تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "الْغَيْثُ الْمُسْجَم في شَرْحِ لاميَّةِ الْعَجَم" لِلصَّفَديِّ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

قالَ ابْنُ وَكيعٍ :

أَبْصَرَه عاذِلي عَلَيْه وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذا رَآه

فَقالَ لي لَوْ هَويتَ هذا ما لامَكَ النّاسُ في هَواه

قُلْ لي إِلى مَنْ عَدَلْتَ عَنْه فَلَيْسَ أَهْلُ – هكذا والنصب أولى - الْهَوى سِواه

فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْري يَأْمُرُ بِالْحُبِّ مَنْ نَهاه

الله !

ما أشعرك !

قالَ شَيْخُ الشُّيوخِ ( شرف الدين ) أَيْضًا :

مَنْ مُنْصِفي مِنْ عاذِلٍ جاهِلٍ يَخونُ بِاللَّوْمِ لِمَنْ لا يَخونْ

إِنْ قُلْتُ ما نُصْحُكَ إِلّا أَذًى قالَ وَما عِشْقُكَ إِلّا جُنونْ

هذا على طريقة ما أورد ابن سناء فيما رواه الصفدي :

يَقولُ لِي الْعاذِلُ في لَوْمِه وَقَوْلُه زورٌ وَبُهْتان

ما وَجْهُ مَنْ أَحْبَبْتَه قِبْلَةٌ قُلْتُ وَلا قَوْلُكَ قُرْآن

ولكنه عكسه !

" يا واردا سؤر عيش كله كدر أنفقت صفوك في أيامك الأول "

" كُلُّه " : مَرْفوعٌ عَلى أَنَّه خَبَرٌ ، وَالْجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ ، لِأَنَّه صِفَةٌ لِـ" سُؤْرَ " ، وَإِنْ شِئْتَ في مَوْضِعِ جَرٍّ ، لِأَنَّه صِفَةٌ لِـ" عَيْشٍ " ، وَهُوَ أَحْسَنُ

بل مبتدأ خبره " كَدَرٌ " ، والجملة نعت " عَيْشٍ " !

مِنْ نَظْمِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ جِنّي ، وَكانَ أَعْوَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ تَعالى ! - :

صُدودُكَ عَنّي وَلا ذَنْبَ لي دَليلٌ عَلى نيَّةٍ فاسِدَهْ

فَقَدْ وَحَياتِكَ مِمّا بَكَيْتُ خَشيتُ عَلى عَيْنِيَ الْواحِدَهْ

وَلَوْلا مَخافَةُ أَنْ لا أَراكَ لَما كانَ في تَرْكِها فائِدَهْ

أدركت زمان حياة حمد الجاسر علامة الجزيرة العربية – رحمه الله ! - وكان أعور عجيبا ، أحاط بعينه الواحدة ، بما لا يحيط به النفر من العلماء !

يُعْجِبُني قَوْلُه ( ابن سناء الملك ) نَظْمًا :

تَدّعِي الْعَقْلَ وَهْوَ أَشْرَفُ ما فيكَ وَلِمْ صارَ داخِلًا تَحْتَ حِسِّكْ

وَكَذا حُبُّكَ الْحَياةَ وَقَدْ أَصْبَحْتَ لا تَشْتَهي سِوى طولِ حَبْسِكْ

طَلِّقِ النَّفْسَ فَهْيَ أَخْوَنُ عِرْسَيْكَ أَلَيْسَتْ هِيَ الْمُشيرُ – هكذا والنصب أولى-  بِعِرْسِكْ

وَإِذا اخْتالَ فَوْقَ أَرْضِكَ مِنْكَ الْعِطْفُ فَاذْكُرْ هَوانَه تَحْتَ رَمْسِكْ

