النبى محمد لم يكن محمدا بل قُثَم. وكنت بحثت، قبل أن أكتب تلك الدراسة، عن كتاب جعيط فى السيرة النبوية، وهو الكتاب الذى ورد فيه هذا الرأى المتهافت، لكنى لم أوفَّق وقتذاك إلى العثور عليه. ومنذ أربع ليالٍ فقط وقع الكتاب فى يدى بالمصادفة المحضة، وهو مكون من جزأين، وصادر عن "دار الطليعة" ببيروت فى كانون الثانى (يناير) 2007م. وبدأت أقلب صفحات الجزء الثانى، وعنوانه: "فى السيرة النبوية-2 تاريخية الدعوة المحمدية فى مكة"، لأنه هو الجزء الذى تعرض فيه المؤلف لاسم النبى وزعم زعمه السمج بأن اسمه الحقيقى "قُثَم" لا محمد. وما إن مضيت بضع صفحات فى القراءة حتى وجدت أخطاءً بالكوم، وكلها من النوع المضحك المخزى فى آن. ورغم أنى قرأت بقية الكتاب على عجل فإن مقدار الأخطاء والثغرات التى قابلتنى أثناء ذلك شىء هائل: فهناك الركاكة والاستعجام وتفكك الفكر وتناقض الكلام وضعف المنهجية واللف والدوران والجهل بالمصادر اللازمة للموضوع والعجز عن القراءة السليمة... وهأنذا أضع بين يدى القارئ ما تنبهت له فى تلك القراءة العجلى، وهو فى الواقع أمر يبعث على الغثيان.
وأول ما يلاحظ على الدكتور جعيط أن أسلوبه ليس من الأساليب الجميلة بحال، فضلا عن أنه يعجّ بالأخطاء والركاكة والتواء العبارة، مما يقربه من العجمة فى غير قليل من الأحيان، رغم أن أباه، كما قرأت، كان عالما من علماء تونس. لكنْ من الواضح أن ذلك لم يكن له فيما يكتب التأثير المنتظر للأسف. ومن ذلك مثلا العبارة التالية التى توحى بأننا أمام طالب أجنبى حديث عهد بتعلم العربية، فهو لم يتقنها بعد: "وهنا على قبرِ وفى مسجدِ الرسول المؤسس للدين والهوية ولتاريخية كبيرة، فى مسجد المدينة وهو بصدد البناء، تم لقاء بين عبد الملك وبين سعيد بن المسيب..." (ص34). وهى عبارة لا تنفح شيئا من روائح العروبة بما فيها من عسر التركيب والتوائه، فكأن كاتبها غير عربى. ومثلها كذلك قوله فى الصفحة التالية: "وقد تأكدت فكرة التاريخ مع الرجلين معا (يقصد عروة بن الزبير وعبد الملك بن مروان): كيف بدأت الأمور، تلك التى أتت بكتاب مقدس، بالتحام الجماعة، بملك الدنيا؟". وتقابلنا فى الصفحة التاسعة عشرة كلمة "أُثْرِيَتْ"، التى يستعملها كاتبنا اللوذعى فى الجملة التالية: "أُثْرِيَتِ المكتبة التاريخية واتسعت إمكانيات الباحث" على أنها فعل متعد بمعنى "أَغْنَى"، ولهذا بناه للمجهول، على حين أنه فى الحقيقة ليس فعلا متعديا كما توهَّم جعيط بثقافته اللغوية الفقيرة، بل فعلا لازما بمعنى "اغتنى". وعلى هذا يمكننا أن نقول إن فلانا "أثرى" من التجارة الفلانية، أى أصبح رجلا غنيا، لكن لا يصح أن نقول إن التجارة الفلانية قد "أَثْرَتْ" فلانا، أو إن المحاضرة الفلانية "أَثْرَتْ" فهمنا للموضوع الفلانى، أى جعلته غنيا. وقد تكرر هذا الاستعمال فى مواضع أخرى. وعلى العكس من تعدية الفعل: "أثرى" نراه يُلْزِم الفعل: "مَسَّ" ويُدْخِل على مفعوله الباء فيقول: "مَسَّ فلان بكذا" (ص264- 265، 269. وفى الجزء الثانى من الكتاب تكررت مرتين ص90، ومرة ص91 على سبيل المثال)، بدلا من "مَسَّه" كما ينبغى أن يكون الاستعمال. ومثل الفعل الأخير الفعل "عَمَّ"، فهو فعل متعد، إلا أن الكاتب يستخدمه لازما، مدخلا على المفعول به الحرف: "على": "والإسلام فى آخر المطاف لم يعمّ على الحجاز بما فى ذلك مكة إلا بتكوين أمة فدولة فقوة ضاربة سياسية" (ص316).
وفى الصفحة التاسعة عشرة أيضا وغيرها من الصفحات تقابلنا كلمة "تَوْرَخة"، التى لا أستطيع أن أمسك بزمام نفسى فلا أقول كما كان يونس شلبى رحمه الله يقول كلما سمع شيئا من زميله مرسى فى مسرحية "مدرسة المشاغبين"، إذ كان يتساءل فى حيرة بل فى بلاهة: "إنجليزى ده يا مرسى؟". فأنا بدورى أتساءل وكلى فزع: "عربى هذا يا دكتور؟". إن هناك ناسا لو أتيح للواحد منهم تسعة وتسعون طريقا كلها تؤدى بهم إلى النجاة، وطريق واحد ليس إلا يقودهم إلى الضلال والهلاك والضياع لتركوا التسعة والتسعين طريقا ولم يَحْلُ فى أعينهم إلا طريق الضلال والضياع. لماذا؟ هذا مما احتارت البرية فيه. وقد كان عند الدكتور جعيط كلمة "التأريخ"، لكنه تركها إلى "تَوْرخة" هذه التى لم أسمع بها قط، ولا أظن أحدا عاقلا سمع بها من قبل أو سيسمع بها من بعد. ولست أعرف أى شيطان سول له أن يستعمل هذه الكلمة الثقيلة على اللسان والأذن والذوق والقلب والعقل جميعا، وكذلك الأنف والجلد فوق البيعة. بالله عليك أيها القارئ الكريم، أوكنت تظن أن هناك من يقول: "تَوْرخة" قبل أن أسوق لك هذه الكلمة من كتاب الدكتور جعيط؟ الحق أنه لو عُرِضَ علىّ أن أدخلها فى كتاباتى لقاء ثروة من المال ما قبلتُ رغم حاجتى الماسة بل القاتلة إلى مثل تلك الثروة، إذ إن وجهها "يَقْطَع الخميرة من البيت" كما يقول الناس فى قريتنا. ولا أظنها إلا تقطع الخميرة أيضا من تونس، فهى مشؤومة تجلب النحس والفشل أينما حلت وكيفما توجهت مثلما يخيّم الشؤم أيضا على كلمات "مِيتانَصّ" و"إيثيقا" (ومنها "الأوامر الإيثيقية"/ ج1/ ص125) و"قَوْعَدَة" و"هاجيوغرافى" التى قابلتها فى أوائل الكتاب.
