براعة التمثل والاستشهاد
الفصل الرابع
أ.د/
جابر قميحةمما قاله أبو هلال العسكري عن الاستشهاد: وهذا الجنس كثير في كلام القدماء والمحدثين، وهو أحسن ما يتعاطى من أجناس صنعة الشعر، ومجراه مجرى التذييل لتوليد المعنى. وهو أن تأتي بمعنى، ثم تؤكده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الأول، والحجة على صحته([1])
فالاستشهاد يعني: وضع برهان على لغة أو فكرة، لتأكيد ما ذهبت إليه، وإثباته بالحجة، وهو نوعان:
1- الاستشهاد في اللغة: ويكون بعرض قضية لغوية أو نحوية، وإثباتها بسوْق دليل من القرآن أو الحديث، أو الشعر. واشترطوا للاستشهاد أن يكون الشعر من عصر الاحتجاج الذي يمتد حتى سنة 150ﻫ، أو إضافة قرن آخر إن كان الشاعر أو العربي عاش في قلب البادية، ويدخل في ذلك القرآن والحديث والشعر الجاهلي، وشعر صدر الإسلام، وشعر العصر الأموي، ومطلع من العصر العباسي بلا استثناء إلا من عدم عروبية الشاعر. وإذا لم يكن الشاعر من عصر الاحتجاج دعي الشاهد "مثالا" للاستئناس لا للبرهنة: كشعر المتنبي والمعري.
2- الاستشهاد في الأدب: ويكون بسوْق دليل نثري أو شعري لإقامة الدليل على قضية أدبية تعالجها، ولا يشترطون بها زمانا، كمن يستشهد بشعر الطيف من البحتري، أو الصنعة من أبي تمام، أو الفلسفة من المعري..([2])
ولكن الاستشهاد أوسع مدى من هذين النوعين، فيمكن أن يوظف للاحتجاج لقضية فكرية، أو دينية، أو سياسية، أو تاريخية، وغير ذلك من الأفكار والمعاني، وفي هذا الاتجاه –كما هو واضح –تحرر- إلى حد كبير- من حرفية المفهوم الاصطلاحي للاستشهاد.
* * *
وكان الإمام الشهيد –رحمه الله- من أكثر الدعاة والمفكرين توظيفا للشواهد التراثية، فكثرت في خطبه ومقالاته ورسائله ودراساته الشواهد من القرآن والسنة، والشعر والحكم والأمثال،وأقوال السلف الصالح، والوقائع التاريخية.
وإكثاره من الشواهد يرجع إلى عدد من الأسباب أهمها:
1- قوة ذاكرته، وقوة حافظته،وقدرته على الاستعادة، واجترار المخزون الفكري والأدبي.
2- الذوق الرفيع، مما يمكنه من اجترار الشاهد المناسب، ووضعه في مكانه المناسب.
3- قوة عاطفته الدينية، دفعته على أن تحتل الشواهد القرآنية المكانة الأولى من ناحية الكم. وإيراد كثير من شعر الحكمة والعقيدة والأخلاقيات.
فأغلب شواهد الإمام شواهد نصية من القرآن الكريم والسنة النبوية، ونلمس ذلك بوضوح في رسالة "نحو النور"، فالشواهد القرآنية فيها قرابة أربعين آية، وما لا يقل عن عشرة أحاديث، وقد جاءت كلها في موضعها من السياق لتأكيد عظمة التشريع الإسلامي في مجالات السياسة والحكم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والدولية([3])
وهذا الالتزام بالشواهد القرآنية، لم يكن جديدا على الإمام الشهيد، بل كان خطا منهجيا له وجوده المتميز ابتداء من خطبه ومقالاته ورسائله الباكرة، كما نرى في مقاله (حقيقة الإيمان بالله)([4]) فقد استشهد بالآيات في سبعة مواقع، على قصر المقال. وقريب منه في ذلك مقاله (منزلة الصلاة)([5]). غير الخطب التي تتوافر فيها هذا السمة، وهي أكثر من أن تحصى.
