حَرَكَةُ الْأَسْماءِ الْعَرَبيَّةِ
د. محمد جمال صقر
1
مساء الأحد الأول من كل شهر عربي بمجلس قَصْرٍ ضَخْمٍ فَخْمٍ ، تنعقد أَحَديَّةُ الأستاذ الدكتور سليمان الرحيلي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طيبة من المدينة المنورة ( صالونه الثقافي ) . وليلة الأربعاء 26/6/1431هـ = 9/6/2010م ، هاتفني صاحب الأَحَديَّة في أن أختار مسألةً أحاضر بها ضيوفه هذا الأحد القادم 1/7 ( ليلة الاثنين ) ، ويحاورونني فيها :
- أَمْثالُكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ ، لا يَجوزُ أَنْ يَمُرّوا عَلَيْنا وَيُحْسِنوا إِلَيْنا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ نُؤَدِّيَ لَهُمْ بَعْضَ حُقوقِهِمْ عَلَيْنا ؛ وقد رأينا أن نصطاد الْعُصْفورَيْنِ بِحَجَرٍ واحِدٍ !
فهمت أنه لقاء وعشاء ، وقبلت دعوته الكريمة ، ووعدته أن أختار ما يناسب عموم المثقفين ، وطمأنته بأنني أعرف النظام ، فنفى قلقه من ذلك ، وانتظر أن أحدد له المسألة الخميس .
حِرْتُ فيما أحاضر وقد تَوَرَّطْتُ ولا وقت :
- لا حيلة إلا أن أعيد محاضرة قديمة !
مررت في خزانة حاسوبي العامرة ، فبَرَزَتْ لي محاضرتي " قرابة الأدب " التي نشرتها بالجزء الثاني من " نجاة من النثر الفني " ، ثم انْسَلَخَتْ منها فكرةُ موازنةٍ في دقائق تجربة الشوق إلى مكة المكرمة ودقائق التعبير عنه ، ولاسيما أننا في المدينة المنورة أختها البرة - شرفهما الله تعالى ! - بين قصيدتي محمد رجب البيومي وأبي همام عبد اللطيف عبد الحليم ، ثم انْسَلَخَتْ من هذه فكرةُ تزويرِ معاني الأسماء من خلال قصيدة أحمد بسام ساعي " في هوى الإرهاب " وما أشبهها ؛ فإذا الفكرةُ قد انْسَخَلَتْ ، فَسَطَعَتْ ( سياسة التسمية ... فلسفة التسمية ... حركة التسمية ... حركة الأسماء العربية ) ! أرسلت إلى صاحب الأَحَديَّة رسالة جَوّاليّة ( مَحْموليّة ، نَقّاليّة ، خَلَويّة ، مُبَيْليّة ) ، أُحَدِّدُ العنوان ( حَرَكَةُ الْأَسْماءِ الْعَرَبيَّةِ ) ، لأُلْزِمَ بتَوْفِيَتِه نَفْسي . ثم لم أَكَدْ أفكر فيه حتى زارني صديق كريم لم أره منذ ربع قرن ، وانقطعت له حتى لم ننم ليلتنا ، وترددنا على الحرم بسيارته ، نصلي ، ثم نخرج فلا نعرف السبيل بالسيارة ، فنذرع من المدينة المنورة حَلْقَةً مُفْرَغَةً !
أفلتت مني ليلتا الجمعة والسبت إلا قليلا ، فتَعَجَّلْتُ الفراغ . ثم طلبتُ من صاحب الأَحَديَّة أن يوصي بي مِنْ رواد الأَحَديَّة مَنْ يُقارِبُني سَكَنًا ؛ فحملني إليه من بعد صلاة العشاء ، الأستاذُ الدكتور ياسر نور ، الشاب اللطيف المكرم ، أستاذ التاريخ المشارك بجامعتي طيبة والمنصورة ، فإذا المجلس حافل ، طوع يديه التمر والماء والمناديل الورقية والقهوة العربية والشاي الأحمر والشاي الأخضر ! أجلسني صاحب الأَحَديَّة بصدر المجلس ، وجلس عن يميني ، وأجلس أكبر ضيوفه علما وفضلا عن يساري من دون أن أدري ، ثم جلس غَيْرُنا حيث انتهى به المجلس . قدمني صاحب الأَحَديَّة بما تيسر له ، ثم أتاح لي أربعين دقيقة .