والأولى كلمةٌ هجينٌ نصفها الأول يونانى، ونصفها الأخير عربى، وهى فى الواقع مصطلح حديث (meta-text, métatexte) من اختراع اللغوية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا (Julia Kristéva)، ومعناه كما جاء فى "قاموس مريام وبستر الجديد:Webster's New Millennium™ Dictionary of English": "a text describing or explaining another text: النص الذى يصف أو يشرح نصا آخر"، كالكتابات النقدية بالنسبة إلى نصوص الإبداع الأدبى مثلا، وفى "القاموس الدولى للمصطلحات الأدبية:Dictionnaire International des Termes Littéraires" نقرأ ما يلى: "le métatexte est un texte dont l'objet est un autre texte (commentaire, critique, glose, etc)"، والثانية هى كلمة "Ethica" اللاتينية (وفى الفرنسية والإنجليزية: "L'éthique, Ethics")، وتعنى "فلسفة الأخلاق"، والثالثة هى وضع القواعد لشىء ما، والرابعة (hagiographical) صفة مشتقة من "hagiography-- hagiographie"، أى الكتابات التى تتناول حياة القديسين وما يتصل بها. ويقابل تلك الصفة فى سياقنا الحالى (الأشياء والأمور) الخاصة بالسيرة النبوية، ويمكن أن يقال: "(كتابات) تتصل بالسيرة"، أما إذا أردنا الترجمة المباشرة للكلمة فنقول: "(الكتابات) السِّيرِيّة" مثلا. هذا لو أردنا أن نكون طبيعيين يفهم الناس عنا، ولكن للحذلقة العاجزة سلطانا على بعض النفوس يبلغ حد المهزلة، والعياذ بالله! ومثل تلك الكلمة كلمة "ميتا خطاب" (ص204، وكذلك "ميتاجُنون"/ ج1/ ص98). أنعم وأكرم بالجنون ومِيتَاه!
وانظر أيضا قوله، عن بعض كتب السيرة النبوية التى تستقى هى وسيرة ابن إسحاق من ذات المصدر، إنها "تدلو من نفس الدلو" (ص27)، وهى عبارة تذكّرنى بأسلوب طلبة هذه الأيام النحسات فى أوراق الإجابة آخر العام، إذ أجدهم يحومون حول التعبير المراد دون أن يصيبوه بسبب عدم قراءتهم للكبار أصحاب الأساليب المونقة، بل ندرة قراءتهم أصلا وندرة مرانتهم على الكتابة الدقيقة، بَلْهَ الكتابةَ عموما، فتجىء تعابيرهم مهوَّشة لا تصيب المقصود عادةً إلا على سبيل المصادفة والشذوذ. وليس فى العربية التى نعرفها "دَلاَ فلان من نفس الدلو"، إذ الفعل: "دلا يدلو/ أَدْلَى يُدْلِى/ دَلَّى يُدَلِّى دلوه فى البئر" مثلا معناه: أنزله فى البئر للاستقاء. أما "دلا من نفس الدلو" فلا أدرى كيف تكون، إذ الدلو لا يُدْلَى من الدلو، بل يُدْلَى فى البئر.
ومن تلك الأخطاء المزعجة لديه أيضا قوله إن "الإنجيل ليس بالكتاب المنزل على شكيلة القرآن" (ص30. وقد تكررت مرة أخرى ص316، وكذلك عدة مرات فى الجزء الأول من الكتاب). ولا أدرى من أى وادٍ التقط "شَكِيلة" هذه، فالعرب إنما تقول: "شاكلة" كما فى القرآن مثلا: "قل: كلٌّ يعمل على شاكلته" لا "على شكيلته". أما إذا كان هناك كاتب أو شاعر عربى ممن تؤخَذ عنهم اللغة قد استعمل تلك الكلمة فلسوف أرجع عما قلته هنا، وأشكر من أرشدنى إلى ما كان غائبا عنى. وكان هشام جعيط، قبل ذلك فى الصفحة السادسة، قد ضبط الفعل الماضى: "بطل" بضم الطاء (هكذا: "بَطُلَ") غير دارٍ أن ضم الطاء يقلب معنى الفعل من البطلان إلى البطولة. وفى القرآن المجيد نقرأ قوله عز شأنه عن التقام عصا موسى لحبال سحرة فرعون: "فوقَع الحقُّ وبَطَلَ ما كانوا يعملون" (الأعراف/ 118). وكان يمكن أن يسكت صاحبنا "الهاجيوغرافيكالى" فلا يتعرض للفعل المذكور بضبط ولا ربط، لكن القدر أراد أن يكشف مقدار ما عنده من علم فوسوس إليه الشيطانُ أن يتحذلق فتحذلق، فكان ما كان.
والآن إذا كان هذا هو أسلوب هشام جعيط فى العربية فكيف يكون أسلوبه فى الفرنسية، التى ذكر فى مقدمة الجزء الأول من الكتاب، وعنوانه: "الوحى، القرآن، النبوة"، أنه فكر فى بداءة الأمر أن يؤلفه بها لكنه سرعان ما عدل عن تلك الفكرة؟ (ط2/ دار الطليعة/ بيروت/ مايو- أيار 2000م/ 7). الحمد لله أن دكتورنا "الهاجيوغرافيكالى" قد ثاب إلى رشده وصاغ كتابه بالعربية، فــ"نصف العَمَى ولا العَمَى كله" كما يقول المثل الشعبى!
وأطرف ما فى الموضوع أن السبب الذى حدا به إلى التفكير فى وضع الكتاب بالفرنسية هو أن "العربية فقيرة جدا فى كل ما هو مصطلحات فى الفلسفة والعلوم الإنسانية التى انتشرت فى الغرب لكثرة استعمالها وكثرة استيعابها" كما يقول! أرأيت كيف تتباهى القَرْعاء التى ليس لها شعر بجمال شعرها رغم ذلك بدلا من أن تكفأ على الخبر ماجورا ولا تفضح نفسها؟ اللغة العربية إذن فقيرة، وفقيرة جدا، ولا تستطيع استيعاب ما فى ذهن سعادته من أفكار ومصطلحات! واضح يا دكتور! واضح جدا! الحق أنك تذّكرنى برجل صرعه غريمه على الأرض وبرك فوق صدره وأشل حركته فلم يعد يستطيع أن يفلفص منه وضاعت كرامته تماما بعد أن حطه تحطيما، إلا أنه مع ذلك كله لا يكف عن الصياح طالبا من المشاهدين الذين انفضح أمامهم أن "يشيلوا من فوقه" ذلك الغريم حتى يتمكن من ضربه! ولكن الدكتور يعرف رغم هذا مستواه الحقيقى فى القدرة على التعبير بالعربية فنراه يلمح إلى أن كتابات أمثاله بالعربية فى هذه الحالة عرضة لأن تكون مبهمة وأن يسمها القراء بأنها أجنبية، إلا أنه يسارع مؤكدا أن ذلك ليس من العيب فى شىء (ج1/ ص8). طبعا، فأنت رجل لا تعرف العيب!