* * *
ومن ثم نعتقد أن "روبير جاكسون" لم يسرف حينما وصف الإمام الشهيد بأنه "الرجل القرآني". وأعتقد أن من أهم أسباب هذا الإطلاق:
1- دعوة حسن البنا إلى اتخاذ القرآن دستورا بدلا من القوانين الوضعية.
2- سلوكه القرآني في أخلاقياته، وسياسته، وتعامله مع الآخرين.
3- إكثاره من الشواهد القرآنية، في خطبه ومقالاته ورسائله.
* * *
ولا شك أن الشاهد القرآني يقوى المعنى والحجة، وهي سمة مشتركة مع الشواهد الأخرى، ولكنه يزيد عليها قوة الإيحاء والتأثير، لما له ن مكانة إيمانية في قلوب المتلقين.
والنص القرآني شاهدا يورده الإمام –رحمه الله- في صورتين:
1- الصورة الأولى: أن يرد مستقلا لتقوية الفكرة، أو توضيحها، وهذا هو الغالب في هذا المجال.
2- الصورة الثانية: أن يرد منسابا في السياق كأنه جزء أصيل أساسي منه، مضيفا جديدا في الفكرة أو الصورة. كما نجد في السطور التالية:
".. ألا وإن الموعد يوم الفصل ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾[النبأ:17: 20].
ألا وإن دار المحكمة هي أرض المحشر، وصعيد المنشر ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾[النازعات13-14].
ألا وإن شهودك منك، وبينتك فيك ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾[النور:24-25].
ألا وإن مستنداتها مدونة ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾[عبس: 13-16].
.... ألا وإن الجزاء نعيم الأبد للمحسنين، وشقاء الأبد للمسيئين ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾[الحاقة:19-32]([6]).
وينهج الإمام الشهيد النهج نفسه في التعامل مع شواهد الحديث الشريف، فهو قد يؤيد الفكرة ويقويها بحديث نبوي مباشرة،ولكن يأتي غالبا بعد إيراد آية أو آيات قرآنية تقوم بهذه المهمة. ومثال ذلك –والإمام يتحدث عن موازنة الإنفاق والدخل- يورد قوله تعالى:
﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾[الإسراء:29].
وبعدها يورد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد" وقوله "نعم المال الصالح للرجل الصالح"([7]).
وقد يورد الإمام الشهيد الحديث مستقلا لتقوية الفكرة وتأكيدها، دون أن يكون تاليا لآية قرآنية. من ذلك ما كتبه الإمام الشهيد:
".. فقد أخذ الله الموثق على أهل العلم،وورثه الكتاب أن يبينوه للناس ولا يكتموه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإفشاء النصيحة من لب هذا الدين وصميمه، ونادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجاب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم، إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا، ولا يقرب أجلا"([8]).
* * *
وقد يكون قريبا من الاستطراد أن نشير في هذا المقام إلى أن الإمام الشهيد كان له وقفة متأنية أمام عدد من الأحاديث النبوية، أغلبها من "جوامع الكلم". ومن هذه الأحاديث:-
- المرء كثير بأخيه
- لا خير في صحبة من لا يرى لنفسه.
- المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم،وهم يدٌ على من سواهم.
- اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول.
- الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
- ما أملق تاجر صدوق
- ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
- يحمل هذا العلْمَ من كل خلف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وما قام به الإمام الشهيد في تعامله مع هذه الأحاديث –وهناك غيرها- يتلخص فيما يأتى:
1- توضيحها، وذكر مناسباتها، وشرحها شرحا موجزا
2- توثيقها، وبيان مدى صحتها متْنا وسندا.
