قراءة في نبضات سمير الجندي

حذام العربي

نبضات –  نصوص لسمير الجندي – الطبعة الاولى 2007

كتاب من القطع المتوسط يقع في 72 صفحة، ويشمل 63  نصا اطولها يقع في صفحتين، واقصرها لا يتعدى بضعة اسطر لم تتجاوز العشرة. تم تقسيمها الى خمسة عناوين رئيسية وهي، أبجدية، زهرة التوليب، الظل، فينوس وقاوم. بالاضافة الى الاهداء والتقديم.

هذه نصوص على وجه العموم غامضة. غارقة في الابهام. إلا بعضها. وهذا البعض رسم مشهدا ً انسانيا فلسطينيا في انتمائه بالدرجة الاولى، ثم مقدسي المكان والزمان بالدرجة الثانية.

قلة من النصوص تم تذييلها بتاريخ كتابة النص. ومعظمها دون تدوين التاريخ، وهذا ما ترك القارئ يتساءل، اذا ما كان وراء الأكمة ما وراءها.

إن القراءة متعة وفائدة. هكذا اتعاطى معها.

ولجت الى نبضات سمير الجندي، فوجدتها مطلسمة. تراءى  لي الكثير منها كخربشة لم استطع فك الحرف فيها. ذكرتني بما قد نسيت من معادلات الجبر والهندسة، التي فرض علي استاذ الرياضيات في المرحلة الثانوية، بجبروته، ايجاد حلول لها، وقد فعلت، حينها، مكرها اخاك لا بطل. ثم راجعت بعض النصوص اربع وخمس مرات، لكنها اعلنت العصيان على ذكائي المتواضع. فرفعت راية الاستسلام، صاغرة.

تلك النصوص التي رسمت مشهدا مقدسيا، بعضها لامس شغاف القلب، هي النصوص المذيلة بتاريخ كتابتها. ولو لم اكن اعرف ان النص جاء على اعتاب الفراق الابدي بين الام وابنها، لسألت ماذا يريد مني هذا النص؟! مثلا، النصوص المدرجة تحت عنوان زهرة التوليب ص26 .

وأما تلك النصوص التي استطيع القول انني فهمتها، جاءت لافحة بحيويتها، قائضة، مـُقـِضة وموجعة برسمها للزمن الردئ. ذكرتني بضباب العواصف الرملية في ارجاء الوطن العربي، مثلا نص العمر .. 45 عاما ص 19 ، او نص القدس ص 11. بعضها جاء صادقا حتى نخاع الهزيمة والبعث، مثل نص بائعة النعناع، ص 24 . ولكن بعضها الآخر جاء في إطار غير مكتمل. فمثلا مشهد مروع في فظاعته، في نص احلام ص 64 ، يختزله النص في كلام عادي وعابر، اكاد اقول كلاما ميكانيكيا تقريريا. هناك كذلك، نصوص ضبابية، تلوح منها وجوه انسانية، ولكنها استعصت على خيالي المتواضع، فلم استطع التعرف اليها عن كثب، على سبيل المثال في نص عناق ص 65 . ومنها النص المتواري خلف الظلال الكثيفة، فيلوح لي في الافق ظل باهت لانسان. انسان يحكي هذا النص حكايته، ولكن الانسان يهرب مني، تاركا لي ظله، في ثنايا مفردات صارخة، ضخمة وفخمة، مكابرة في تألقها مثل نص رفاق، ص 59 .

لكل مفردة في لغتنا العربية، هذه التي لا تحتمل إلا العشق، سحر خاص.

استعمال المفردات الآسرة، والطاغية في جمالها، بواسطة سكبها في قالب هلامي المضمون، يسلبها سحرها الخاص. فمثلا نص همسة... ص 56 جاء بمفردات جميلة، وكأنها اللآلئ تم تنضيدها بيد عابثة، فجاءت كخربشة وجدانية فجة وعدمية، عوضا عن ان تكون قلائد الاعناق. كذلك جاء نص مهلا ايها الصمت، ص 21 ، بتفصيل مفردات كثوب من الحرير موشى بالذهب الخالص، ولكنه عديم الاتساق، فأكمام الثوب أطول بكثير من الثوب ذاته.

وأما ما استعصى عليّ فك رموزه من طلاسم، مثل نص ابجدية، ص10 ونص الحصاد ص18 او    جموح ص43 او نص صحوة ص40 او نص السكون ص38 ونصوص اخرى كثيرة، فقد تركته جانبا. ببساطة لم افهمه. نعم، بعد عدة محاولات، أقـِرُّ واعترف انني لم افهم. وهناك، صارت القراءة همـّا ً وغمـّا ًوتحديا، عوضا عن ان تكون متعة وفائدة.

رحت احاور نفسي، هل على القارئ ان يستنفذ كل هذه الطاقة، ويهدر كل هذا الوقت، كي يقف على مقاصد النص، وماذا يقول كاتبه؟ وهل يتوجب عليه، هذا المسكين، اجادة كل انواع العلوم والتقنيات كي يسبر اغوار هذه الطلاسم؟ ماذا يتوقع هذا النص وكاتبه من القارئ الإمعة والعادي مثلي على سبيل المثال لا الحصر؟! ربما اصلا لم يكتب هذا الكاتب لي؟ ولم يقصدني؟ ثم اذا كان كاتب النص لم يكتب لي كي اقرأ واستمتع، فلماذا اذن ينشر نصوصه؟! لمَ لا يتركها في دفاتره العتيقة، او منضده على شاشة حاسوبه الانيق الحديث؟!