ومن تلك الأخطاء التى لا يقع فيها طالب مبتدئ، فضلا عن أستاذ جامعى لا يعجبه العجب ويدخل علينا وقد فتح صدره مثل "شجيع السِّيمَا، أبو شَنَب بَرِّيمة" وكأنه سيفتح عكا، قوله عن الرسول: "فكَوْنُ أبوه مات وأمه حامل به يصعب قبوله" (ص146)، جاهلا أنها "أبيه" لا"أبوه" لأنها مضاف إليه. ومن ذلك أيضا قوله: "بقدر ما كانت مكة ضيقة فضائيا بقدر ما اتسعت بكثرة وكثافة سكانها" (ص161، وانظرص213، وكذلك ص41 من الجزء الأول)، مكررا كلمة "بقدر ما" فى هذا التركيب غير دارٍ أنها لا تكرر، بل الصواب أن يقال مثلا: "بقدر ما كانت مكة ضيقة فضائيا فقد اتسعت بكثرة وكثافة سكانها". وأمثاله ممن لا يعرفون كيف يتعاملون مع اللغة يكررون أيضا كلمة "كلما" القريبة فى المعنى فيقولون مثلا: "كلما عملتَ ساعات أطول كلما كسبتَ مالا أكثر"، قياسا غبيا على التركيب الإنجليزى والفرنسى التالى: "The more one has, the more one wants Plus on a, plus on désir avoir"، وكأن العرب لم يكن عندهم هذا التركيب قبل الإنجليزية والفرنسية بأحقاب وأحقاب. بل لقد وجدتُ فعلا كلمة "كلما" مكررة عنده مع فعل الشرط وجوابه فى الصفحة 45 من الجزء الأول ، إذ قال: "كلما تقدم الزمن كلما تضخم دور الحديث فى التشريع".
وهذا المستعجم لا يستطيع أن يقول مثلا إن للمسيحية ثقلها الكبير على بلاد العرب، بل كل ما يقدر عليه هو أن يقول إنها "تَزِن بوَزْنٍ كبير على المنطقة" (ص162. وقد ورد هذا التعبير أيضا فى الصفحة رقم 96 حيث يقول إن "أوربا، وهى طليعة الإنسانية، طردت كل القوى الخفية التى وزنت بوزن كبير على البشر من آلهة وشياطين وأرواح وملائكة"). ترى ما دور الأعاجم فى معاونة الرجل وتحبير صفحات كتبه؟ لقد رآها عندهم هكذا: "peser lourdement sur… to weigh heavily upon…"، فترجمها على معناها المادى الأصلى دون فهم للسياق، وهذا أقصى مداه، فكله عنده صابون. مسكين! وقد سبق أن استعملها فى رأس الصفحة السابعة والعشرين من الجزء الأول، إذ قال: "إن تاريخ الأديان كتاريخ لا يزن بوزن يُذْكَر أمام مجال المعتقد ذاته"، ثم أعادها على سبل التأكيد فى أسفل الصفحة ذاتها مع بعض التغيير: "هناك وَزْن تاريخٍ طويلٍ جدا... أتى من الغياهب". ومن تلك الأخطاء المستعجمة قوله عن مفهوم الفارقليط: "إن مفهوم الباراكلبتس كان لا بد من قبل منشغلا فى ذهن النبى... كما انشغل فى ذهن مانى قديما" (ص166). أرأيتم إلى هذه الدُّرَر؟ إنها المرة الأولى، ولسوف تكون الأخيرة، التى أسمع فيها بفكرة تنشغل فى ذهن صاحبها! إنجليزى ده يا مرسى؟
ومن عجمته أيضا تسميته الإسلام: "دين التوحيدية" (ص202)، وقوله تفسيرا لاعتراض المشركين على اختيار الله سبحانه للرسول بدلا من "رجل من القريتين عظيم" بأنه عليه الصلاة والسلام "لم يكن شيئا اجتماعيا" (ص208)، وكذلك جَمْعه كلمة "نواة" على "نواتات" (ص213)، ثم ذلك التركيب العجيب الذى لا أذكر أننى رأيته عند أحد سوى هشام جعيط: "وإنْ نحن نجدها فى "المزَّمِل" ففى الآية 20 الأخيرة" (225). ترى هل يصعب عليه إلى هذا الحد أن يقول: "وإنْ (نحن) وجدناها..."؟ وقد تكرر هذا التركيب الشاذ مرة أخرى على الأقل فى قوله: "وإن هى (أى آلهة القرشيين) لا تتماهى معها (أى مع الملائكة) فهم يعترفون بوجود الملائكة" (ص280). ومن الأعجميات عنده كذلك التركيب التالى الذى يستعمل فيه "إنما" فى جملة اسمية بدون اسم "إن"، وهو ما لم أسمع به من قبل فى الفصحى لا عند كاتب محترم أو غير محترم: "وإسلام أهل مكة المزعوم إنما مرتبط بالغرانيق" (ص227)، وقوله عن المطعم بن عدى إنه "لم يُذْكَر إلا بقلّة، والأقرب عن خطإ، فى قوائم أصحاب الجدل والمعاداة" (ص232)، وهو كلام أشبه برُقْيَة النملة. ومنها قوله عن قصة الغرانيق: "ومفادها بكلمة أن الشيطان حسب التقليد ألقى على لسان النبى آيتين فى مدح آلهة قريش..." (ص272)، والمقصود بــ"التقليد" روايات السيرة والحديث النبوى طبقا لرطانة ذيول الاستشراق، إذ هى ترجمة حرفية قميئة لمصطلح "Tradition"، الذى يستخدمه المستشرقون، بمعنى "السُّنّة" و"التراث" وما أشبه. وهناك كذلك قوله عن تأثر الأسرة، أىّ أسرة، بظهور الرجال العظام فيها أو عدمه: "هل يزن الوسط العائلى بوزنه فى انبثاق شخصية عظماء الرجال أم يزن نقضا؟" (ص254). وهو كلام ككلام شمهورش غير قابل للفهم. وأما قوله إن القرآن هو "من قلة المصادر الدينية الصحيحة التى صورت واقع النزاع القائم" (ص255) فهو كلام خواجات يُقْصَد به أن القرآن هو من تلك المصادر القليلة. ثم نجىء إلى قوله على طريقة العَوَامّ: "هم فى حالة عداء مستمر بين بعضهم" (ص300)، بدلا من "... بين بعضهم وبعض"... إلخ.
وبالنسبة للمنهج الذى يذكر جعيط أنه سيتبعه فى كتابه نراه يقول، فى مفتتح الفصل الأول من الجزء الثانى، عن الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية فى كتب التراث إنه "لا بد للمؤرخ من نقدها وفحصها بكل دقة، فلا يمكن تغليب رواية على رواية أخرى حسب الأهواء أو لإثبات فكرة كما فعل كثير من المؤرخين المحدثين، بل يجب على المؤرخ أن يتجنب تصديق المصادر بدون رويّة بقدر ما يتجنب الإجحاف فى النقد والرفض بدون حجج. والمصادر خاضعة بالأساس للمنطق التاريخى".