ووراء هذا العمل الكبير دافع قوي ذكره الإمام الشهيد في مطلع مقاله خلاصته أن هذه الأحاديث –ومعها غيرها- وردت في مذكرة الأدب العربي المقررة على طلاب السنة الأولى من كلية الحقوق، وقد طُلٍب منه أن يتناولها ببعض الشرح تسهيلا على حضرات الطلاب، وإفادة لحضرات القراء. وختم هذا التقديم بقوله ".. ورجاؤنا إلى حضرات المربين الكبار أساتذة الأدب بالكلية أن يعتمدوا في نقل الأحاديث –على كتبها المعتمدة الفنية، ففيها الكثير الطيب مع الطمأنينة إلى صحتها وحجيتها، وأما ما يذكر في كتب الأدب من ذلك ففيه نظر؟([9]).
وفي تضاعيف الشرح ترى الإمام الشهيد يورد عددا كبيرا من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال السلف، والشواهد الشعرية، والوقائع التاريخية.
كما نبه –في مقدمته- إلى أهم ملمح من ملامح المنهج العلمي وهو الاعتماد على المصادر الأصيلة للمادة العلمية لا على المراجع الوسيطة.
* * *
ومن الشواهد كثير من أقوال الصحابة والسلف الصالح، ففى سياق حديثه عن إنسانية القتال في الإسلام يستشهد بوصية أبي بكر رضى الله عنه لجيشه، وفيها يقول:
"لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تتبعوا
مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا طفلا،
ولا امرأة، ولا شيخا كبيرا، ولا تقطعوا شجرة
مثمرة، ولا تعقروا بعيرا إلا للأكل، وستمرون
على قوم ترهّبوا في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له"([10]).
ومن أقوال السلف ما قاله ابن عطاء الله السكندرى:
يخفف ألم البلاء عليك علمُك بأنه تعالى هو المبتلي لك، فالذى واجهتْك منه الأقدار هو الذي أشهدك حسن الاختبار"([11]).
وما قاله أبو يزيد البسطامى:
"المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله"([12])
وقال سهل بن عبد الله:
"لا معين إلا الله، ولا دليلَ إلا رسوله، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه"([13])
ويورد الإمام الشهيد بعض أقوال العلماء الغربيين في مدى قدرات العقل، وما وصل إليه. ومن هؤلاء: جوستاف لوبون، ودارون، ووليم جيمس، ووليم كروكس، وكاميل فلامريون، وأندرية كريسون.([14])
ومن الشهادات المنصفة للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم قول جورج برناردشو:
"ما أشد حاجة العالم في عصره الحديث إلى رجل كمحمد يحل مشكلته القائمة المعقدة،
بينما يتناول فنجانا من القهوة"([15]).
* * *
ويستشهد الإمام الشهيد بكثير من الوقائع التاريخية وخصوصا في مقام تفسيره للقرآن. وهو يقصد بإيراد مثل هذه الوقائع إلى تحقيق ما يأتى:
1- تأكيد المضمون القرآني، والمعطيات الإسلامية في مجال العقيدة والسياسة والمجتمع والأخلاق.
2- إثارة المشاعر الدينية، واستنهاض المسلمين لإثبات وجودهم، ونيل حقوقهم،واحتلال المكانة اللائقة بهم، وذلك بربط الحاضر المعيش –وهو حاضر منكسر مقهور- بالماضي المجيد في عهوده الزاهية المنتصرة.