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، داهمني شعور بالغضب على هذا الحاسوب. من حيث انه يختزل عصر السرعة هذا الذي نحن فيه. ثم ومن حيث ادري ولا ادري خطر لي، مثلا، ان تكون هذه النصوص، مشوهة بحمى عصر الحواسيب. عصر السرعة والاتقان، عصر الاختصار والترميز عصر الصمت والاختزال. انه عصر ضمور اللغة بامتياز.

 ففي هذه الايام، لا حاجة بك ايها الانسان، للكلام. فكل شيء من حولك مـُشـَفـّر. ولكل علبة سوداء رموز صغيرة كالخطوط المسمارية، يكفيك ان تلمس مسمارا واحدا، حتى تراه يكبر ويتضخم ليصبح، وجبة ادبية خفيفة او دسمة حضرها لك الاخ الكبير، وفق طلبك. هذا الاخ قائم من وراء الكواليس على راحتك، وعيونة ساهرة لا تنام، تجوس احلامك الوردية بخبث، تهيء لك البرامج بالغة التعقيد، عليك فقط ملامسة بضعة احرف على لائحة ازرار. والحالة هذه فلا حاجة بنا اصلا، الى الكثير من تنضيد المفردات، فهذا مضيعة للوقت. كفى بنا ببضعة كلمات متقاطعة كيفما اتفق، او شذرات هنا وهناك. ثم إحالة ما تبقى من اللغة وعواطفنا فيها الى التقاعد، الى خزانة التاريخ.

وأضرب في مجاهل الوجدان، واغوص في عقلي اللاواعي، ثم ارجع الى الواعي، ولا انجح في فك اغلب هذه الرموز. فإن نجحت في جزء يسير من مهمتي كقارئ، فقد اجتزت امتهان وجداني، مارسته هذه النصوص بحقي وعلى مجموع مداركي. ذلك انها تؤكد لي كم انا قارئة فاشلة، لا تجيد ولا حتى قراءة نص. وان لم افعل فأنا لست من اصحاب الحظوة عند النص وكاتبه. فهما يشكوان،

إنه بؤس المتلقي الذي هو انا، القارئ الامعة.

هذه نصوص تحترف الصمت. على وجه العموم انها نصوص تدحر القارئ. تستبعده. تصد كل الابواب في وجهه. تغلق النوافذ بينه وبين الكاتب. ولا تبقي سبيلا للتواصل بينهما. هذا الترميز الصارخ، يرفع استارا شاهقة بين القارئ من جهة، والنص والكاتب من جهة اخرى.

هل يفعل الكاتب هذا مع سبق الاصرار؟!

بالاضافة الى نبذة تعريف على الغلاف الخارجي اختارها الكاتب لنفسه، لو لم أك اعرف ان كاتب هذه النصوص، سليل من تبقى بين حطام الدنيا وركام ذاكرة دير ياسين في فلسطين 1948 ، لقلت ان المقاثي لم تنضج بعد في كرومه. لكن معرفتي هذه ساقتني الى التساؤل، هل هو ذاك الألم الناصع يعتصم في قوقعته، يرفض البزوغ، فيستعصي على فهم القارئ، أم انه ميراث المجازر هو الذي يقود الكاتب، من حيث يدري ولا يدري، الى الترميز والابهام؟! أهو تحسبا من هول استحضار الفواجع الفلسطينية؟!  ذلك انها كالبركان، تجرف بسيولها وحممها كل من يلامسها! فيسكت عن الكلام المباح؟

ولو لم اكن اعرف ان كاتب هذه النصوص، قد ظفر بمتعة العيش والاقامة، السنوات الطوال، في السجون الاسرائيلية، لقلت انه لا يجيد التعبير عن نفسه، ويستعمل المفردات في تراكيب جوفاء وينظمها في جـُمـَل خرساء. وهو ما دفعني الى التساؤل، هل هو ميراث الزهد في الكلام، حتى اوغل في الغموض وفي المقاصد؟! او التواري خلف الضباب الكثيف؟! او ببساطة انتقاء مفردات لكلام أخرس؟ كل ذلك لصد القارئ عن ذاته وعن نصه، وإبقاء الحيز متسعا بينهما؟! أهو خوف وتحسب من حرف جر، او واو للعطف او مفردة اخرى قد تفصح عما لا تحمد عقباه؟! فذهب الى فتح هوة لا يستطيع معها القارئ التجسير اليها.

ولو لم اكن اعرف ان كاتب هذه النصوص، لا يزال في هذا الزمن العاصف، ويا للغرابة، قابضا على البوصلة، متشبثا بمؤشر الشمال فيها، لقلت ان الامر قد اختلط عليه ايضا. لذلك ترى هذه النصوص، صامته، جميلة برّاقة، ولكنها تفتقد صخب الحياة، لا بل لم اشعر ولا حتى بدبيب الحياة في هذه النبضات.

ولأنني اعرف كل ذلك، قلت لنفسي، إن اجادة الاصغاء الى النبض الداخلي، كذلك، وليس فقط لبعض نبضات خارجية، تتراقص هنا وهناك في دروب فلسطين التي غطاها هذا الضباب الكثيف، قد تتيح المجال للعثور على دبيب الحياة فيها، مهما كان واهنا، في هذا الزمن الصعب.