لكن هل اتبع دكتورنا "الهاجيوغرافيكالى" الهمام النصيحة التى شنَّف آذاننا بها؟ لنأخذ مثلا تشكيكه السخيف فى قرآنية قوله تعالى: "وأَمْرُهم شُورَى بينهم" فى الآية 38 من سورة "الشورى" بشبهة أنه لا يناسب السياق الذى ورد فيه (ص22- 23)، ومن ثم يزعم أن تلك العبارة هى مما أُقْحِم على القرآن فيما بعد عند كتابته للمرة الرسمية الثالثة فى عصر عثمان، ولم "يَبُحْ" بها النبى، حسب رطانة الدكتور جعيط، الذى لو كان لديه شىء من الحس السليم لفهم أنه بهذه الإمكانات اللغوية المتواضعة بل الوضيعة ما كان ينبغى له أن يتغشمر فى كلامه عن كتاب الله على هذا النحو الجاهل. وأحب أن أقول للقارئ إن ريجى بلاشير، المستشرق الفرنسى الذى أعمى الله بصره فى أخريات حياته مثلما أعمى قبلا بصيرته، كان من شِنْشِنَته الزعم بأن هذه الكلمة أو تلك العبارة لم تكن فى النص القرآنى الأصلى، بل أُقْحِمت عليه فيما بعد. والمقصود من كلام جعيط عن آية الشورى، حسبما أشار هو نفسه عقيب ذلك، أن عثمان قد أضاف هذه العبارة من لدنه كى يضفى الشرعية على تبوُّئه الخلافة. وكأن الشورى تحتاج إلى تبرير، وهو ما يعنى أن الأصل فى أمور الحكم حسبما قرره القرآن وطبقه الرسول هو الاستبداد وقفز كل طامح مغامر على كرسىّ السلطة عَنْوَةً ودون اعتبار أو انتظار لرأى الناس الذين سيحكمهم، فكان لزاما على عثمان أن يضيف إلى القرآن جملة تقول إن الشورى يا مسلمون يا متخلفون هى أمر طيب، ومن ثم فلا وجه لاعتراضكم على الأسلوب الشُّورِىّ الذى وصلتُ به إلى الإمساك بمقاليد أموركم. أليس ذلك أمرا مضحكا؟ فهذا هو مستوى"هاجيوغرافيكاليّنا" اللوذعى فى الفهم والتبرير وقراءة النصوص.
طيب يا دكتور جعيط، سأحاول أن ألغى عقلى وأنزل إليك وأقول: فليكن أن عثمان قد فكر بهذه الطريقة. أليست هناك آية قرآنية صريحة فى وجوب الأخذ بالشورى، وصيغت على نحو أشد وأفعل فى النفوس، وهى الآية رقم 159 من سورة "آل عمران" الموجهة إلى النبى ذاته لا إلى المسلمين بوجه عام، وبصيغة الأمر لا بصيغة الخبر كما فى الآية التى نحن بصددها، وبعد هزيمة أحد التى تمت بعد مشاورة النبى لأصحابه ونزوله على مقتضيات الشورى وخروجه لملاقاة المشركين خارج المدينة حسب رأى الأغلبية فكان ما كان، ورغم هذا يوجب عليه ربه أن يلتزم بالشورى مع المسلمين فى كل الأمور؟ وهذه هى الآية: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". فلماذا شعر عثمان يا ترى أنه لا بد اختراع آية للشورى، وعنده تلك الآية؟ وكيف سكت المسلمون على بكرة أبيهم فى كل بلاد العرب والمسلمين فلم ينكروا ذلك عليه رضى الله عنه؟ وأين كان علىّ كرم الله وجهه؟ بل أين الشيعة منذ ذلك اليوم حتى يومنا الأغبر هذا؟ لكن على من تُلْقِى مزاميرك يا أبا خليل؟
وبالمناسبة فالقرآن عند الدكتور جعيط "مطبوع بطابع عبقرية شخصية ملهمة فى الفكر والتعبير، فى المعانى الميتافيزيقية، فى قوة الإيحاء" (ص25). ولا أظن المعنى إلا واضحا لا يحتاج أى تدخل منى لشرح مقصد الكاتب. ويزداد الأمر عجبا وغرابة حين نرى كاتبنا "الهاجيوغرافيكالى"، رغم ذلك، يؤكد أنه من غير الممكن أن يكون القرآن قد تعرض لأى تغيير فى نصوصه لما له من قداسة شديدة فى نفوس المسلمين ولأنه كان محفوظا فى الصدور والطروس جميعا ويردده الناس فى كل صلاة ويرجعون إليه دائما فى تشريعاتهم بحيث لا يمكن أن يعتريه أى تغيير دون أن يثير ضجيجا وعجيجا يهتز له المسلمون فى كل مكان. عظيم (ص22- 23)، فما المشكلة إذن؟ وكيف يتسق هذا والقول بأن القرآن قد دخلته بعض الإضافات؟ حسبما هو مخطط فسوف يردّ بعض القراء قائلين إن هشام جعيط قد بذل جهدا عظيما ورائعا فى الدفاع عن صيانة القرآن من العبث والتحريف، فلا يعيبه أن يقال إنه قد أُقْحِمَتْ عليه جملة ليست منه لا تقدم ولا تؤخر، جملة صغيرة لا خطر من ورائها، وممن؟ من عثمان ختن النبى وأحد أقرب صحابته إلى قلبه وأحد العشرة المبشرين بالجنة، يا داهية دُقِّى! بالإضافة إلى بعض الحالات المحتملة الأخرى التى سقط من القرآن فيها بعض العبارات أو أضيفت إليه بعض العبارات الأخرى أو كُرِّرَتْ على سبيل الخطإ بعض الآيات أيضا كما ذكر هو نفسه (نفس الموضع السابق). وهنا الخطر كل الخطر، إذ يكفى أن نفتح الباب حتى لو كان مجرد مواربة، فالمهم أنه لم يعد محكم الإغلاق بحيث يكون من السهل بعد هذا دفعه دفعة بسيطة كى ينفتح على مصراعيه، بخلاف ما لو ظل مغلقا بالترابيس المحكمة التى لا تسمح لأحد أن يفتحه. نعم هذا هو المخطط! وأظن القارئ قد فهم عنى دون حاجة إلى أن أعاود الشرح!