فبعد تصديره واحدا من مقالاته ([16]) بقوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾[الأنفال: 72-73]
يقدم الرواية الآتية:
في عهد مضى أعاد الله علينا دولته قال الراوي: "دخلتُ القسطنطينية تاجرا في عهد عمر بن عبد العزيز، فأخذت أطوف في بعض سككها حتى انتهى بي المطاف إلى فناء واسع، رأيت فيه رجلا أعمى، يدير الرحى وهو يقرأ القرآن، فعجبت في نفسي، في القسطنطينية رجل أعمى يتكلم العربية، ويدير الرحى، ويقرأ القرآن!! إنه لنبأ!!، فدنوت منه وسلمت عليه بالعربية، فرد السلام، فقلت: من أنت يرحمك الله؟ ما نبؤك؟ فقال: أسير من المسلمين أسرني هذا الرومي، وعاد بي إلى بلده، ففقأ عيني، وجعلني هكذا أدير الرحى، حتى يأتي أمر الله. فسألته عن اسمه وبلده وقبيلته ونسبه، وما كان لي من عمل حين عدت قبل أن طرقت باب أمير المؤمنين، وأخبرته الخبر، فاحتقن وجهه، واحتدم غضبا، ودعا بدواة، وكتب إلى ملك الروم،
"قد بلغني من الآن كذا وكذا، وإنكم بذلك قد نقضتم ما بيننا وبينكم من عهد: أن تسلموا كل أسير من المسلمين. فوالله الذى لا إله إلا هو لئن لم ترسل إلي بهذا الأسير لأبعثن إليك بجنود يكون أولها عندك، وآخرها عندي.
ودعا برسول فسلمه الكتاب، وأمره ألا يضيع وقتا في غير ضرورة حتى يصل، ودخل الرسول على ملك الروم، وسلمه الكتاب، فاصفر وجهه، وأقسم أنه ما علم من أمر هذا الأسير شيئا. وقال: لا نكلف الرجل الصالح عناء الحرب، ولكننا نبعث إليه بأسيره معززا مكرما. وقد كان".
وفي بيان بليغ آسر يربط الإمام الشهيد هذه الواقعة بنكبة فلسطين فيختم مقاله بالكلمات المتوهجة الآتية:
"أيها العرب والمسلمون، لم تعد المسألة مسألة أسير، ولا أسيرة، ولكنها أصبحت أكبر وأضخم، وأجل وأعظم، إنها قضية الحياة والشرف والكرامة والوجود لشعب بأسره، احتضنته الأمة العربية كلها، وتظاهرت على نصرته جهود العالم الإسلامي في أقطار الأرض، ثم هي قضية مستقبل الأرض المباركة والمسجد الأقصى، ثالث الحرمين وأولى القبلتين.
فاذكروا فظائع اليهود الوحشية في قرية دير ياسين، وقرية ناصر الدين، وقرية أبو زريق.. وقرية ساريس، ثم اذكروا حيفا إحدى عواصم فلسطين الثلاث، واذكروا ما بعدها إن ظللتم قاعدين، ثم انظروا ما أنتم فاعلون؟ ولا يكن حظكم من الانتصار لهذه المواطن الذبيحة أن تصيحوا "واعمراه.. وامعتصماه..([17])
* * *
ويكثر الإمام الشهيد في تضاعيف خطبه ومقالاته ورسائله من الشواهد الشعرية التراثية أغلبها الغالب يرد صريحا، وقلة قليلة تأتي على سبيل التلميح([18]). كما نرى في ختام رسالته إلى رئيس الحكومة محمود فهمى النقراشي في 5/1/1947([19])
"وأقْدم، ولا تتردد، فتفلت الفرصة السانحة، ونعود من جديد إلى التجارب القاسية، ونستبين النصح ضحى الغد.." فالجملة الأخيرة تلميح إلى قول الشاعر:
أمرتَهمو أمري بمنعرج اللِّوَى فلم يستبينوا النصحَ إلى ضحى الغد([20])
* * *
ولكن الغالبية العظمى من الشواهد الشعرية تأتي صريحة مباشرة، فمنها ما يورده للتوضيح اللغوى، والاحتجاج للمعنى، كالاحتجاج للتقوى بمعنى الحماية ببيت أبي حية النميرى:
فألقت قناعا دونه الشمس واتّقتْ بأحسنِ موصولين كفٍّ ومعْصمِ([21])
وللصلاة- بمعنى الدعاء- بقول الأعشى (ميمون بن قيس):
تقول بنتي وقد قرّبتُ مرتحل يارب جنّب أبي الأوصابَ والوجَعا
