مراعاة المقتَضَى

مراعاة المقتَضَى

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

الباب الثالث من الطوابع والملامح الفنية

الفصل الأول

مراعاة المقتَضَى

مقتضى الحال – ويسمى الاعتبار المناسب- هو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة، مثلا المدح حال يدعو لإيراد العبارة على صورة الإطناب، وذكاء المخاطب حال يدعو لإيرادها على صورة الإيجاز. فكل من المدح والذكاء حال وكل من الإطناب والإيجاز مقتضى. وإيراد الكلام على صورة الإطناب، أو الإيجاز مطابقة للمقتضى([1]).

والحال هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام على صورة مخصوصة، سواء أكان ذلك الأمر الداعي ثابتا في الواقع، أم كان ثبوته بالنظر لما عند المتكلم([2]).

* * *

ولكن العرف البلاغي لا يقف طويلا أمام المفهوم الحاد" لمصطلح مقتضى الحال" ومراعاته، ويكاد يوظفه مرادفا لصفة "التناسب"، وهذا – في رأيي أفضل وأجدى من الناحية العملية.

فيجب أن يكون البيان مناسبا للمقام والموقف، وشخصية المخاطب، فلا يكلم الملوك بما يكلم به السوقة مدحا أو هجاء: فالمرزباني " يعرض للقصيدة التي يهجو البحتري فيها "المستعين بالله"، والتي مطلعها:

أعاذلتي على أسماءَ ظلما               وإجراءِ الدموع لها الغزارِ

يقول المرزباني "وهذه الأبيات من أقبح الهجاء وأضعفه لفظا، وأسمجه معنى.. وهي أيضا خارجة عن طريقة هجاء الخلفاء والملوك المألوفة، وهى بهجاء سفلة الناس ورعاعهم أشبه، مع ما جمعت من سخافة اللفظة، وهلهلة النسج، والبعد من الصواب.."([3])

* * *

وتثور في المباحث البلاغية –عن تقييم الأساليب- مسألة التفضيل بين الإيجاز والإطناب، فهناك من يرى أن البلاغة إيجاز،وأن خير الكلام ما قل ودل، وأن الزيادة في الحد نقصان([4]).

وهناك من يفضل الإطناب على الإيجاز بدعوى أن المنطق "إنما هو بيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع، والشفاء لا يكون إلا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشد إحاطة بالمعاني، ولا يحاط إحاطة تامة إلا بالاستقصاء([5]).

والواقع أن المفاضلة بين الإيجاز والإطناب –بهذا الإطلاق. في غير محلها، لأنها تغفل في الموازنة عن عنصر مهم جدا هو عنصر "المقام، أو المجال أو المناسبة". ونحن نرى في هذه المسألة ما يراه أبو الهول العسكري من أن الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما في جميع الكلام.. ولكل واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه، فمن أزال التدبير في ذلك من جهته واستعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ([6]).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه هو المثل الأعلى في هذه السمة: سمة الغرض ومقتضى الحال، فهو –على حد قول الجاحظ "استعمل المبسوط (الأطناب) في موضع البسط، والمقصور (الإيجاز) في موضع القصر"([7]).

فهو يستخدم الإطناب في معاهداته لما تحمله من حقوق وواجبات، كما نرى في صلح الحديبية([8]). وفي كتاب الموادعة الذي كتبه بعد هجرته من مكة إلى المدينة، ويمثل دستور عمل ومعايشة فى المجتمع الجديد([9])

وهو صلى الله عليه وسلم يستخدم الإيجاز في المقام الذي يقتضيه، فحينما بعث إليه مسيلمة الكذاب بكتابه الذي يدعي فيه النبوة، وأنه شريكه في الأرض، "ولكن قريشا قوم لا يعدلون"، جاء جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سطرين "أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"([10]).

وحقق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإيجاز غرضين: أولهما الترفع عن الخوض في جدل عقيم مع رجل دعيّ، لا همّ له إلا الجاه والسلطان وأبهة الدنيا. وثانيهما: تقرير الرد في صورة حقيقة عامة تعتبر جوهرا من جواهر العقيدة الإسلامية، وهي أن "الأرض لله يورثها من يشاء([11]).

بل قد يصل الإيجاز إلى درجة من التكثيف والتقطير، فتصبح الرسالة أشبه ما تكون بالبرقية، فقد كتب إلى عمه العباس بن عبد الملطب ما نصه "إن مقامك بمكة خير"([12]).

* * *

ومراعاة مقتضى الحال تعد الصفة الجامعة التي يستظل بها كل الملامح والسمات الفنية الأخرى، فوجودها مع تخلف هذه السمة الأساسية يعد وجودا عبثيا لانعدام التناسب والتوافقية بين الإبداع والأشخاص والبيئة المكانية والزمانية.

