عينان مطفأتان وقلب بصير
للكاتب الكبير: عبد الله الطنطاوي
عبد الله الطنطاوي
غرناطة عبد الله الطنطاوي
إنها عنوان رواية للأديب الكبير عبد الله الطنطاوي، وتضم مئتي صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية جميلة ما إن تبدأ بقراءتها لا تتركها حتى تنهيها، كبقية أعمال هذا الأديب الكريم.
عندما كنت أقرأ هذه الرواية شعرت بشخصية الكاتب تحاكي شخصية بطل الرواية، إذ أن كل السجايا والصفات الرائعة تنطبق تماماً على شخصية الكاتب، بدءاً بطريقة تناول بطل الرواية لطعامه، وذوقه الرفيع الذي يشدّ إليه القلوب والعقول، فقد كان ينبّهنا دائماً ونحن صغار كي نهتمّ بطريقة تناولنا للطعام والشراب، وحتى طريقة الضحك والحديث، ولا تفلت منه شاردة ولا واردة إلا وينبّهنا إليها، وهو يردد دائماً:
-أريدكم شمعة في المجتمع.
وأما قلب بطل الرواية الكبير فقد وسع جميع أبناء قريته، ولم ينس أبداً أهله وأبناء قريته، بل مدّ لهم يد المساعدة مع أنه الأحوج إلى المساعدة، ولكن إرادته القوية جعلته يتجاوز إعاقته، ويبصر بقلبه أكثر من المبصرين، ويرفض نظرات العطف والشفقة والإحسان من أحد، حتى من والديه.
وكذلك قلب صاحب الرواية، فقلبه كبير حنون لا يستطيع رؤية الدم ولو كان من جرح بسيط، ولا يتحمل رؤية فقير إلا وساعده ما أمكنه ذلك، وأما اليتيم والأرملة والعجوز فلهم مكان كبير في قلبه الكبير، بل ويحضّنا على مساعدة كل متسول حتى وإن كان كاذباً، ويقول:
-أن تخطئ بالعطاء خير من أن تخطئ بالمنع.
ولن أنس تلكم الليالي التي خلت، عندما كنا في بلدنا الحبيب حلب، في ليلة الثانوية العامة، وهو يدور على طلابه في بيوتهم، أو مجتمعين في بيت أحدهم، أو ينتظرونه على مدخل البيت، ليسألوه عما استعصى عليهم في مادة اللغة العربية، حتى تشرق شمس صباح الامتحان.
أعلم أن شهادتي مجروحة في حق هذا الأديب الكبير، لأنني ابنته القريبة منه جداً، ولأنني أحبه أكثر من حبي لنفسي، ولكن لو سألتم عنه كل من يلوذ به من قريب أو بعيد سيؤيد كلامي هذا.
وأما الوزير الرائع الذي تتحدث عنه الرواية، فقد توقعت أن يكون حلماً فقط، إذ أنه ليس في الوجود وزير بهذا الكرم والأخلاق العالية، ولكن الوزير كان حقيقة وليس خيالاً، وهذا يعطينا أملاً جميلاً في هذه الدنيا أنها لا تزال بخير، وأن هناك وزراء طيبين خلوقين قريبين من الناس، وليسوا في قصورهم العاجية، لا يهمهم إلا أنفسهم وملذاتهم.
وأما أبناء القرية فككل الناس الطيبين، الذين لديهم بذرة خير ولكن تحتاج هذه البذرة إلى من يرعاها ويأخذ بيدها، فقد هبّ الجميع لمساعدة بعضهم البعض كلٌ حسب إمكانياته، دون أن ينتظروا الشكر من أحد.
وقد نجح مشروع الشيخ الشاب صالح –أعمى العينين بصير الفؤاد- بالرغم من ضيق ذات اليد، ولكن النجاح دائماً حليف الإخلاص، وهذا ما يريح نفوسنا المتعبة التي ترى الجحود في كل مكان، فالدنيا بخير والحمد لله.
أتمنى أن يقرأ هذه الرواية الكبار والصغار، كي يروا الجمال في الأسلوب، والعبرة في المعنى، وسلاسة الأفكار وتدفقها دون جهد يُذكر، والبعد عن المترادفات التي كثيراً ما نراها في بعض الروايات، والبعد عن الإسفاف في التعابير كي يأتي الكلام منمقاً، كما يفعل بعض الكتّاب، ولكي يروا الحوار الذي يدور بين أبطال الرواية، وهو حوار مختصر مفيد، وقد يكون فيه بعض العظات ولكن بشكل غير مباشر، أي أنه بعيد عن التقريرية والوعظ والإرشاد، حتى لا يؤذي مسامع الناس وينفّرهم.
ولكن أديبنا الكريم جعل من هذا الوزير ملاكاً رائعاً، وأظن أن صفات هذا الوزير مبالغ فيه، ولكنني أكاد أسمع صاحب الرواية وهو يقول:
-يا ابنتي.. تفاءلوا بالخير تجدوه.