عليك مثل الذي صلّيتِ فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مُضطجعا([22])
وفي تفسيره لقوله تعالى ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ﴾[الرعد:3] يقول الإمام البنا: الرواسي: الجبال الثوابت، وهي جمع راسية، والإرساء: الثبوت. قال جميل:
أحبها والذي أرسى قواعَدهُ حتى إذا ظهرتْ آياتُه بَطَنا
وأنشدوا من قول زيد بن عمرو بن نفيل"
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوتْ شدها بأيدٍ وأرسى عليها الجبالا([23])
وقد يسوق الأبيات التى تمثل واقعة تاريخية، من ذلك أن قريشا نقضت عهدها بعد الحديبية، واعتدى حلفاؤها من بني بكر على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة، فناصرتهم وآزرتهم ولم تزجرهم ولم تردعْهم، فانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره، وأنشد بين يديه الأبيات التالية:
يـارب إنـى نـاشدُ قـد كـنتمو ولدا وكنا والدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا فـيـهم رسول الله قد تجردا في فيلق كالبحر يجري مُزبدا ونـقـضـوا ميثاقك المؤكدا وزعـموا أن لستُ أدعو أحد هـم بـيـوتنا بالوتير هجَّدا | محمداحـلـفَ أبـينا وأبيه ثُـمّـتَ أسلَمتا فلم ننزعْ يدا وادع ُ عـبـاد الله يأتوا مددا إن سـيم خسفا وجهُهُ تربّدا إن قـريشا أخلفوك الموعدا وجـعلوا لي في كداءٍ رُصَّدا وهــم أذل وأقـل عـددا وقـتـلـونـا ركّعا وسجّدا | الأتْلدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نصرتُ إن لم أنصركم" وتجهز سنة ثمان من الهجرة، وكان فتح مكة([24]).
وفي سياق تفسير للآية الثانية من سورة الرعد ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾[الرعد:2] يورد أربعة عشر بيتا للشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت، تفيد الاستدلال على قدرة الله، وعجيب صنعه برفع السماء بغير عمد، بدأها بقوله:
إلى الله أهدى مِدْحتي وثنائيا وقولا رضيّا لا يني الدهرَ باقيا
وختمها بقوله:
فرب العبادِ ألقِ سيْبا ورحمةً عليِّ وبارك في بنيّ وماليا([25])
* * *
ويورد في كتاباته من الشواهد الشعرية ما يدل على حب الوطن والاعتزاز به. فظل عالقا بحافظته ما كانت الجماهير تردده –في قوة وحماسة- من أناشيد في ثورة 1919، وكان هو في الثالثة عشرة من عمره. ومنها:
حب الأوطانِ من الإيمان وروح الله تنادينا
إنِ لم يجمعنا الاستقلال ففي الفردوس تلاقينا
ويرد هذا الشعور النبيل إلى أصل تراثي إسلامي "فحب المدينة لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم –بعد الهجرة- من أن يحن إلى مكة، وأن يقول لأصيل –أحد الصحابة، وقد أخذ يصفها- " يا أصيل دع القلوب تقر". وأن يجعل بلالا يهتف من قرارة نفسه:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بواد وحوْلي إذْخر وجليلُ
وهل أردَنْ يوما مياه مجّنةٍ وهل يبدونْ لى شامة وطفيل([26])
* * *
ولكن يأتي الإسلام في المرتبة الأولى قبل الوطن، فإن شئت فقل إن الإسلام وطن، وقومية وجنسية، ومن هذا المعتقد يولد الاعتزاز بالدين والتمسك به تمسك اعتزاز وعمل.ويوظف الإمام الشهيد من الشواهد الشعرية ما يؤيد ذلك ويدعو إليه، ".. فقد فضّل السلف الصالح أن يرفعوا نسبتهم إلى الله تبارك وتعالى، ويجعلوا أساس صلاتهم، ومحور أعمالهم تحقيق هذه النسبة الشريفة، فينادى أحدهم صاحبه:
لا تدْعني إلا بيا عبدَها فإنه أشرفُ أسمائى
في حين يجيب الآخر من سأله عن أبيه أتميمي هو أم قيسي؟
أبي الإسلام لا أبَ لي سواهُ إذا افتخروا بقيس أو تميم
* * *
والظلم ظلمات، والرضاء بالظلم والتسليم له جريمة لا تقل بشاعة عن جناية الظالم. ويستشهد الإمام بهذا البيت القديم:
نفلَّق هامًا من رجالٍ أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
فإذا عجز المظلوم عن دفع الظلم، فعليه أن يهاجر إلى حيث يجد العدل والأمن في كرامة وعزة نفس، وفي ذلك يقول الشاعر القديم:
إذا أنكرتني بلدةٌ أو نكرتُها خرجتُ مع البازي عَليّ سوادُ([27])
***
ويرى الإمام الشهيد أن المرأة يجب أن تُهذّب وتعد وتهيأ لتكون زوجة وأمًّا قبل كل شيء. ويسوق وصية أبي العلاء المعري في هذا المقام:
علموهن الغزْلَ والنسجْ والرُّدْ ن وخلُّ كتابة وقراءةْ
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلا صِ تجزي عن يونس وبراءة([28])
()
ويعلق الإمام على هذين البيتين بقوله: "ونحن نريد أن نقف عند هذا الحد، ولا نريد ما يريد أولئك المغالون المفرطون في تحميل المرأة ما لا حاجة لها به من أنواع الدراسات، ولكنا نقول علموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير المنزل، ورعاية الطفل."([29])
فالحد المعقول في شأن المرأة هو حد الوسط- بلا تفريط أو إفراط –أو هو- بتعبير آخر- ترتيب أولويات.
* * *
ويكثر الإمام الشهيد من شواهد الشعر القديم والحديث ما يستبطن أخلاق الناس وطباعَهم، ومنها:
- لعمرك ما ضاقتْ بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيقُ([30])
- وشارفي الناس من نزعات شر كشافً من طبائعها الذئابا([31])
وزهدني في الناس معرفتي بهم وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم تُرني الأيامُ خلاًّ تسرني مباديه إلا ساءني في العواقبِ([32])
* * *
وغير ما يورده الإمام من شعر حسان بن ثابت والمتنبي والبوصيرى([33]) نراه يتمثل كثيرا بشعر أحمد شوقي مثل قوله:
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وسناء
الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء([34])
وقوله
والحق والإيمان إن صبا على برد ففيه كتيبة خرساء([35])
وقوله
ولا أزيدك بالإسلام معرفة كل المروءة في الإسلام والحسب([36])
ومن فضول القول أن ننبه إلى أن الإمام المرشد لم يورد هذه الشواهد مجردة، ولكن ساقها مرتبطة بوقائع ومناسبات ومواقف، فجاءت في السياق متوافقة دون تعمّل أو تعسف وتكلف، وذلك لتأكيد المضمون، وتقويته، والإقناع به، وقد تضيف إلى المضمون أفكارا جديدة لم تردْ في السياق، وتبقى دلالتها الذاتية واضحة، وهي قوة حافظة الإمام الشهيد، وسعة إطلاعه وحضور بديهته وحماسته لموضوعاته، واعتزازه بالتراث الأدبي.
([1] ) طبانة: معجم البلاغة العربية 314.
([2] ) التونجي: المعجم المفصل في الأدب 2/85-86.
([3] ) رسالة: نحو النور 69-94 من مجموعة رسائل الإمام الشهيد. وانظر كذلك رسالته إلى مصطفى النحاس في 14/6/1936 (مذكرات الدعوة والداعية293-294.
([4] ) مجلة الإخوان المسلمين –السنة الأولى- العدد6- 27 من ربيع الأول 1352ﻫ-30 من يوليو 1933.