وكان الإمام الشهيد –رحمه الله- يأخذ نفسه بهذه السمة في خطبه، ومقالاته، ورسائله، وكذلك في أحاديثه العادية مع الآخرين، ونسوق فيما يأتي أمثلة تؤيد ذلك:

كان –رحمه الله- يلتزم أدب الحديث في رسائله، ويرعى مقام من يخاطبهم بهذه الرسائل، مستخدما الألقاب الخاصة بكل شخصية:

فهو يستهل رسالته إلى الملك فؤاد بقوله "إلى سدة صاحب الجلالة الملكية، حامي حمى الدين، ونصير الإسلام والمسلمين، مليك مصر المفدى..."([13]).

وفي أكتوبر 1939- بعد إعلان الحرب العالمية بأيام –يرفع رسالة إلى على ماهر باشا، ويصفه بقوله "حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء.."([14]).

ويخاطب مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة بقوله ".. وبعد، فدولتكم أكبر زعيم شرقي، عرف الجميع فيه سلامة الدين، وصدق اليقين..."([15]).

ويخاطب الأنبا يونس بطريرك الأقباط الأرثوذكس بمصر بـ"صاحب الغبطة.. ما نعهده في غبطتكم من أسمى عواطف الرحمة النبيلة، والبر بالإنسانية المعذبة.."([16]).

* * *

فإذا ما اختلفت الحال تغير إلى الضد وجه المقال، كما نرى في رسالته الغاضبة إلى صدقي باشا رئيس الوزراء، وهي الرسالة التى وجهها الإمام إليه في 8 من أكتوبر 1946، بعد أن غرر بالشعب، ومالأ المستعمر، ولم يف بما وعد([17]).. وفيها يقول بنبرة غاضبة:"... ولكن حكومة دولتكم أصرت إصرارا عجيبا على موقفها الضعيف المتخاذل، وأخذت تكبت شعور الهيئات والجماعات والأفراد، وتصادر الحريات.."

"... قد تضامنتم –بقصد أو بغير قصد- مع الغاصبين في الاعتداء على استقلال الوطن وحريته.."

"وعليكم أن تدعوا أعباء الحكم لمن هو أقدر منكم على سلوك النهج القويم.."([18])

وفي 2 من نوفمبر 1937- بمناسبة ذكرى وعد بلفور- يوجه الإمام الشهيد إلى السفير الإنجليزى –رسالة صاخّة غاضبة بسبب موقف الحكومة الإنجليزية تجاه القضية الفلسطينية، وهو موقف مناصر للصهاينة على طول الخط، ختمها بقوله "إن قضية فلسطين قضية كل مسلم.. وإن الحكومات الإسلامية، والشعوب الإسلامية إن عبرت عن إظهار هذا الشعور المتمكن من نفوسها كل التمكن بوسائل الإظهار البالغة لظروف خاصة، فإن هذا مما يزيد ألمها، ويضاعف همومها، ومن ثم لابد من الانفجار يوما للشعور المكبوت، فتخسر إنجلترا صداقة العالم الإسلامي إلى الأبد. نرجو أن تدرك الحكومة البريطانية هذه الحقيقة قبل فوات الوقت بالرغم من كل ما يخدعها به اليهود. وننتهز هذه الفرصة لتحيتكم."([19])

وقد أشرت من قبل إلى أن "مراعاة مقتضى الحال" سمة فنية وموضعية شاملة، يعيش في ظلها الملامح الفنية الأخرى، وقد رأينا في النصوص السابقة كيف أخذ الإمام الشهيد نفسه بها في الأداء التعبيري، وفي السطور الآتية نرى كيف أخذ نفسه بها في التصوير البياني وخصوصا التشبيه، فقد كان يوظف من التشبيهات أنسبها للواقع الاجتماعي والسياسي والمذهبي للبلد الذي يخطب فيه، وقد رأيت ذلك بنفسي عندما زار مدينة المنزلة (دقهلية) مسقط رأسي، والمعروف أنها تعتمد في معاشها على صيد الأسماك والطيور البحرية،والبحارة (بكسر الباء- أي نقل الركاب والبضائع بالسفن الشراعية في بحيرة المنزلة). كان ذلك في سنة 1946، وكانت سني آنذاك اثنتي عشرة سنة. وبعد العشاء خطب ألوفا من البشر على مدى ثلاث ساعات، والناس مقبلون عليه إقبالا عجبا. انطلق حسن البنا في حديثه، فشبه الأمة بسفينة: جسمها الشعب، وشراعها الإيمان، ودفتها الحكومة، ودخل الإمام نفوس الناس بهذا "التشبيه البيئي"، وأخذ يشرح مقولته مكثرا من الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ووقائع من السيرة النبوية، وحياة السلف الصالح.

كنت على صغر سني أفهم –بل أعيش- كل كلمة يقولها الرجل العظيم.ولكن الأهم من ذلك هو إحساسي القوي- وأنا مأخوذ بما يقول –بأنه يوجه نظراته وكلماته إليّ دون غيري، ثم اكتشفت –بعد ذلك- أن هذا الشعور نفسه عن كثيرين. فآمنت بأن الرجل قد بلغ مقاما من "البلاغة الإيمانية" لا يرقى إلى مثله إلا أقل الأقلين، على مدار التاريخ الإنساني كله.