2
شكرت لصاحب الأَحَديَّة هذا التقدير الكبير ، ورجوت أن أُوَفَّقَ إلى ما يُمْتِعُ الضيوف ويُغْريهم بالمشاركة ، واعتذرت عن تقصيري المُتَوَقَّع ، بقصر مدة الاستعداد لمَقامٍ يستحق الإحاطة الكاملة ، وبكوني لغويا أديبا مسكينا لا يقوم لعلماء الحضارة ، ولا يملك لها غير فَهْمٍ شِعْريٍّ تَخْييليٍّ مِسْكينٍ ، يراها فيه شجرةً جَذْرُها المَعْنويّاتُ وفَرْعُها المادّيّاتُ ، ولا حَياة للفرع إلا بالجذر ولا سُطوع للجذر إلا بالفرع ، وليست المعنويات غير الثقافة ( العقيدة وما انبنى عليها من علوم ومعارف وخبرات وأقوال وأفعال وإقرارات منذ اعْتُقِدَتْ ) ، التي تجري في خلاياها لغتها الخاصة مجرى النُّسْغ الدافق . ثم وعدت الضيوف بالإيجاز ، عجزا لا فصاحة ، ورغبةً في الإنصات إليهم ، ولاسيما أنني انتويت أن أشارك بكلمة الليلة في ندوة دولية مقبلة ، ولا أستغني في تطويرها عن تعليقاتهم . ثم ذكرت لهم أنني عَنْوَنْتُ الكلمة بـ" سِياسَةُ الْأَسْماءِ الْعَرَبيَّةِ " ، ثم خِفْتُ أن يَفْهموني صَوابًا ( أن يُصيبوا فَهْمي ) ، فوضعت " حَرَكَةُ " موضع " سِياسَةُ " !
3
أُحِبُّ مِنَ الْأَسْماءِ ما وافَقَ اسْمَها وَأَشْبَهَه أَوْ كانَ مِنْهُ مُدانِيا
جَميلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَعْمَرٍ الْعُذْريُّ
مما يجوز أن تسمعه هذه الأيام إذا استحسنت لبعض آبائنا من أسماء أبنائهم العربية ، واستقبحت لغيرهم من أسماء أبنائهم العجمية :
- دعونا من الأسماء العربية ! حدثونا عن الأفعال العربية ! إِلامَ نَظَلُّ مخدوعين بتراث الأسماء العربية الجوفاء الصاخبة ! إذا فعلنا أفعال الملائكة ، لم يَضُرَّنا أن نَتَسَمّى بأسماء الشياطين !
فإذا فمك الذي انفتح لتَذَوُّق فَرْقِ ما بين حُسْن عُروبة الاسم وقُبْح عُجْمته ، قد جَمَدَ على الحَجَرِ الذي أَلْقَمَكَ إياه الأبُ الذي لم تستحسن اسمَ ابنه العَجَميَّ ، وكأنك اعتقدت عقيدة فاسدة ، ثم انطلقت تفسد الحضارة الإنسانية !
سبحان الله ! ما أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبارِحَةِ !
ألم يكن من معالم خداع الصهاينة في زمان ذِلَّتهم للغربيين ، أن حَرَّفوا أسماءهم العبرية ، إلى أسماء غربية - وإن بقيت معروفة لأهل العلم - واخْتَفَوْا بها في سَواد الغربيين ، حتى إذا ما الْتَبَسَت الأسماءُ الْتِباسًا تامًّا ، ظهرت الأفعال الفاسدة المفسدة ، وأظهرت معها الأسماء الخفية !
أَتُرى ذلك العربيَّ المستعجمَ ، يَسْتَنُّ بسنة الصهاينة ، أم يَتَمَنّى أن ينخدع الغربيون مرة أخرى !
ليت ذلك الساخرَ من الأفعال العربية ، الساخطَ على الأسماء العربية - عرف أن تعريب الأسماء هو طريق تعريب الأفعال ، إذًا لتحولت حاله ، وتغير مقاله ! ليته ذكر كيف عَلَّمَ الحقُّ - سبحانه ، وتعالى ! - آدمَ " الْأَسْماءَ كُلَّها " ، ثم غَلَّبَه بعلمها على ملائكته ، ثم أهبطه بعد حينٍ إلى الأرض ، حيث احتاج إلى معاملة تلك الأشياء المُسَمّاة ؛ فاشتق منِ اسمِ كل شيءٍ يعامله ، فعلَ معاملته ، فَلاءَمَه أحسنَ مُلاءَمَة ، وظل يفعل ذلك ، حتى رسخت له فيه ملكةٌ .