([5] ) جريدة الإخوان المسلمين- العدد21- 18 جمادى الآخرة 1353
([6] ) مجلة الإخوان المسلمين- السنة الأولى- العدد2- 28 من صفر 1352ﻫ- 22 من يونيو1933.
([7] ) من رسالة نحو النور –مجموعة رسائل الإمام الشهيد82.
([8] ) جريدة "الإخوان المسلمين اليومية- السنة الأولى- العدد12-16 من جمادى الآخرة 1365ه. 17 من مايو 1946.
([9] ) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية- السنة الثالثة- العدد3- 27 من المحرم 1354- 30 إبريل1935.
([10] ) مجلة الإخوان المسلمين –السنة الرابعة- العدد5- 21 من صفر 1355ﻫ- 12 من مايو 1936م.
([11] ) مجلة الإخوان المسلمين – السنة الرابعة- العدد14- 25 من ربيع الآخر1355- 14 من يوليو 1936.
([12] ) من تفسير الشهاب – الكتاب الثاني من تراث الإمام البنا (التفسير)، 259-260- دار الدعوة- الإسكندرية 2005.
([13] ) من تفسير الشهاب – الكتاب الثاني من تراث الإمام البنا (التفسير)، 259-260- دار الدعوة- الإسكندرية 2005.
([14] ) انظر كتاب التفسير السابق 86-90.
([15] ) رسالة: نحو النور: من مجموعة رسائل الإمام البنا72.
([16] ) المقال بعنوان "واعمراه.. وا معتصماه"- جريدة الإخوان المسلمين اليومية- السنة الثانية- العدد 609- 14 من جمادى الآخرة 1367ﻫ- 23 من إبريل 1948م.
([17] ) جريدة الإخوان المسلمين، السنة (2)العدد609- 14 جمادى الآخرة 1367ﻫ- 23 إبريل1948.
([18] ) التلميح –اصطلاحا- يعني الإيماء المباشر أو غير المباشر في الشعر والنثر- إلى قصة معلومة أو مثل سائر أو بيت مشهور من الشعر من غير تفصيل [انظر طبانه620- والتونجي1/281: مرجعين سابقين]
([19] ) انظر نص الرسالة في "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ". لمحمود عبد الحليم1/387-389.
([20] ) البيت لدريد بن الصمة، استشهد به على بن أبي طالب- كرم الله وجهه- انظر: نهج البلاغة 23 (دار الأضواء- بيروت1986)
([21] ) البيت لأبي حية النميرى. وانظر ص289 من الكتاب الثاني من سلسلة تراث الإمام البنا وعنوانه (التفسير).
([22] ) انظر السابق267.
([23] ) مجلة المنار العدد7- من المجلد 35- ربيع الأول 1359ﻫ- إبريل 1940.
وانظر ص381 من كتاب (نظرات في كتاب الله) تحقيق عصام تليمة – دار التوزيع والنشر الإسلامية- القاهرة2002.
([24] ) مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية- العدد170- السنة الخامسة- 12 من ذي القعدة 1366- 27 من سبتمبر1947 وانظر تليمة السابق 248.
([25] ) انظر الكتاب الثاني من تراث الإمام البنا (التفسير)93-94
([26] ) مجموعة رسائل الإمام الشهيد 25.
([27] ) مجموعة الرسائل353.
([28] ) السابق 299- والردن: صناعة الملابس.
([29] ) السابق- نفس الصفحة.
([30] ) مجموعة الرسائل 168.
([31] ) المذكرات 174
([32] ) مجموعة الرسائل 352
([33] ) انظر الكتاب السادس من سلسلة من تراث الإمام البنا ص159، 165، 152(بالترتيب) (المناسبات الإسلامية)
([34] ) مجلة الإخوان الأسبوعية – السنة السادسة- العدد184- 20من ربيع الأول 1367ﻫ- 31 يناير 1948.
([35] ) السابقة- السنة الثانية العدد (2) 26 من المحرم 1353ﻫ- 11 من مايو 1934.
([36] ) نفس المصدر.