لا تُغالِطْ فَما تَنالُ رِضَى اللّهِ تَعالى إِلّا بِإِغْضابِ نَفْسِكْ

ما أَهانَ الْوَرى وَلا مَلَكَ الدُّنْيا وَلا حازَها سِوى الْمُتَنَسِّكْ

قُلْتُ : ما أَحْلى ما أَتى بِـ" الْمُتَنَسِّكْ " هُنا قافِيَةً ؛ فَسَقَى اللّهُ ضَريحَه ، وَرَوَّحَ روحَه ! وَما كانَ أَلْطَفَ ذَوْقَه ، وَأَشَبَّ عُمْرَهُ الَّذي جَعَلَ الْهِلالَ طَوْقَه ! وَهذِهِ الْقافِيَةُ لا يُجيزُهَا الْعَروضيّونَ وَيَحْتَجّونَ بِأَنَّ الْكافَ أَصْليَّةٌ ، وَلَيْسَتْ ضَميرًا كَأَخَواتِها . وَأَنا وَغَيْري مِنْ أَئِمَّةِ الْأَدَبِ الَّذينَ لَطُفَ ذَوْقُهُمْ ، يَرَوْنَ أَنَّ هذِهِ الْقافِيَةَ بَيْنَ نُجومِ الْقَوافي ، كَالشَّمْسِ ، وَهِيَ الَّتي فيها خِفَّةُ الرّوحِ ، وما عَداها فيهِ ثِقَلُ الرَّمْسِ ، لِأَنَّها قَليلَةُ الْوُقوعِ فِي الْكَلامِ ، بَخيلَةٌ بِالزِّيارَةِ وَرَدِّ السَّلامِ ، قَلَّ أَنْ يَظْفَرَ النّاظِمُ مِنْ هذا النَّوْعِ بِقافِيَةٍ ، وَيَجِدَ لَها ثانِيَةً ، وَالِاسْتِقْراءُ أَمامَكَ ؛ فَاطْلُبْ لَها أُخْتًا ، وَاسْلُكْ مِنْ أَرْضِ اللُّغَةِ عِوَجًا وَأَمْتًا ، فَإِنْ وَجَدْتَ فَبَعْدَ جَهْدٍ وَتَعَبٍ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ يُؤَدِّيانِكَ إِلَى الزُّهْدِ ، بِخِلافِ أَخَواتِهَا الْبَواقي ، لِأَنَّكَ تَجِدُ أَمْثالَهُنَّ في مَطالِعِ اللُّغَةِ رَواقِيَ ، يَعْرِفُ هذا الْقَوْلَ أَرْبابُه ، وَمَن بَيْني وَبَيْنَه نِسْبَةٌ أَوْ تَشابُهٌ . وَقالَ أَبُو الْعِزِّ مُظَفَّرٌ الْأَعْمى : دَخَلْتُ عَلَى الْمَلِكِ الْكامِلِ ، فَقالَ لي : أَجِزْ هذَا النِّصْفَ :

قَدْ بَلَغَ الشَّوْقُ مُنْتَهاه

فَقُلْتُ :

وَما دَرَى الْعاشِقونَ ما هو

فَقالَ :

وَإِنَّما غَرَّهُمْ دُخولي

فَقُلْتُ :

فيه فَهاموا بِه وَتاهوا

فَقالَ :

وَلي حَبيبٌ يَرى هَواني

فَقُلْتُ :

وَما تَغَيَّرْتُ عَنْ هَواه

فَقالَ :

رِياضَةُ النَّفْسِ فِي احْتِمالي

فَقُلْتُ :

وَرَوْضَةُ الْحُسْنِ في حُلاه

فَقالَ :

أَسْمَرُ لَدْنُ الْقَوامِ أَلْمى

فَقُلْتُ :

يَعْشَقُه كُلُّ مَنْ يَراه

فَقالَ :

ريقَتُه كُلُّها مُدامٌ

فَقُلْتُ :

خِتامُها الْمِسْكُ مِنْ لَماه

فَقالَ :

لَيْلَتُه كُلُّها رُقاد

فَقُلْتُ :

وَلَيْلَتي كُلُّهَا انْتِباه

ثُمَّ إِنَّ مُظَفَّرًا أَكْمَلَها مَديحًا فيهِ ، وَقَدْ أَوْرَدْتُ هذَا الشِّعْرَ لِأَنَّ فيهِ قافِيَتَيْنِ لا يَجوزانِ عَلى رَأْيِ أَرْبابِ الْعَروضِ ، وَهُما أَحْسَنُ ما في هذِهِ الْقَوافي : الْأولى " ما هُو " ، وَالثّانِيَةُ " انْتِباه " ، انْظُرْهُما تَجِدْهُما أَحْسَنَ الْقَوافي ، وَلَوْ تُرِكْنا وَالْعَقْلَ لَكانَ يَنْبَغي أَلّا تُعَدَّ الْقَوافي إِلّا إِذا كانَتْ غَيْرَ مُتَّصِلاتٍ بِضَميرِ مُخاطَبٍ أَوْ غائِبٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ ، لِأَنَّ في ذلِكَ شَيْئًا مِنَ الْإيطاءِ . وَما أَحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ سَناءِ الْمُلْكِ مِنْ قَصيدَةٍ :

فَخُذِ الْحَديثَ عَنِ الْمَدامِعِ فَهْيَ تَرْوي عَنْ قَتادَهْ

إِنّي بَديهيُّ الدُّموعِ وَإِنَّ دَمْعي لا يُبادَهْ

وَقَوْلَ ابْنِ بابَكَ مِنْ أَبْياتٍ :

هُوَ الرَّبْعُ يَخْرَسُ إِنْ شِمْتَه وَإِنْ سُمْتَه خَبَرًا خَبَّرَكْ

فَلا تُرْعِدَنْكَ دَواعِي الْهَوى فَطَوْدُ الْمَهابَةِ قَدْ وَقَّرَكْ

كَأَنَ لِسانِيَ قَدْ ساقَه إِلَى الْحَمْدِ أَخْذُكَ ما قَدْ تَرَكْ

غُبارٌ تَصَدَّعَ عَنْ فارِسٍ يُقَطِّرُ مِنْ قَسْطَلِ الْمُعْتَرَكْ

نَقَلْتُ هذِهِ الْأَبْياتَ مِنْ ديوانِ بِخَطِّ ابْنِ خَروفٍ النَّحْويِّ ، وَالْقَصيدَةُ مُثْبَتَةٌ في حَرْفِ الرّاءِ ، وَوَجَدْتُ ابْنَ خَروفٍ قَدْ كَتَبَ عَلَى الْهامِشِ هذَا الْبَيْتَ في قافِيَةِ الْكافِ ، وَالَّذي بَعْدَه ، وَتَرَكَ " وَالْمُعْتَرَكْ " ، في قافِيَةِ الرّاءِ ، وَهُوَ غَيْرُ جائِزٍ ، وَيَجوزُ الْكُلُّ في قافِيَةِ الْكافِ

هذه الأبيات الأولى لابن رشيق القيرواني ، لا ابن سناء الملك .