ربما أشار إلى هذه الملكة البُستي بقوله :
تَنازَعَ النّاسُ فِي الصّوفيِّ وَاخْتَلَفوا قِدْمًا وَظَنّوهُ مُشْتَقًّا مِنَ الصّوف
وَلَسْتُ أَمْنَحُ هذا الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى صافى فَصوفِيَ حَتّى لُقِّبَ الصّوفي [1]
ثم مضى بنو آدمَ بمَلَكَةِ أبيهم على سُنَّتِه ، واتسعت لهم الأرض ، وتفرقوا ذكورا وإناثا وشعوبا وقبائل ، واختلفوا ألسنة وألوانا ، ولكنهم بقوا ينتبهون إلى وُجود الشيء ، فيُسَمّونه ، ثم يعاملونه باسمه ، فيشتقون منه أفعال معاملتهم له ، فإن لم يُسَمّوه أنكروه ، وكأنه لم يكن ، أو كأنهم لم ينتبهوا إليه ، حتى ظهرت فيهم على اختلافهم ، لغةُ " لا مِساسَ " ، لغةُ الحديث عن الشيء المنكر ، لغةٌ يتجنب فيها بنو آدم تسمية الشيء إذا أنكروه ، وكأنه إذا سُمِّيَ حضر من غياب أو ظهر من خفاء ، مَخوفًا كان أو مَكْروهًا أو مُسْتَثْقَلًا !
ذكروا أن عبد الله بن الزبير والأشتر النخعي التقيا يوم الجمل ، فَاخْتَلَفا ضَرْبَتَيْنِ : ضَرَبَهُ الْأَشْتَرُ فَأَمَّه ، وَواثَبَه عَبْدُ اللّهِ فَاعْتَنَقَه فَصَرَعَه وَجَعَلَ يَقولُ :
اقْتُلوني وَمالِكًا وَاقْتُلوا مالِكًا مَعي
وَما كانَ النّاسُ يَعْرِفونَه بِمالِكٍ ، وَلَوْ قالَ الْأَشْتَرَ ثُمَّ كانَتْ لَه أَلْفُ نَفْسٍ ، ما نَجا مِنْها بِشَيْءٍ ، وَما زالَ يَضْطَرِبُ في يَدَيْ عَبْدِ اللّهِ حَتّى أَفْلَتَ [2] !
إن أطراف المعاملات الفاعلة ثلاثة : [ أنا ، وأنت ، وهو ] ، ينبغي ألا يَزْهَدَ أيٌّ منا في نسبة عمله إلى نفسه باسمه ؛ وإلا حَلَّ مَحَلَّه أَيٌّ من الطرفين الآخرين ؛ فتَعْرَجُ المعاملات ، ويضطرب قانون الفعل ، ويظهر الفساد في الأرض ؛ فـ" إِنَّ الْمُتَشَبِّعَ بِما لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زورٍ " !
زعموا أن تاجرا اقترض من جُحا ، واستمهله مدة ، فلما انقضت أقبل الضاحك الباكي يَتَقاضاه : أَنَا جُحا ! فأنكره التاجر ، فَاتَّهَمَ مَلابِسَه ، فذهب فغَيَّرَها ، ثم أقبل يتقاضاه ، فأنكره ، فَاتَّهَمَ مَلابِسَه ، فذهب فغَيَّرَها ، ثم أقبل يتقاضاه ، فأنكره ، فَاتَّهَمَ مَلابِسَه ، فذهب فغَيَّرَها ، ثم أقبل يتقاضاه ؛ فأنكره : وَاللّهِ لَوْ خَرَجْتَ مِنْ جِلْدِكَ لَمْ أَعْرِفْكَ [3] !
من ثم ينبغي أن نسمي الأشياء العربية أسماءً عربية - وكل شيء انسلك في نظام الحياة العربية ودار فيه فهو عربي يستحق أن يسمى اسما عربيا - وألا نُحَرِّفَ هذه الأسماء العربية عن مواضعها ، مهما أغرتنا أحوال الضعف والقوة ؛ فإن الأيام دُوَلٌ ، فلو سميناها أسماءً عَجَميَّةً - لا قدر الله ! - ثم دالت دولة العجم ، لم ندر بأي وَجْهٍ نَلْقَى الأسماء العربية !
وأهم الأشياء لنا وأغلاها لدينا وأكرمها علينا ، أبناؤنا أكبادنا التي تمشي على الأرض . ينبغي أن نسميهم أسماء عربية صحيحة حسنة ، وأن نشرح لهم معانيها ومبانيها وبواطنها وظواهرها ، قليلا قليلا ، بما يتيسر لهم ولنا ، وإلا زهدوا فيها ، تسألهم عنها ، وما من مجيب ، وكأنها أسئلة غير مقررة عليهم ، فإذا أَلْحَحْتَ تبرؤوا لك منها ، حتى تتركهم ناعمين بجهلهم !