وقد سبق إلى ذهنى، قبل أن أتنبه إلى أن من بين مراجع د. جعيط ترجمة بلاشير للقرآن، أن يكون قد أخذ كلامه عن الآية من ذلك المستشرق الذى خصصت لترجمته فصلا فى الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن" ووقفت إزاء هذا الزعم الأحمق عنده مرات مبينا ما فيه من سخف وضلال وبعد عن العلمية والموضوعية التى يتشدق بها مولانا المستشرق وأمثاله. ولهذا قمت الآن فأحضرت ترجمة بلاشير من الصوان القريب منى حيث أكتب هذه الدراسة، وفتحتها على الآية المذكورة فألفيته يقول إن الطبرى يفسرها بأنها تتحدث عن مشاورات الأنصار بخصوص هجرة النبى عليه الصلاة السلام إليهم والعيش معهم فى يثرب، ثم يضيف أن مثل هذا التفسير لا يتمشى مع السياق (Blachère, Le Coran, Librairie Orientale et Américaine, Paris, 1957, P. 515, N. 36). وهذا ما قاله جعيطنا حَذْوَك النعل بالنعل، إلا أنه ككل تابع مخلص أمين فى تبعيته قد أضاف ما هو أشنع. ذلك أن بلاشير قد اكتفى بأن المراد فى الآية هو المشاورة اليومية فى كل مناحى الحياة لا فى أمر الهجرة فحسب، أما جعيطنا فأراد أن يكون كلامه من النوع الحراق المشطشط فأشار إلى عثمان ووصوله إلى الخلافة عن طريق الشورى. طبعا حتى يثبت لمتبوعيه أنه مخلص لهم وأمين وأنه يستحق الطنطنة التى يُحْدِثونها له يلفتون بها الأنظار إلى عبقريته التى لم تلدها ولادة؟
ولأنه عبقرى لم تنجب النساء مثله فهو ليس بحاجة إلى أن يقدم دليلا على ما يقول ولا أن يتجشم البحث عن حجة يسند بها هراءه هذا المتمخط، وإلا فلماذا لم يقل لنا كيف لا تتسق الجملة المذكورة مع السياق الذى وردت فيه؟ كنا نحب أن يكلف نفسه شيئا من التعب فيذكر لنا الحيثيات التى قال على أساسها ما قال. لكنه فى الواقع لا يعرف شيئا عما يهرف به. إنما هو كلام نقله من بلاشير، ثم أضاف إليه ما أضاف، وربما كان ما أضافه هو رأيا لمستشرق آخر لم يُكْتَب لنا أن نطلع عليه لأنه لم يسجله فى كتاب مثلا، بل اكتفى بأن ألقاه إلى صاحبنا وترك له مهمة نشره فى العالمين.
وحتى لا يظن أحد أننا نغالى بعض الشىء فى كلامنا عن هشام جعيط أرانى مضطرا إلى نقل عبارة له تكشف موقفه هنا بوضوح، إذ قال فى مقدمة الجزء الثانى من كتابه (ص8) إنه "لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب والمسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميا"، وهو ما يعنى أنه لا بد أن نكون نسخة أخرى من المستشرقين، وإلا فليقل لى أحد كيف نصنع ما يطالبنا به جعيط، وبالشرط الذى اشترطه، إلا أن نكون نسخة أخرى منهم؟ أليسوا هم واضعى المناهج التى يصفها بــ"المناهج المعترف بها عالميا"؟ ويزيد الطينَ بلّةً قوله قبيل هذا عن العرب والمسلمين إنهم "أناس لهم عادةً رؤية مسبقة مستقاة من التربية الدينية ومن الجهاز الثقافى لكل فرد" (ص7)، بما يعنى أن هذه سمة من سماتنا نتميز بها عن غيرنا، وبالذات الأوربيون الموضوعيون المجردون من مثل تلك التأثيرات، مع أنه سرعان ما يقول عقب هذا إن الرأى العام الغربى، ومعه بعض المستشرقين، متأثر بتراث سلبى عن الرسول. إلا أنه يصف الغربيين رغم ذلك، وفى نفس الموضع، بأنهم هم الذين أسسوا العلم الحديث فى كل مكان وتقدم على أيديهم علم التاريخ تقدما بالغا. ثم تأخذه حالة الجلالة التى تعترى بعض الدراويش فيعلن بملء فيه، وبكل جسارة "هاجيوغرافيكالية" تليق به وبعبقريته الاستبصارية، أن أوربا فى العشرين سنة التى سبقت بداية القرن العشرين وتلك التى تلتها قد تم لها الانفتاح على كل شىء فى الحياة واستكشاف كل شىء تقريبا فى المعرفة والفن (ص10). ولم يفته، وهو يتطوح من الوجد "الهاجيوغرافيكالى" كأى درويش أصيل، أن يسمى تلك الفترة بــ"اللحظة المذهلة فى الحقيقة"! وهو كلامٌ جنونىٌّ بكل يقين، إذ معناه أن البشرية إنما تلعب الآن فى الوقت الضائع وأن حَكَم المباراة سيطلق صفارة النهاية بين لحظة وأخرى لينفض السامر ويذهب كل حى إلى حال سبيله. ترى أين ينبغى أن نضع هذا الكلام "الهاجيوغرافيكالى"؟ الحق أن مكانه هو أقرب مزبلة!
وبعد هذا كله نجده ينتقد كثيرا من كتابات المستشرقين فيرمى بعضها بأنه ليس من العلم فى شىء (ص11)، وينبز بعضها الآخر بالعدوانية (ص13)، ويحكم على بعض ثالث بأنه لا يمثل "سوى عدم الشعور بالمسؤولية العلمية" والانفلات من العقال والابتعاد عن الصرامة المنهجية التاريخية (ص14)، وهو ما يحير الباحث المسكين من أمثالنا غير "الهاجيوغرافيكاليين" فلا ندرى أنغلق الشباك الاستشراقى أم نفتحه. حيرك الله يا دكتور جعيط كما حيرتنا ودوختنا وراءك "السبع دوخات" دون أن تستقر بنا على حل!
وعودةً إلى ما زعمه عن الآية المذكورة نقول إن المضحك فى الأمر هو ترديده لزعم عدم اتساق عبارة الشورى مع سياقها بثقة من يفقه العربية ويستطيع تذوق أساليبها فيعرف ما يتسق منها وما لا يتسق، على حين أنه فى الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك تمام البعد. عشنا وشفنا واحدا ركيك العبارة كهشام جعيط يفتى فى القرآن فينفى من نصوصه ويثبت، وعنده أم الكتاب. فسبحان أبى جهل! يا رجل، عيبٌ ما تفعل. اذهب أولا فتعلم لغة القرآن، ثم تعال بعد ذلك واجلس منه مجلس التلميذ "الذكى" الذى يريد أن يزداد من العلم لا أن يتمرد حتى يرضى عنه قوم آخرون لعنة الله عليهم وعلى من يصيخ السمع إليهم ويعمل على إرضائهم ويفرح بما يقولونه فيه رغم أن ما يقولونه ليس إلا الجهل والخبث بعينه يُثْنُون به على تابع لهم ينعق بما ينعقون به لا يخرج عنه، وإن كان ينعقه أحيانا بطريقة تبدو مختلفة، إذ يرسمون له خطوطها العامة ويتركون له التفاصيل. واضح، يا دكتور جعيط، أن كلامك فى أول الفصل عن وجوب وزن الروايات التاريخية جيدا والترجيح بينها فى تجردٍ من الهوى هو مجرد كلام لم تنتفع أنت به، بل كنت أول من أدار له ظهره من الناس ولم يمر على قولك إياه إلا ثوانٍ ليس إلا. ويزيد الأمر فداحة أنه ليس أمامنا فى الآية المذكورة إلا رواية واحدة، وهو ما يعنى أنك قد اختلقت المخالفة هنا اختلاقا، ولم يكن رأيك مبنيا على موازنتك بين روايتين أو أكثر والترجيح بينهما واختيار واحدة دون الأخرى بناء على ما أداك إليه عقلك وتفكيرك، بل هو مجرد نقل لما قاله بلاشير مع تتبيله بالشطة السودانية الحراقة.
