الآثار الفارسية في شعر امرئ القيس
د. نعيم محمد عبد الغني
يذكر آذرتاش آذر نوش في كتابه سبل نفوذ الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم أن امرأ القيس يخاطب محبوبته الرومية باللغة الفارسية فيقول: (فقلت لها: وَرْخيزْ بيا خُوشَ من فُزَلْ)، ثم يلاعبها "دستا" بالشطرنج ويأخذ باللعب الرخ والشاه والفيل". ثم يقول المؤلف: "وقد عثر في ديوان هذا الشاعر على نحو تسع عشرة كلمة فارسية ولكنه لم يشر إلى إيران".
ويلحظ في هذا القول أن مؤلف الكتاب كما بينا في مقالة سابقة يتعصب لكل ما هو فارسي، ويظهر هذا التعصب بوضوح في قوله بعد أن أحصى الألفاظ الفارسية في الشعر الجاهلي ومنه شعر امرئ القيس حيث يذكر المؤلف بأن امرأ القيس لم يشر إلى إيران، وكأنه ينقم على امرئ القيس عدم إشاراته إلى إيران. وهذه النقمة ليس لها مبرر إذ لم ترو كتب الأدب أن امرأ القيس ذهب إلى فارس أو اتصل بهم مثل الأعشى الذي صرح بذلك في شعره.
إن هذه القضية التي تندرج في إطار التأثير والتأثر بين الآداب التي تقف بنا على تطور التجارب الشعرية على مر العصور يمكن عرضها في ضوء حياة امرئ القيس وشعره، متبعين أصول المنهج النصي لرولان بارت؛ والمنهج التاريخي في دراسة الألفاظ؛ لأن هذين المنهجين يمثلان إطارا تحليليا يستوعب كثيرا من المناهج النقدية الحديثة والقديمة؛ فمن خلالهما يمكن أن ندرس الظروف الخارجية التي مر بها الشاعر، ومن خلالهما أيضا يمكن أن نستنبط المجهول من هذه الظروف من خلال المعلوم المدون من شعر أمامنا.
يذكر المؤرخون أن امرأ القيس لقب يعني رجل الشدة، وأنه اسم لعدد من الرجال، ولكنه إذا أطلق فإنما يقصد به الملك الضليل أو ذي القروح ذلك الشاعر الجاهلي المعروف بمعلقته الشهيرة، وشاعريته الفذة التي شهد بها كل الناس حتى قال عنه سيدنا عمر بن الخطاب (امرؤ القيس سابق الشعراء، خسف لهم عين الشعر.) وقال عنه سيدنا علي: (رأيته أحسن الشعراء نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل الشعر لرهبة أو لرغبة).
وقول سيدنا علي بأن امرأ القيس لم يقل الشعر لرغبة أو لرهبة يوحي لنا بأن الشاعر كان متحررا من كل أغلال الإبداع، فكان إبداعه بلا قيود أو حدود، وهذه الحرية ربما نتجت لأن الشاعر بدأ حياته عربيدا سكيرا مخالفا أعراف القبيلة؛ مما دفع ذلك بحجر والد امرئ القيس لأن يطرده من رحابه والعيش في جنابه ليواصل امرؤ القيس حياة اللهو والضياع، تلك الحياة التي لم يفق منها إلا على نبأ مقتل أبيه الذي دفعه لأن يرمي الخمر ويعزم الأمر على أن يأخذ الثأر لأبيه، قائلا مقولته الشهيرة التي تتناقلها كتب الأدب: (لقد ضيعني أبي صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا أصحوا اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر).
وتروي أيضا كتب الأدب أن الأسدي الذي قتل حُجرا لم يجهز عليه؛ مما ساعد حجرا على أن يكتب وصيته ويدفعها إلى رجل قائلا له: انطلق إلى ابني نافع ، فإن بكى وجزع فاتركه، وأستقرهم واحداً واحداً، حتى تأتي امرأ القيس ، فأيهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي ووصيتي. فمر يهم واحداً واحدا ، فكلهم جزعوا، حتى أتى أصغرهم فوجد معه نديما له يشرب الخمر ويلاعبه النرد، فقال له: قتل حجر. وأمسك نديمه فقال له: اضرب فضرب، حتى فرغ فقال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه. فقال: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأجهز النواصي مائة.
هذه الحرية التي تمتع بها امرؤ القيس نجد لها آثارا جلية في شعره؛ فهو لا يتورع عن ذكر الفاحش من القول وتصوير البذيء من الفعل طالما أن ذلك يلبي رغبة الإبداع عنده، وطالما أن شيطان الشعر له غواية، فلا سلطان بعد ذلك الشيطان، وكان ذلك التحرر من ربقة الأخلاق التي تمتع بها كثير من شعراء الجاهلية كعنترة مثلا دافعا لأن يمدح النبي صلى الله عليه وسلم عنترة ويحب أن يسمع شعره، ودافعا لأن يقول عن امرئ القيس: (ذاك الرجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة ومعه الشعر إلى النار).