قلتُ لوَسامٍ المصري الذي يَكْسِر أولَ اسمه وحقه الفتح : ما وَسام ؟ فلم يعرف ، والوَسام الوسامة كالسَّماح والسَّماحة ! وقلتُ لطَلالٍ السعودي : ما طَلال ؟ فلم يعرف ، وربما ظنه من آثار الديار ، والطلال الهيئة الحسنة ! وقلت لمِرْفَتَ المصرية : ما مِرْفَتُ ؟ فقالت: اسمٌ من الأسماء التركية ! فقلت لها : إيفات إيفات ! وهو مَرْوَةُ مُحَرَّفًا تَحْريفًا تركيا ! وقلت لأسماءَ السعودية : ما أَسْماءُ ؟ فقالت : أسماء ! ألا تعرف الأسماء ! أنا الأسماء ! فقلت لها : وماذا في جمع اسم ! وأسماءُ فَعْلاءُ من الوسامة ، مثل حَسْناء من الحُسْن [4] !
فكيف نُسَمّي الأسماءَ العربية ، أَنَنْقُلُها أم نَرْتَجِلُها [5] ؟
وكيف نَصونُها ، أنُوَرِّثُها أم نُعَلِّمُها [6] ؟
وكيف نُعامِلُها ، أَنُرَدِّدُها أم نَتَذَوَّقُها [7] ؟
قالَ عَبْدُ اللّهِ الْبَرَدّونيُّ في قَصائده :
هُنَّ أَنّى ذَهَبْنَ وَجْهُ بِلادي جِئْنَ عَنْه وَجِئْنَ مِنْهُ اخْتِصارا
أَيُّ أَسْمائِهِنَّ أَشْذى نَثيثًا أَيُّ أَوْصافِهِنَّ أَشْهَى ابْتِكارا
قَدْ أَرى هذِه تَعِزًّا وَتَبْدو تِلْكَ صَنْعا هاتيكَ تَبْدو ذَمارا
تِلْكَ تَبْدو بَيْحانَ هاتيكَ إِبًّا تِلْكَ لَحْجًا هذي تَلوحُ ظَفارا
قَدْ أُسَمّي هذي سُعادًا وَأَدْعو هذِه وَرْدَةً وَهذِي النَّوارا
هُنَّ ما شِئْتُ مِنْ أَسامٍ وَإِنّي كَيْفَما شِئْنَ لي أَموتُ اخْتِيارا [8]
إن التسمية ظاهرة ثقافية لغوية اجتماعية متغيرة ، تتحرك حركة تاريخية جغرافية دائبة ، ربما ظنها بعض الناس حركةً عَمْياءَ عما يحدث لها ، ولو تأمل لوجدها مُتَعامِيَةً لا عمياء - أو ربما ظنها حركةً صَمّاءَ عما يصخب بها ، ولو تأمل لوجدها مُتَصامَّةً لا صماء ؛ فما أكثر ما جادل الطاغوت في أسماء الله الحسنى ، فلما وجدها في أذكار الصباح والمساء ، تَسَمّى بها !
ألم يَتَسَمّ مُسَيْلِمَةُ الكَذّابُ ، رَحْمنَ اليمامة [9] !
من ثم ينبغي تعميم الثقافة اللغوية الاجتماعية ، التي تُحَرِّكُ التسميةَ حَرَكَتَها الطبيعيةَ ؛ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لا تُفْرَضُ ولا تُحَرَّمُ ، بل تُساسُ !
ألم يُحَرِّمِ الفرنسيُّ اسْمَ عبد القادر والصهيونيُّ اسْمَ أحمد ياسين ! فماذا كان ؟ خرج جيلان من المواليد ليس لأي منهم منِ اسم إلا عبد القادر وأحمد ياسين ، جهادا بالأسماء في سبيل الجهاد بالأفعال [10] !
4
ثم فتح صاحبُ الأَحَديَّة بابَ التَّعْليقات ، فكان كلُّ ضيف إذا بَدَأَ شَكَرَه ، وربما شَكَرَ المُحاضر ، وكنتُ كلما تكلم ضيف سألتُ عن اسمه صاحبَ الأَحَديَّة لأكرمه به ، فيَذْكُرُ ويَنْسى ، ثم لما أقبلتُ أعلق عليهم بأسمائهم ، وجدته يصيب ويخطئ أيضا !