ثم كأن وقوع الكاف أصلية على كون كل ما سواها ضمائر ، أَزْعَجَهُمْ عن مُطْمَأَنِّهِمْ !

والحق أن الروي السين وإن قويت الكاف الأصلية ؛ فقد ضعف السياق كله .

ثمت ليست المسألة - يا مولانا - أن أعثر بين قوافي القصيدة الواحدة ، على قافية بيت منها تكون قد خرجت هذا المخرج الذي في " المتنسك " ، بل أن أجد قوافي القصيدة كلها في أبياتها كلها قد خرجت هذا المخرج . ولا ريب في أنها ستكون عندئذ من لزوم ما لا يلزم .

ثمت الرواية " فخذوا الحديث " ، لا " فخذ الحديث " .

ثمت كأنهم اسْتَقْوَوُا الْكاف ضميرا مستقلا ، دونها بقيةَ كلمة ، وهذا من طغيان علم الصرف على علم العروض ؛ فإن الإشكال إنما يكون في حال الكاف وحال ما قبلها سكونا وحركة ؛ فهذان الحالان أعلق بحال الإسماع مما يأتي من علم الصرف .

" ملك القناعة لا يخشى عليه ولا يحتاج فيه إلى الأنصار والخول "

" عَلَيْه " : عَلى لِلِاسْتِعْلاءِ مَعْنًى ، وَالْهاءُ مَجْرورٌ بِه ، وَهُوَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ ، لِأَنَّه سَدَّ مَسَدّ مَفْعولِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه (...) " فيه " : في لِلظَّرْفِ ، وَالضَّميرُ مَجْرورٌ بِه (...) ، وَالْكَلامُ فيه كَالْكَلامِ في " عَلَيْه " (...) إِنَّ الْقَناعَةَ صاحِبُها مَلِكٌ ، لِأَنَّه في غِنًى عَنِ النّاسِ ، وَفي مُلْكِها مَزيَّةٌ عَلى مُلْكِ ما سِواها مِنْ أُمورِ الدُّنْيا ، وَهِيَ أَنَّها غَيْرُ مُحْتاجَةٍ إِلى خَدَمٍ وَلا أَنْصارٍ وَلا عَساكِرَ ، يَحْفَظونَها ، وَلا يُخْشى عَلَيْها مِنْ زَوالٍ وَلَا اغْتِصابٍ ، لِأَنَّ مُلوكَ الدُّنْيا يَحْتاجونَ إِلَى الْخَوَلِ وَالْأَنْصارِ لِلْخِدْمَةِ وَالْحِفْظِ وَالِاحْتِرازِ عَلى نُفوسِهِمْ مِنَ الْأَعْداءِ ، وَإِلَى الْعَساكِرِ لِيَحْفَظوا ثُغورَ الْبِلادِ وَحُدودَ الْمَمالِكِ مِنَ الْعَدوِّ الَّذينَ يَتَغَلَّبونَ عَلَيْها ، وَيُضْطَرّونَ إِلى أَمْوالٍ يُنْفِقونَها فِي الْعَساكِرِ لِيُمَوِّنوهُمْ بِذلِكَ .

ينبغي إذا كان الاحتياج إلى الأنصار والخول ، كما ذكرت - أن يكون الجار والمجرور " إلى الأنصار والخول " ، هما نائب الفاعل !

" ترجو البقاء بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظل غير منتقل "

" لَها " : جارٌّ وَمَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذوفِ ، وَتَقْديرُه لا ثَباتَ مَوْجودٌ لَها ، وَالضَّميرُ يَعودُ إِلَى الدّارِ

يستحسن النحويون أن يكون الخبر محذوفا ، وشبه الجملة نعت اسم لا ، من حيث إن حذف خبرها كثير ، وفي القول بهذا عندهم ملاءمة

نَصيبُكَ في حَياتِكَ مِنْ حَبيبٍ نَصيبُكَ في مَنامِكَ مِنْ خَيال

" نصيب " ، وحبيب " ، من أسماء العمانيين الشائعة ، وما أكثر ما كان في تلامذتي هذا وذاك أحدهما أو كلاهما ؛ فكنت إذا أكثر الغيابَ أيٌّ مِمَّنْ أحدُهما اسمُه ، أعاتبه بهذا البيت من شعر أبي الطيب المتنبي ؛ حتى قال لي أحدهم مرة : أنا نصيب ، وأبي حبيب !