إن حياة امرئ القيس المتسمة بالتمرد قبل وفاة أبيه وبعده نجد صداها في شعره؛ فقبل وفاة أبيه تمرد على التقاليد، وبعده تمرد على أن يحقق الثأر بطريقة غير عادية؛ فلقد انتصر على بني أسد وأعمل فيهم القتل الكثير رغم استرضائهم له وشرع ليتتبع من فر منهم ليقتله واستعان بمرثد الخير بن ذي جدن الحميري فأمده بخمسمئة فارس إلا أنه لم يحقق نصرا بعدها وظل يستنصر بأمير تلو الآخر، ولكن أحدا لم ينصره، وتاه الملك الضليل إلى أن وصل إلى قيصر الروم الذي أكرم وفادته لكنه اغتاله عندما أهداه حلة مسمومة كانت سببا في مقتله؛ حيث إنها سببت له الجدري عندما لبسها وسرى سمها في جسدها ومات مقروحا ضالا في الفلوات؛ ولذا يسمى بالملك الضليل أو ذي القروح.
هذا هو الإطار التاريخي لحياة امرئ القيس الذي نلمس صدقه من خلال شعره؛ حيث إنه دون كثيرا من هذه الحوادث، وبرع في الوصف غاية البراعة إلا أن هذا الوصف كان نابعا من البيئة المحيطة به، بيئة الخمر واللهو، وبيئة الحرب، واستتبع هذا الوصف ذكر مغامراته فخرا بنفسه وبحسبه ونسبه وقبيلته.
ولم يكن في هذا الوصف أثر للتصوير الفارسي في شعره، بل إننا لا نكاد نعثر إلا على 19 لفظا من مفردات الفارسية التي ربما تغلغلت داخل نسيج لغة العرب، وأصبحت مألوفة معروفة لدى الناس؛ فربما نسي أنها مستعارة من فارس وربما لم ينس واستخدمت على ألسنة الناس. أما البيت الذي ذكره آذرتاش آذر نوش ذاكرا بأن امرأ القيس يغازل محبوبته بالفارسية فلم أعثر له على تكملة تنسب لامرئ القيس وأغلب ظني أن البيت ربما يكون منسوبا لامرئ القيس أو قاله امرؤ القيس عندما التقط بعض الألفاظ الفارسية من هنا وهنناك فأراد أن يضعها في قالب الشعر على سبيل رياضة القول وهذا ما يفعله كثير من الشعراء، ولكني أستبعد أن يكون امرؤ القيس قد تأثر بالحضارة الفارسية أو أدبها ولغتها، وربما يرجع ذلك لأن الفرس والروم كانا على فرسي رهان في ذلك الزمان، وأن امرأ القيس انضم إلى الروم وقيصرهم، وآثرهم على الفرس وكسراهم.
وربما يكون من الطريف أن نجد لفظين فارسيين من 19 لفظا في ديوان الشاعر، وأن هذين اللفظين في مجموعة صغيرة من الأبيات لا تتجاوز أربعة أبيات يذكر فيها جانبا من مغامراته التي ذكرناها ويذكر فيها كلمة (بريد) التي تعني حامل الرسالة، وهي مأخوذة من الكلمة الفارسية (بريده دم).. وربما تكون الكلمة منقولة من البهلوية إلى العربية مع الألفاظ البريدية الأخرى. وقد استخدمها امرؤ القيس في قوله: (ونادمت قيصر في ملكه ...فأوجهني وركبت (البريدا).
ونجد استخدام كلمة فُرانق في قوله: (إذا ما ازدحمنا على سكة ....سبقت الفُرانق سبقا رشيدا). وأصلها الفارسي (بَرْوانك) وتطلق على الهر البري، وقال الجواليقي في المعرب بأنه سبع يصيح بين يدي الأسد كأنه ينذر الناس به، ويقال إنه فُرانق الأسد، ويقال إنه الوَعوع أي ابن آوى، وقد استخدمت الكلمة أحيانا بمعنى طليعة الجيش والدليل بسبب وقوف هذا الحيوان بين يدي الأسد، وكذلك استخدمت بمعنى موظف البريد. وفي ضوء هذا الفهم لهذه الألفاظ الفارسية التي أتت في شعر امرئ القيس واستعانة بقصة حياة التي أجملناها، يمكننا فهم أبياته عندما كان في أرض قيصر التي يقول فيها:
أأذكرت نفسك ما لن يعودا
فهاج التذكر قلبا عميدا
تذكرت هندا وأترابها
فأصبحت أزمعت منها صدودا
ونادمت قيصر في ملكه
فأوجهني وركبت (البريدا)
إذا ما ازدحمنا على سكة
سبقت الفرانق سبقا رشيدا
فهذه الأبيات تصور حالة نفسية مرت بامرئ القيس الذي كان غريبا في ذلك الوقت، فتذكر أيام لهوه بهند وصديقاتها، ولكن تلك الأيام لن تعود ربما لأنه أقسم بعدم عودتها إلا بعد النصر الكبير لأبيه وتحقيق الملك لنفسه، وذلك الملك لم يتحقق له بعد ولا تظهر بارقة أمل لتحقيقه، فاليأس قد تسرب لنفسه وتملك من صاحبه الذي رافقه في سبيل طلب الملك والجاه والاستنصار بالروم فقال له امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت لا تبك عينك إنما
نحاول ملكا أو نموت ونعذرا.
في سبيل التمرد والسعي لملك غير عادي رحل امرؤ القيس، وفي خضم هذه الرحلة يتذكر ما لن يعود من نشواته الحسان التي قال فيها: (تمتع من الدنيا فإنك فان... من النشوات والنساء الحسان )، وهذه الذكرى تجعله يركب البريد بل يصور نفسه بأنه يزاحم موظف البريد على الطريق كي يصل إلى أيامه الخوالي ولكن هيهات فإن الملك الضليل سيموت في الطريق كما ذكرنا.