وبالمثل فقوله إن من المحتمل أن تكون بعض الآيات القرآنية قد كُرِّرَت على سبيل الخطإ ليشبه ما قاله الشيخ أبو بكر حمزة، الجزائرى الذى كان شيخا للمعهد الإسلامى التابع لمسجد باريس والذى ترجم القرآن الكريم إلى لغة الفرنسيس، حين وقف إزاء الآية رقم 52 من سورة "الأنفال" وكأنها معضلة مؤرقة تطير النوم عن جفنيه مدعيا أنها ليست سوى تكرار للآية التى قبلها بآية، وأن جامعى القرآن على عهد عثمان رضى الله عنه قد وصلتهم روايتان مختلفتان لآية واحدة، فلما لم يستطيعوا أن يحددوا أيتهما هى الصحيحة، وأيتهما هى الخاطئة، اضطروا إلى إثباتهما معا فى المصحف وخرجوا بذلك عن العهدة (Le Cheikh Si Boubakrur Hamza, Le Coran- Traduction Nouvelle et Commentaires, Fayard-Denoel, Paris, 1972, T. 1, PP. 361- 362، بالهامش). وهو كلام كاذب لأنه ليس ثمة أحد قال بوجود روايتين مختلفتين هنا لآية واحدة، بل هو ادعاء ساقط من عنديات شيخنا الهمام كادعاءات جعيط، فضلا عن أن الآية الثانية ليست تكرارا للأولى بأى حال، وفضلا كذلك عن أن القرآن ملىء، ككثير جدا من النصوص العلمية والأدبية والمقدسة، بالجمل والعبارات المتكررة، فلماذا هذه من دون مثيلاتها جميعا هى التى أسهرت ليالى أبو بكر حمزة وجعلته يقضى عمره يتقلب على فراش الشوك لا يستطيع أن يهنأ بغمض جفنيه ولو لحظة؟ إنها ذات الخطة. نعم إنها ذات الخطة حتى يبتلع القارئ المسكين السم المدسوس فى العسل ويتوهم أن المترجم المخلص الأمين قد بذل كل جهده لحل المشكلة عبثا وأنه حين قال ما قال لم يكن أمامه إلا هذا. وإلا فلماذا لم يقل ذلك فى غيرها من الآيات المشابهة والمتطابقة؟ إنها طبعا الأمانة العلمية ولا شىء غير الأمانة العلمية. ويمكن القارئ أن يعود إلى ما كتبته تفصيلا فى هذه النقطة فى الفصل الرابع من الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه" (دار القاهرة/ القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 87- 89)
وهذا نص الآيتين فى سياقهما كاملا حتى يطمئن القارئ إلى ما نقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)".
ومثل ذلك فى السخف تشكيك جعيط فى العام الذى وُلِد فيه النبى دون أدنى حجة أو رواية يمكنه الاعتماد عليها فى وجه الروايات المتعددة التى تؤكد أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام 570م. على أية حال تعالَوْا بنا نَرَ ماذا فى جعبة عالمنا "الهاجيوغرافيكالى". قال: "لم يولد محمد فى رأيى قبل سنة 580م أو حواليها أو بعدها، وكل ما ذُكِر عن سنة 570م لا يصمد أمام الفحص لسببين: هجمة أبرهة على العرب وقعت فى سنة 547م حسب النقوش، ولا يوجد أى سبب لكى يولد محمد على أية حال "عام الفيل". وهذا إنما هو علامة زمنية ليس أكثر. من وجهة أخرى إن صح أن البعثة حصلت حوالى 610م وأن الهجرة إلى المدينة وقعت قطعا فى سنة 622م حسب شهادة أوراق البردى التى لدينا، فلماذا تقرر المصادر أنه بُعِث فى الأربعين من عمره؟ إجماعها حول هذه النقطة لا قيمة له، فسِنُّ الأربعين فى ذلك الزمان سنُّ شيخوخةٍ، وليس بسن كهولة، وقد قضى النبى فيما بعد عشرين سنة أو أكثر وهو فى كامل نشاطه. ورقم الأربعين رقم سحرى لدى الساميين، وقد حللنا هذا فى الجزء الأول. ومن المستغرب أن يشير القرآن إلى هذه السن على أنها السن التى يبلغ فيها الإنسان أَشُدّه: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ" (الأحقاف/ 15). ما معنى هذه العبارة؟ وهل المقصود قراءة خاطئة أو شىء آخر؟ على كلٍّ رأيى أن كتب السِّيَر، زيادة على ما شُحِنَتْ به سن الأربعين من معنى دينى سحرى، اعتمدت أيضا على آية قرآنية تقول: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (يونس/ 16). ما المقصود بالعمر؟ حياة كاملة أو ما يشبه ذلك؟ فى الثقافات القديمة هى ما نسميه بالجيل، والجيل عدد السنين الكافية جسديا لكى ينجب الإنسان وتنجب بذرته، أى ابنه، إنسانا آخر. وهو يعنى سن الثلاثين أو ما يقارب ذلك. لكن هذه السن أيضا أخذت طابعا شبه سحرى: فالإسكندر غزا العالم فى سن ثلاثة وثلاثين، والمسيح بُعِث فى الثلاثين. على أنه لا شك فى أن "العمر" فى الفهم العربى يعنى ذلك لأن الناس يتزوجون عند البلوغ أو بعد ذلك بقليل. وهذه السن عالية نسبيا على أية حال، ويكتمل فيها نضح الإنسان. وبالتالى رأيى أن محمدا بُعِثَ فى الثلاثين أو حتى قبل ذلك، ولم يولد إلا حوالى 580م، ولم يعش إلا خمسين سنة ونيف" (143- 144. والموضع الذى أشار إليه فى الجزء الأول من الكتاب هو ص119).
وأولا أحب أن ألفت النظر إلى الخطإ فى قوله: "لم يعش إلا خمسين سنة ونَيِّف"، وصوابه: "ونَيِّفًا" لانعطافها على الظرف المنصوب، وهو كلمة "خمسين (سنة)"، وكذلك إلى الركاكة العامية فى قوله عن الإسكندر إنه قد غزا العالم "فى سن ثلاثة وثلاثين". إن هذا كلام سوقى لا يصلح أن يقوله كاتب محترم. وكل من له أدنى تذوق للعربية يقول: "فى سن الثالثة والثلاثين"، أما ما قاله هشام جعيط فهو من كلام الشوارع العامى!