ولم أكن أظن أن يبادر إلى التعليق أكثر الضيوف ، فكنت أكتب أطراف أفكارهم على أَظْهُرِ ورقة مَثْنيَّةٍ كتبتُ على وجهها ما مَهَّدْتُ به ، فلما امتلأت أَظْهُرُها انتقلت إلى وجهها ، فخَلَّلْتُ ما فيه !
فرحتُ بكثرة التعليقات دليلَ نجاح ، وأثنيتُ على أصحابها باستفادتي منها ، وقَدَّرْتُهم بتَذَوُّقِ ما سَجَّلْتُ لهم ، وزيادة أَدِلَّته أو مظاهره . وأستحسن الآن أن أًلْحِقَ تعليقَ كل ضيف تعليقي عليه ، لكيلا تنقطع عَلاقَةُ أطرافِ الأفكار .
تكلم الدكتور منصور سائلا : هل تتغير أصداء الأسماء بتغير الأزمان ؟ وما مدى قبول التصريح بالأسماء المستقبحة ؟ فذَكَّرني عادة جدتي - رحمها الله ! - أن تمنعني مِنْ ذِكْرِ بِنْتِ عِرْسٍ ، إلا بالأميرة ، وكأنَّ بِنْتَ عِرْسٍ تفرح بتَأْميرها ، فتَعِفُّ عن طيورها ، أو كأنني إذا سَمَّيْتُها حَضَرَتْ فافترست طيورها . وذَكَّرَني عادةَ المصريين أن يتجنبوا تسمية مرض السرطان ، وكأنه إذا سَمَّوْهُ أصابهم !
ثم تكلم الدكتور عبد الباسط بدر مُنَبِّهًا على تطور دلالة الأسماء الحضارية ، الواضح في قوائم أسماء الطلاب والطالبات على توالي السنوات - ومشيرا إلى عادة العرب القديمة تسمية أبنائهم الأسماء القبيحة وعبيدهم الأسماء الحسنة ، وجاعلا تطور التسمية من مقاييس الغزو الحضاري ؛ فأعجبني أن نقيس بتطور التسمية درجة الغزو الحضاري ، وذكرت كيف ظهر في أسماء بناتنا إِبّان رئاسة رونالد ريجان الرئيس الأميركي الأسبق ، اسم " نانسي " زوجته !
وعَلَّقَ صاحب الأَحَديَّة أن العرب القدماء كانوا يسمون أبناءهم لأعدائهم وعبيدهم لأنفسهم ، مُنَبِّهًا على أن من معالم التواصل الحضاري اجتماع الأمم على بعض الأسماء كـ" سَمير " ؛ فذكرت أن من العار أن صار بعض آبائنا يتعمدون إخفاء أبنائهم في غيرهم ، بمثل " آدم " ، و" مريم " ، و" يوسف " ، من الأسماء المشتركة ، على جلالها !
ثم تكلم الدكتور عبد الله مؤكدا كلام صاحب الأَحَديَّة ، ومشيرا إلى أثر الأحوال السياسية في حركة التسمية في العقود الأخيرة ، ومُنَبِّهًا على ما يجده الآن من عودة واضحة إلى الأسماء العربية الأصيلة ، ومُتَمَسِّكًا بأثر مِهَن العائلات في تسمية أبنائهم ( النَّجّار ، الحَدّاد ، الصّائِغ ) ، ومُسْتَطْرِفًا من معالم حَجْب التسمية عند البدو ، أنهم يتشاءمون عند العَدِّ مِنْ رَقْم سَبْعَة فيسقطونه ، فخطر لي أن يكون ذلك من خَشْية سَطْوَة السَّبُع ، فخالفني إلى أنه من تَجَنُّب الإيحاء بدعائهم المشهور : اللهْ يِِسْبَعْك ( يصيبك بالسَّبْع المهلكات ) !
ثم تكلم الدكتور راضي مؤكدا كلام الدكتور عبد الباسط ، ومستطردا إلى عجائب أسماء البدو ، وتسمية بعضهم ابنته " جَزْمَة " ، من الجَزْم أي القَطْع ، ولم يخطر له تلاقي النّيَّة القاطعة والنَّعْل المقطوعة قط ! - ومُذَكِّرًا بتغيير رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - الأسماء القبيحة إلا ما أبى أصحابها ؛ فأشرتُ إلى باب تغيير الأسماء القبيحة من صحيح البخاري .
