مأساة كوسوفا في نبض الشعراء العرب

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

عاشت كوسوفا أياما حالكة السواد في حرب طاحنة مورست خلالها أبشع الجرائم وأعتاها في سجل التاريخ الإنساني، ولقد أتت هذه الحرب إثر أخرى ضروس لم تقل عنها ضراوة، في البوسنة والهرسك بعد أن خلفت وراءها دماء وأشلاء، ومشردين وضحايا ألهبت المشاعر الإنسانية بوجه، عام وأججت مشاعر الغضب عند الشعراء بوجه خاص؛ ليسجل الشعر من بعدها تدوينا لهذه المشاهد التي أخذت تتكرر في بقاع العالم الإسلامي، وهذا التكرار جعل من حديث الشعر عن المأساة والمآسي الأخرى حديثا عاما قد لا يختلف كثيرا عن شعر الاستصراخ في الأندلس عندما أخذت تتآكل إمبراطورية المسلمين على يد الصليبيين الذين ساموا المسلمين سوء العذاب في محاكم التفتيش وغيرها؛ ليقول الشاعر الأندلسي بعدما يرى هذه المآسي:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان.

إن مأساة كوسوفا تأخذ محلا من الإعراب في جملة المآسي التي أصابت العرب والمسلمين والتي كان آخرها مأساة غزة، فالشاعر السعودي عبد الرحمن العشماوي يتحدث عن كوسوفا في سياق قصيدته "قف هنا أنت لدينا متهم" فيسرد مأساة كوسوفا ضمن المآسي التي تعرض لها العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة فيقول:

لست وغدا يا قوم ..ولن

أنا لا أرضى بتقسيم الوطن

أنا لا أرضى بتقبيح الحسن

أنا لا أرضى بترحيل الملاين عن الأرض ولا هدم السكن

أنا لم أحرق سرايفوا ولا حطمت كوسوفا ولا أحرقت عشا أو فنن

أنا ما زورت أوراقا ولا أسقيت صبرا دمع شاتيلا ولا أحرقت بيت المقدس الغالي ولا أضررت قلبي بالإحن

أنا ما خبأت كف الغدر في أنفاق باريس ولا أشعلت في الأرض الفتن

خبروني بعد هذا أيها القوم من الوغد إذا

والشاعر عبد الناصر أحمد الجوهري  يتناول همجية الصليبيين عندما يتحدث مدافعا عن الهجمات التي كانت ضد الرسول، ويركز الحديث عن مأساة كوسوفا والبوسنة؛ لأن الغرب الذي خرجت منه إساءات الرسول بأنواعها والذي ادعى الحضارة والمدنية هو الذي أوقد النار في كوسوفا والبوسنة، تماما كما فعل الصليبيون في الأندلس؛ فيستلهم هذا التاريخ فيقول عن كوسوفا مقارنا بينها وبين ما حدث في الأندلس قائلا في إحدى مقاطع قصيدته "بكائيةٌ على ضفافِ الراين"

غني يا غرناطةُ

إنَّ (بلالاً) سيؤذِّن

فوق ضفاف (الراين )

وتعود طيورُ الفردوس

تغرِّدُ .. يا أمَّاه

فأراملُ (كوسوفا) في الأحراش

وأطفال (البوشناق)

تردِّدُ .. وامعتصماه

ثم يتساءل الشاعر فيقول:

من سيشكِّكُ في محرقتي؟

وجماجمنا في (سربينتشا )

لا تنسى (دافا) نهر الفاجعةِ

ولا بصَّاصين (الراعي الصالح )

وفي قصيدة لم أعثر على قائلها إلا أنه سمى نفسه بالغريب السوري يتحسر على مصاب المسلمين، ومن هذه المصابات كوسوفا فيقول:

أفيقوا ويح قومي من سبات

فنذر الشؤم تؤذن بالخراب

كأن المسلمين غدوا نعاجا

أحاط بهم قطيع من ذئاب

وأرض المسلمين حمى مضاع

مشاع للسلاب وللنهاب:

ففي البلقان تشريد وقتل

وأبكار حملن من اغتصاب

......إلى أن يقول

فلسطين البطولة كم ستبقى

تأن وشعبها رهن العذاب

وفي الشيشان والإندوس جرح

وفي كوسوفا قطاع الرقاب

وفي تصوير لما يحدث من تطهير عرقي في كوسوفا وغيرها نرى الشاعرة علية الجعار تسلط الضوء على مشهد من مشاهد التطهير العرقي الذي هاجم فيه أحد الجنود بوحشية بيتا فيه أم وابنتها وطفلها الرضيع فتقول:

دوى الرصاص ودمدمت في الليل أهوال رهيبة

ووراء باب موصد أم تؤرقها المصيبة

الزوج في ميدانه بين الشهادة والمثوبة

 وبحجرها طفل تساءل، وهْي تعيى أن تجيبه

أماه أين أبي الحبيب وأين بسمته الحبيبة؟

وفتاتها وسط النجوم بدت مفزعة كئيبة

ثم تسترد الشاعرة في وصف معالم الحرب التي تحيط بهذه الأسرة لتنقل حديث البنت لأمها الذي يسيطر عليه الخوف والأم تهدد من روع فتاتها متظاهرة بالسكينة، لكن رضيعها الصغير يبكي من شدة الجوع فتقرر الفتاة بأن تخرج كي تبحث عن طعام وسط هذا الخطر، ولكن جنديا يتبع أثر الفتاة؛ ليراقبها حتى منزلها ثم يقتل شقيقها وأمه، ويغتصب الفتاة وينهش عرضها كذئب مفترس، وتصور الشاعرة علية الجعار هذا المشهد فتقول:

والطفل ينظر جائعا والبنت ترنو دامعة

 تدرى بأن البيت خاوٍ وهي الأخرى جائعة

يا طول ليل عاصف بالجوع والخوف الرهيب

والثلج أكوام تغشتها المساكن والدروب

.....

والأم يسألها الصبي عن الطعام فلا تجيب

وترى الفتاة شقيقها يبكي ولا يدري الخبر

 فتحار ثم تقوم تبحث بين أكتاف الخطر

وتلوذ في عرض الطريق كأنها تخفى الأثر

فلربما وجدت طعاما للصغير المحتضر

ولربما ولربما وتموج آلاف الصور

وتدور ثم تدور ترجوا أن يحالفها القدر

لكن رأت متسللا يسعى إليها في حذر

 فتعثرت ثم انثنت في رعبها ترجو المفر

....

فرأته يسرع نحوها ويداه تمسك بالسلاح

فعدت تلوذ بأمها لكن وأين لها الرواح

الذئب داخل دارها والباب أوصد لا براح

يا ويلتى يا ويلتى والطفل إذ لمح الغريب بكى وصاح

وبطعنة أردى الصغير وأمه ثم استراح

وانكب يغتصب الفتاة وينهش العرض المباح

فهذه الصورة المؤلمة لما يحدث في الحروب ويتكرر تنقلها لنا الشاعرة علية الجعار إبان حرب كوسوفا، غير أنها لم تصرح باسم كوسوفا، وجعلتها أنموذجا لما يحدث في مثل هذه الأوقات.

ورغم هذه المآسي التي ذكرها الشعراء بصفة عامة في إطار الحديث على النكبات التي أصابت أمتنا في السنين الأخيرة والتي يعاد ذكرها مع كل أزمة تتجدد، نرى الشعراء يتمسكون بالأمل، فمن رحم الألم يأتي الأمل، وأشد ساعات الليل سوادا هي التي يعقبها ضوء الفجر، ويقين الشعراء أن المحن تولد المنح، وهذا ما عبر عنه عبد الرحمن العشماوي بقوله في قصيدة كوسوفا التي جاء فيها:

جرح على جرح يهز كياني

ويمد لي لهباً من الأحزان

خط من الألم المبرح ساخن

يسري من الأقصى إلى الشيشان

ويضم كوسوفا التي اكتملت بها

مأساة هذا العصر في البلقان

إلى أن يقول العشماوي بعد تعداد لمشاهد الألم التي ألمت بالمسلمين

يا ألف مليون حبال مشاعري

موصولة بالخالق الديان

أنا لست أيأس من مصائبنا التي

تذكي لهيب الحزن في وجداني

أنا ما يئست إذا بكيت لما أرى

من وطأة الأحداث في الشيشان

فلربما كان الدخول إلى العلا

والمجد من بوابة الأحزان

وهذا الأمل المتجدد الذي يركز عليه العشماوي يركز عليه شاعر آخر بقوله:

تبيت القدس ترزح تحت نار

من الطغيان تهزا بالصعاب

وتنظر فجرها الآتي قريبا

جيوش الحق كالموج العباب

نعم كانت كوسوفا محنة نقلت إلى أراضي أخرى في العالم الإسلامي، ولكننا نثق بقرب النصر، ألا إن نصر الله قريب.