وثانيا لا بد من التنبه إلى أنه لن يترتب شىء على الإطلاق على كون النبى وُلِد فى هذا العام أو ذاك، فلماذا يرهق هشام جعيط نفسه إذن ويرهقنا ويزعجنا معه فى مخالفة ما هو مُجْمَع أو شبه مجمع عليه؟ إنها الرغبة فى إفقاد القارئ العربى والمسلم الثقة فى تاريخه وسيرة نبيه وقرآنه وعلمائه وكل تراثه. إنها الشهوة الجامحة الجاهلة فى خلخلة ما هو صُلْبٌ مستقرّ ثابت لا لكى يحرك الأذهان الجامدة كما سوف ينعق بما لا يفهم، بل لكى يترك هذه الأذهان وقد شكَّتْ فى كل شىء ورأت الضياع مكشرا عن أنيابه فى وجهها يريد أن يفترسها. الروايات، كما يقول، تُجْمِع (خذ بالك: تُجْمِع!) على كذا وكذا من الأمور، لكن علامتنا الفهامة يقول: طظ فى هذا الإجماع. والسبب؟ السبب هو أن له رأيا آخر. وعلام يستند رأى "أبِى رأىٍ" هذا؟ لا يستند إلى شىء. إذن فماذا نقول فى القرآن، وهو يقرر أن سن الأربعين هى سن تمام القوة والنضج؟ بسيطة! وهل جئتَ فى جمل يا رجل؟ نقول إن قراءة الآية غير صحيحة. لكن كيف؟ يا أخى، هذا أمر من التفاهة بمكان بحيث لا ينبغى لجلالته أن يشغل نفسه بها. وهل يليق بمن فى مثل مكانته جل جلاله أن يتنزل إلى مثل تلك الأشياء التافهة؟ وماذا يضير أن تكون الآية صحيحة القراءة أو خاطئتها؟ أرجو أن يلاحظ القارئ الكريم أن هشام جعيط ينكر صحة الروايات التى أجمعت، كما يقول، على ولادة النبى فى التاريخ الذى نعرفه، وأنه لا يستند فى هذا الإنكار إلى أى شىء سوى أنه يرى ذلك، وكأن الأمر هنا هو مجرد وجهة نظر طَقَّتْ فى دماغه دون سبب، وأنه لما رأى آية قرآنية تعترض طريقه المتعسف لم يجد أمامه شيئا يرد به سوى أن الآية خاطئة القراءة أو أى شىء من هذا القبيل. وهذا هو العلم الذى بشرنا به فى المقدمة زاعما أنه سيأتى بما لم يأت به الأوائل ولا الأواخر ولا الأواسط. طبعا لا يمكن أن يأتى عاقل يحترم نفسه ويحترم المنهج العلمى بمثل ما أتى به هشام جعيط. ذلك أن ما أتى به هشام جعيط ليس علما ولا منهجية، بل تطاولا وغلظ وجه! فمثل هذا الشخص حين يقال له: ما الدليل على أن رقم الأربعين رقم سحرى؟ أو من قال لك إن العمر هو الجيل؟ أو على أى أساس قلت إن الجيل هو ثلاثون عاما أو أقل؟ أو ما وجه الخطإ فى قراءة الآية؟ فإنه لا يقدم دليلا على ما يزعم! إنما هو كلام، والسلام، وكأننا فى مغالبة ومغايظة. وما هكذا يكون العلم ولا المنهجية التى يفلقنا هو وأمثاله بالثرثرة الفارغة المتنطعة حولها. وعلى هذا النحو لا يمكنك أن تمسك بشىء مما يقوله هشام جعيط لأنك تتعامل مع زئبقٍ رجراجٍ لا يستقر على حال!
وقد رجعت إلى"لسان العرب"، الذى اعتدَّه هو نفسه أحد مراجع السيرة المعتمدة (ص15)، لعلى أجد أن كلمة "العمر" تعنى الجيل من الناس كما يزعم صاحبنا "الهاجيوغرافيكالى" ولو على سبيل المجاز فلم أجد شيئا من ذلك التنطع السمج. وأزيده من الشعر بيتا فأقول له إن كلمة "جيل" لا تدل فى لغة القدماء على ما يقول، بل "الجيل" عندهم هو الصنف من البشر: فالصينيون مثلا جيل، والعرب جيل، والروم جيل، والترك جيل، أو هو كل قوم لهم لغة خاصة بهم. وواضح أن "الجيل" إنما يعنى شيئا قريبا من الشعب أو الأمة كما نعرفهما اليوم. ومعنى هذا أن الله قد ضرب على الدكتور جعيط الأسداد من كل جانب. إلا أننى لا أنتظر منه أن يفىء إلى الحق، وإن لم يكن ذلك على الله ببعيد، والله المستعان على كل حال.
ترى ما مصلحة المسلمين فى أن يزعموا كلهم على بَكْرة أبيهم أن نبيهم إنما بُعِثَ فى الأربعين إذا كان قد بُعِث فى الثلاثين؟ أو ترى ما الخوف الذى دفعهم جميعا من هاشميين وأمويين ومنافقين ومرتدين، ومن مكيين ومدنيين وطائفيين ويمنيين ونجديين وبحرانيين وعمانيين، ومن عرب وغير عرب، على مر القرون إلى تغيير تاريخ البعث الحقيقى؟ ثم إن جعيط قال إن سن الثلاثين هى كذلك ذات طابع سحرى، ومع ذلك يقول إنه عليه السلام قد بُعِثَ فى سن الثلاثين. فلماذا كانت حلوةً منه، ومُرّةً من الأقدمين؟ العلة تكمن فيما قلته قبل قليل من أن مراده هو خلخلة الثقة ونسف الاطمئنان إلى أى شىء يتعلق بديننا ورسولنا وقرآننا وتراثنا، وكل شىء بعد ذلك يهون. ثم لماذا ينبغى ألا يولد النبى فى عام الفيل كما يقول؟ أهو ضد قوانين الكون؟ ألا يرى القارئ سخف منطق هذا الرجل؟ والمضحك العجيب أن ولادة النبى سنة 570م لا تجعل مجيئه إلى الدنيا متوافقا وعام الفيل حسب تحديده لتاريخ ذلك العام، الذى أكد أنه حل قبل ذلك بثلاثة وعشرين عاما، ومع هذا يصر على أنه صلى الله عليه وسلم لم يولد فى سنة 570م. أى أنه لن يرضى عن شىء ولن يسلّم بأى شىء مما أجمعت عليه الروايات حتى لو انطبقت السماء على الأرض! كذلك من أين له بأن سن الأربعين كانت فى ذلك الزمان سن شيخوخة؟ فليأتنا بأثارة من علم إن كان من الصادقين. ولا أظنه يريد أن يقنعنا بأن العرب فى ذلك الزمان كانوا إذا ما بلغ الواحد منهم الأربعين ينحنى ظهره ويشيب شعره ويهرم ويحال إلى الاستيداع، فينكفت فى كسر بيته قائلا: "هيه! يا للا حسن الختام!"، انتظارا لمجىء أحد العساكر ببندقيته ليطلق عليه رصاصة الرحمة كما يفعلون مع خيل الحكومة!