ثم تكلم الدكتور ياسر نور رادًّا مشكلة تسمية الأسماء العربية ، إلى مشكلة اللغة العربية على وجه العموم ، ومستحضرا كلام ابن خلدون في وَلَعِ المغلوب بتقليد الغالب ؛ فأثنيت له على توحيد الظاهرة الباطنة وراء المظاهر المختلفة .
ثم تكلم الدكتور أحمد الزعبي مشيرا إلى طريقة الماليزيّين الغريبة في تسمية أبنائهم ، بفتح المُصْحَف عَفْوًا ، واختيار ما تقع عليه عَيْنُ المُسَمّي ، حتى سَمَّوْا أحد ذكورهم مرة " ناقَةَ اللّهِ وَسُقْياها " - وذاكرا كيف وَلِعَ الناس بتركيب الأسماء مضافةً إلى " الدّين " ، إعجابا بنور الدين زنكي ؛ فحكيت له في مثل ذلك عن الدكتور علي جمعة مفتي مصر ، أن عَيْنَ مُسَمّي بِنْتِه ذلك ، وَقَعَتْ مَرَّةً على " الزّانِيَةُ وَالزّاني " ، فسماها " الزّانِيَة " ، ثم نَبَّهْتُ على أنني سمعت ذلك منه قبل تَولّيه منصب الإفتاء !
ثم تكلم الدكتور حامد الخطيب مُنَبِّهًا على أثر تعميم التناول في شدة اختلاف التعليقات ، ومتمنيا لو خَلَصَتِ الكلمة للبحث اللغوي ؛ فاستنكرت عليه أن يَسُدَّ عليَّ باب تلك الفوائد المختلفة المؤتلفة ، وتَمَنَّيْتُ أن لو كان أفادني بتعليق جُغْرافيٍّ - ولكنه بَخِلَ علي - وبَيَّنْتُ أن أفضل المحاضرات أكثرها إثارة للأسئلة !
ثم تكلم الدكتور مختار الفيجاري ، عن تنبيه الدكتور الخطيب ، مُسْتَغْرِبًا محاولة تقعيد علاقة الأسماء بالمسميات ، وهي علاقة اعتباطية مستحيلة التقعيد ؛ فلم أنكر النظرية العلمية ، ولكنني لم أر لاستغرابه موضعا ، وأنا أتأمل مرحلة من الفعل اللغوي غير التي يشير إليها .
ثم تكلم الدكتور محمد الصفراني ، مؤكدا كلام الدكتور مختار ، ومضيفا اقتراح المنهج الثقافي لدراسة الأسماء من غير تمسك بعلاقة الدال بالمدلول ؛ فتلاعبت له قليلا بنسبة هذا المنهج الغَذّاميَّة ، ولكنني استحسنت المصطلح جدا ، على أن يتجه الوجهة الصحيحة .
ثم تكلم الأستاذ محمود العربي مندهشا بالمحاضرة التي أوحت " حَرَكَةُ " في عنوانها ، بأنها في تصريف الأسماء ، فإذا هي في فلسفة التسمية ! فأثنيت على إحساسه الصادق ، وفهمه الدقيق .
ثم تكلم الدكتور أحمد الخراط مُنَبِّهًا على أن التَّسْمِيَة بَحْرٌ لا ساحل له ، تزدحم فيه الروافد ، وتختلف ، وتختلط - ومشيرا إلى أن عجائبها لا تنقضي ولا تختفي ، بل يعانيها كلَّ يوم مِمّا يُسْتَفْتى فيه ، حتى لقد وجد النزاعات تَشْتَجِرُ بين الأهلين تَعَصُّبًا لاسم على اسم - ومستطردا إلى خبر والي المدينة الذي أعجبه اسم زَيْد ، فسماه أبناءه الثلاثة ، ثم مَيَّزَ بعضهم من بعض بعلامات الإعراب رَفْعًا وجَرًّا ونَصْبًا ؛ فواحد " زَيْدٌ " ، وواحد " زَيْدٍ " ، وواحِدٌ " زَيْدًا " ! - وداعيا إلى التواصي بالتأني في التسمية ؛ فجعلتُ دعوته بمنزلة استخلاص خُلاصة كلمتي .
ثم تكلم الأستاذ زَبْن - هكذا ذكره لي بالباء صاحب الأَحَديَّة ، وفي الحديث المرفوع عن أبي هريرة " إِنَّ اللّهَ يُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الَّذي لا زَبْنَ لَه " ، أي لا شِدَّةَ في الحق ، وأصل الزَّبْن الدَّفْع ، وقد سَمَّوْا زَبّانَ ، فأما زَبْنٌ فطريف - مؤكدا أثر البيئة في التسمية ، ومستدركا أن لدينا قاعدة نرجع في التسمية إليها ، وسنة نبوية نسير عليها - ومتمثلا بشكوى الأب المشهورة عقوق ابنه ، إلى سيدنا عمر - رضي الله عنه ! - التي دَحَضها الابن بأشياء عَقَّه بها أبوه فعَقَّه ، منها قُبْحُ الاسْمِ ؛ فذَكَرْتُ ما في الموطأ برواية يحيى الليثي ، من شواهد إلهام سيدنا عمر ، أَنَّه قالَ لِرَجُلٍ : مَا اسْمُكَ ؟ فَقالَ : جَمْرَةُ ، فَقالَ : ابْنُ مَنْ ؟ فَقالَ : ابْنُ شِهابٍ ، قالَ : مِمَّنْ ؟ قالَ : مِنَ الْحُرَقَةِ ، قالَ : أَيْنَ مَسْكَنُكَ ؟ قالَ : بِحَرَّةِ النّارِ ، قالَ : بِأَيِّها ؟ قالَ : بِذاتِ لَظى ، قالَ عُمَرُ : أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدِ احْتَرَقوا ؛ فَكانَ كَما قالَ !
وقد كنت أنشدت الضيوف هذا البيت منسوبا إلى المتنبي ، وفي نفسي ظَنُّ أَنْ يكون لأبي نواس :
أَلا فَاسْقِني خَمْرًا وَقُلْ لي هِيَ الْخَمْر وَلا تَسْقِني سِرًّا إِذا أَمْكَنَ الْجَهْر
أستشهد به لتَلَذُّذ الشاعر باسم الخمر كما يَتَلَذَّذُ بجسمها ، فنسبوه إلى أبي نواس ، وأنكر عليَّ الدكتور عبد الباسط بدر بأنه إنما أراد المجاهرة !
تَمَنَّيْتُ أن لو كنت عَجَّبْتُهُمْ قليلا من عنايتهم الواضحة بخَمْريّات أبي نواس - وهذه الرائية من أبشعها مُجونًا - وأن لو أَضَفْتُ إلى البيت بيته الآخر :
أَثْنِ عَلَى الْخَمْرِ بِآلائِها وَسَمِّها أَحْسَنَ أَسْمائِها
إذًا لَقَوِيَ الرأيُ الذي رأيته ، ولكنني اكتفيت بأننا يجوز لنا أن نخلع البيت من قصيدته ، لنفهمه كما نشاء !
5
ثم ختم المجلسَ صاحبُ الأَحَديَّة ، واعتذر عن تأجيل اللقاء القادم إلى شوال ، ودعانا إلى مجلس العشاء ، وطلب نسخة كلمتي لنشرها .
غسلنا أيدينا ، ودخلنا إلى غرفة مُجَهَّزة ، وُضِعَتْ على أرضها صِحافُ الطعام ، لكل أربعة صَحْفَةٌ ، في كل منها مقدار كبير من الأرز الأسيوي على رأسه مقدارٌ مناسب من اللحم العربي ، ومن حولها أطباق الفاكهة ، لكل من الأربعة طبق فيه موز ومشمش وبرتقال . كان معي على الجفنة الدكتور مختار والدكتور ياسر وزميل لنا سعودي من أصل شامي لا يكاد يتكلم . أثرت الدكتور مختار إلى ما جادلني فيه ، ولم نتفق على شيء ، وتكلم السعودي هذه المرة ، فأوحى إليَّ باستنكار رأيي في اسمي !
هكذا إذن !
لقد تتابع الضيوف إلى مجلس الطعام من غير أن يحاول أحدٌ منهم السلام عليَّ إلا الدكتور الخطيب وإلا الأستاذ خالد الطويل الصحفي بجريدة الوطن الذي أراد بياناتي ؛ فظننتُ ذلك من استغراب الوافد الجديد ، فإذا هو من استنكار رأيه المُشْتَطِّ في اسمه الكريم ، ولقد علم الله مني غير ذلك !
اتهمت نفسي ، فلم أرتح ليلتي حتى كتبت لصاحب الأَحَديَّة قبل الفجر هذه الرسالة الجَوّاليّة ( المَحْموليّة ، النَّقّاليّة ، الخَلَويّة ، المُبَيْليّة ) :
سعادة العميد
سلام الله عليكم
وشكر الله لكم
وجعله الله في موازين حسناتكم
كان كل شيء طيبا إلا اضطراب تعبيري عن مشاعر الأب عند تسمية ابنه لقد أردت أنه إذا سئل ماذا كنت تحب أن يكون اسمك لو لم يكن كما هو لقال تعصبا لا أحب إلا ما سمانيه أبي ولكنه يعبر بتسميته ابنه أحيانا عن رغبة دفينة في أن لو كان تسمى هو اسم ابنه ولكنني عبرت بما يوحي بكراهة اسم محمد - معاذ الله - فلزم الاعتذار وإن لم يعتب علي أحد.