المعروف، بالعكس من ذلك، أن سكان البوادى كثيرا ما تطول أعمارهم أطول من سكان الحضر لهدوء حياتهم وبساطة أطعمتهم وابتعادهم عن الضغوط العصبية وعدم تعرضهم للملوثات الهوائية والمائية والطعامية والأمراض والأوجاع التى يصعب علينا الآن نحن أهل الحضر تجنبها تماما. وهو ذاته رغم كل الهلس والهجس الذى صدَّعنا به يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه عاش بعد المبعث عشرين عاما وهو فى كامل قوته ونشاطه. وهذا ينسف كل ما قاله، إذ ما دام الناس فى ذلك الزمان يشيخون بالسرعة التى ذكرها، وهى سن الأربعين، فكيف ظل شيخ كالنبى فى كامل قوته ونشاطه لمدة بضع عشرة سنة أخرى، أى منذ أن بلغ الأربعين بعد بعثته بعشر سنوات طبقا لحسابه الحلمنتيشى؟
ولأبى حاتم السجستانى كتاب مشهور عنوانه: "الوصايا والمعمَّرون" نقرأ فيه أن ثمة ناسا فى الجاهلية طالت أعمارها طولا شديدا حتى لقد تجاوز عمر البعض منهم ثلاثمائة سنة. ولست آخذ هذا على حرفيته، إلا أن تكرار الكلام فى هذا الموضوع يؤكد أن طول العمر فى تلك الأزمان كان أمرا صحيحا. وهناك من عاشوا فى زمن النبى أكثر من مائة عام، ولم يكونوا يثيرون استغراب من حولهم، ومنهم النابعة الجعدى، الذى أكتفى هنا بذكره لأن لى كتابا عنه وقفتُ فيه أمام مسألة السن هذه وناقشت بعض المستشرقين الذين أنكروا عليه طول العمر، وإن لم أذهب إلى المدى البعيد الذى ذهبت إليه بعض الروايات المغالية. بل إنّ تزوُّج الشيوخ وقتذاك بفتيات صغيرات كان أمرا مألوفا، ولو كانت الشيخوخة والعجز يبدآن فى الأربعين على ما يزعم الدكتور جعيط لما رأينا أولئك الشيوخ يجرؤون على الزواج فى تلك السن، فضلا عن أن تكون الزوجة فتاة شابة! بل لقد كان الشيوخ أقوى من كثير من شباب اليوم على تحمل ويلات الحياة ومشقاتها دون شكوى، وبخاصةٍ ويلات الحرب والجوع والعطش والسفر الطويل المرهق والعمل اليدوى المضنى. وما زلنا فى عصرنا هذا نسمع بناس قد تجاوزوا المائة، فما بالنا بتلك الأزمنة؟ وفى موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية نقرأ أن فى العصر الحديث من عاش 122 سنة و146 يوما، وهى جين لويز كالمون (Jeanne Calment)، الفرنسية التى عاشت من 12 فبراير 1875م إلى 4 أغسطس 1997م.
ومن المحتمل أن يكون ناس فى الأزمنة القديمة قد عاشوا أطول من 122 عاما، إلا أنه لم يسجَّل رسميا لأن القدماء لم يكونوا يعرفون مسألة الأرقام القياسية والإحصاءات العامة وما إلى ذلك، وإن لم يمنع هذا من تأليفهم كتبا ككتاب السجستانى: "المعمَّرون والوصايا"، الذى لا أظن أن كل ما فيه عبارة عن مبالغات وخرافات كما قد يتبادر إلى أذهان المغرمين بالتكذيب "لله فى لله"، وإلا فلنكذب القرآن أيضا، ففيه وفى العهد القديم معا أن نوحا عاش نحو ألف عام. ولكنْ على من يكذّب القرآن أن يقيم الدليل على أن ما يقوله كتاب الله فى هذا الموضوع كذب أو خرافة. ومَنْ يا ترى يستطيع ذلك فى أمرٍ مضى وانقضى ولم يعد ثم سبيل إلى إرجاعه أو إلى الطعن فيه؟ بالإضافة إلى أن قياس أمور القدامى على أمورنا فى كل تفاصيلها منهج خاطئ: فى بعض الحالات على الأقل. ومن هنا فلست أشاطر كاتب مادة "Life expectancy" فى موسوعة "Wikipedia" فى قوله: "Although there are several longevity myths mostly in different stories that were spread in some cultures, there is no scientific proof of a human living for hundreds of years at any point of time"، إذ كيف يمكنه التحقق من أن ما ينكره لم يحدث فى الماضى، وبخاصة أن هناك من أكدوا حدوثه، ومن الصعب الزعم بأنهم جميعا كاذبون أو خاضعون لتأثير الفكر الخرافى تماما؟ وفى أقل القليل إذا كان العلم لا يستطيع إثبات طول العمر قديما إلى مئات السنين فإنه بالمقابل لا يستطيع إثبات عدمه.
على أنه لا بد لى هنا من تسجيل شكرى لهشام جعيط رغم ذلك لأنه، والحمد لله، قد وافق كتاب السيرة القدماء على أن النبى هو فعلا من بنى هاشم وأنه مكى، وليس من وسط جزيرة العرب (ص144) كما تقول صاحبة كتاب الــ"Haggerism" المستشرقة باتريشيا كرونة أم سن ذهب (أو فضة، لا أدرى بالضبط، فقد كنت رأيتها مرتين أو نحو ذلك فى أوكسفورد فى أواخر سبعينات القرن الماضى، ولست متأكدا الآن أكانت سنها ذهبا أم فضة، وكانت حركات يديها وهى تشيح بهما أثناء المحاضرة تفتقر إلى رقة النساء وتوحى لك بأن المتحدث ذكر لا أنثى). ولك أن تتخيل مبلغ سعادتى وسر شعورى بأنه لا بد لى من شكر د. جعيط إذا عرفت أننى كنت واضعا يدى على قلبى خشية أن تعتريه واحدة من بدواته غير العلمية أو المنهجية أو المهلبية بالألماظية، وما أكثرها وأعصاها على الانضباط، فيُقِلّ عقله ويدخل فى منافسة حمقاء مع الست كرونة ويزعم أنه صلى الله عليه وسلم ليس من مكة ولا من بنى هاشم ولا من أواسط الجزيرة ولا هو عربى أصلا ولا فصلا، بل يابانى. نعم يابانى من بلاد الواق واق بعينين مشقوقتين بالموسَى كسائر أهل اليابان، ومنهم ابنا الأستاذ ميسرة عفيفى صديقنا المصرى المقيم هناك! وأرجو من القراء ألا يظنوا بى المبالغة حين أذكر اليابان، فهم لا يعرفون فجور كارهى الإسلام. ألم يقل طه حسين، عندما نفى مصر عن الشرق جملة وتفصيلا فى كتابه الآثم السخيف: "مستقبل الثقا".