[1] تَأَنَّيْتُ بعد إنشاد البيتين أشرح للضيوف كيف ضَعَّفَ البستي نسبة الصوفيِّ إلى الصوف ، على رغم أنها النسبة الصحيحة ، وأن في اشتقاق تصوف يتصوف من الصوف ولستُ بصوفي ، بيانَ نشأة الأفعال من الأسماء على النحو المذكور المعتمد على بعض تفسيرات العبارة القرآنية ؛ فإذا صَوْتُ إمام المداحين سيد النقشبندي ، يملأ المكان ، يُصَوِّفُني على رَغْمي : مَوْلايْ ، يا مَوْلايْ ... ، فأَصْمَتُّ هاتفي ، وقلتُ : عَجَبًا ! مَنْ أَعْلَمَ مُهاتِفي أنني الآن في حديث اشتقاق تَصَوَّفَ يَتَصَوَّفُ فهو مُتَصَوِّفٌ !
[2] زعمت للضيوف أن عبد الله بن الزبير ربما استثقل لقب مالك ( الأشتر النخعي ) ، الذي كان قد ملأ الدنيا لسيدنا علي - كرم الله وجهه ! - تَشَيُّعًا وفُروسيَّةً وغَلَبَةً ، وشغل الناس ؛ فلم يستطع أن ينطقه ، وكأنه إذا نَطَقَه سَلَّمَ له بذلك الصيت الباهر !
[3] لقد صار اسم جُحا غير العربي ، عَلَمًا عالميًّا مُطْلَقًا ، يُمَثِّلُ بهذا المقام للعالمين ، كيف يتَّحِدُ فِعْلُ الإنسان ( الإقراض ) واسْمُه ( جحا ) ، حتى ليَتَحَرّى ظالمُه إِنْكارَ فعله بإِنْكارِ اسمه !
[4] سَخِرْتُ للضيوف بأنني عَدَلْتُ في جَهْلِ الأسماء بين أبنائنا المصريين والسعوديين ، ولو كنت في غير هذا المقام لأكثرتُ من أسماء أبنائنا السعوديين ، أو لاقتصرتُ عليها !
[5] غَيَّرْتُ هذا السؤال أشرحه للضيوف : أَنَجِدُ الأسماء في سياقاتها ، فنأخذها لنسمي بها ، أم نستحدثها من غير أن نأخذها من سياقات ؟ واستطردت إلى تسمية الآباء أبناءهم بما كانوا يحبون أن يَتَسَمَّوْا ، كاسم ابني " بَراء " ، الذي سَمَّيْتُه إياه وهو أَحَبُّ إليَّ مِنِ اسمي على جَلاله !
[6] ثم غَيَّرْتُ هذا السؤال كذلك أشرحه للضيوف : أنوصي أبناءنا بالأسماء التي يسمونها أبناءهم ، أم نعلمهم حقائقها ودقائقها ؛ فيتعلقون بها أسماءً لأبنائهم لا مَذْهَبَ عنها ؟
[7] ثم غَيَّرْتُ هذا السؤال كذلك أشرحه للضيوف : أنكتفي بكثرة استعمال الأسماء ، أم نتعلم الطَّرَبَ لسماعها والاستمتاع بنطقها ؟ واستطردتُ إلى مثال أبي الأسود الدؤلي اللغوي الشاعر الإمام ، الذي كان يجد للكلام في حَلْقِه ، مثلما يجد للطعام !
[8] نبهت الضيوف بهذه القصيدة ، على نمط من بَداعة تحريك الأسماء العربية !
[9] عَجَّبْتُ الضيوف من حال هذا المتنبئ ، يكفر بالرحمن - سبحانه ، وتعالى ! - ويدعي النبوة ، ثم يجد اسمَ الرَّحْمن زينةَ كُلِّ لِسان ؛ فيَتَسَمّى رَحْمنَ اليمامة !
[10] لقد أعان المقامُ أهلَ الجزائرِ الأبيةِ وفلسطينَ المحتلةِ ، دون أعدائهم الجهلة - على حُسْنِ سِياسَةِ تَسْمِيَةِ الاسْمَيْنِ الكريمين الحُرَّيْنِ !