***

كما كان الإمام الشهيد يحرص على هذه السمة فيما يوظفه من أخبار التراث العربي والإسلامي، فيتخير منه أنسب الوقائع والشخصيات لطوابع المجتمع الذي يخطب فيه. وقد قص عليّ أحد الأخوة من الرعيل الأول للإخوان واقعة حضرها بنفسه وخلاصتها:

من المعروف أن حي "بولاق" كان حي "الفتونة والفتوات": فالقوة الجسدية، وقدرة التغلب كانا معيار الأفضلية في هذا المجتمع. وكان لهذا الحي جهاد معروف في مقاومة جنود الحملة الفرنسية حتى إن "الجبرتي كان يذكره مع القاهرة، وكأنه عاصمة أخرى، فمن عباراته التى تكررت في تاريخه "وثار أهل القاهرة وبولاق".

كان الإمام الشهيد يعرف هذه الحقائق عن "بولاق" في تاريخها وطوابعها. وفي السرادق الضخم الذى أقيم، وضم الألوف من أهل بولاق: احتفالا بمناسبة إسلامية –تحدث الإمام الشهيد عن "القوة في الإسلام" وأنواعها، ومنها القوة المادية الجسدية، والقوة المعنوية في الإيمان، وتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنموذج للقوة بكل أنواعها،

وبلغ من قوته أنه استطاع أن يصرع أشد العرب وأقواهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم، صرعه مرتين، وأسلم بعدها([20]). وبهذا المثال استطاع الإمام الشهيد أن يتسلل إلى نفوس السامعين، وبلغ بهم الإعجاب والحماسة أن وقف أحدهم –وهو إبراهيم كروم فتوة بولاق –وأخذ يهتف "اللهم صلّ على أجدع نبي.. اللهم صلّ على أجدع نبي"

وعن هذا الملمح كتب "جاكسون" عن الإمام الشهيد" كان قديرا على أن يحدث كلا بلغته، وفي ميدانه، وعلى طريقته، في حدود هواه، وعلى الوتر الذي يحس به، وعلى الجرح الذي يثيره،ويعرف لغات الأزهريين والأطباء والمهندسين والصوفية، وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء، وفي مصر الوسطى والعليا، وتقاليدها، بل إنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل فيهم صفات معينة بارزة.

وهو يستمد موضوع حديثه –أثناء سياحاته في الأقاليم، وفي كل بلد –في مشكلاتها ووقائعها، وخلافتها، ويربطه –في لباقة- مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجيء كلامه عجبا يأخذ بالألباب. كأن يقول للفلاحين في الريف" عندنا زرعتان- إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن..."([21])

              

([1] ) معجم البلاغة العربية. د. بدوى طبانة 548 –دار المنارة- جدة طـ(3) 1988.
([2] ) السابق 182- وانظر 397ز وانظر: محمد التونجي: المعجم المفصل في الأدب 2/780- دار الكتب العلمية – ببيروت طـ(1)1993.
([3] ) المرزباتي الموشح514 (دار نهضة مصر1965)
([4] ) انظر لأبي هلال العسكرى: كتاب الصناعتين34- القاهرة 1952.
([5] ) السابق 190.
([6] ) السابق نفس الصفحة
([7] ) الجاحظ: البيان والتبيان 2/8طـ(2) دمشق963.
([8] ) امتاع الأسماع للمقريزى: 277-295- القاهرة 1941.
([9] ) السيرة النبوية لابن هشام 1/501-504 (مصطفى الحلبي- القاهرة- طـ2-1375ﻫ-1955).
([10] ) السيرة النبوية لابن هشام 2/600. وفتوح البلدان للبلازري97. (دار الكتب العلمية- بيروت1978).
([11] ) انظر: جابر قميحة: أدب الرسائل في صدر الإسلام1/130. (دار الفكر العربي- القاهرة- طـ(1)1986.
([12] ) محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة52. طـ(3) دار الإرشاد بيروت.
وكان العباس عينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الكفار في مكة، فاشتاق أن يتركها ويهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فبعث إليه بهذه الرسالة(البرقية).
([13] ) مذكرات الدعوة والداعية 302.
([14] ) السابق 350.
([15] ) السابق292.
([16] ) السابق 282.
([17] ) وكان الإمام قد وجه إلى صدقي رسالة بمطالب الشعب في 24/2/1946، ووعد صدقي بأنه سيرعى مصلحة الشعب، وينفذ ما طلبه الإخوان منه، ولكنه كذب وغدر، فكانت هذه الرسالة الثانية: انظر: محمود عبد الحليم:
الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ1/370-172- دار الدعوة الإسكندرية1979.
([18] ) انظر عبد الحليم: السابق 1/377.
([19] ) مذكرات الدعوة والداعية304.
([20] ) قال ابن إسحاق كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب نبن عبد المناف أشد قريش، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.قال ركانة: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول حق؟ قال نعم. قال فقم حتى اصارعك. فقام إليه ركانة يصارعه. فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم. أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئا. ثم قال: عد يا محمد، فعاد فصرعه. فقال: يا محمد والله إن هذا لعجب. أتصرعني؟؟! (وذلك لأنه لم يصرعه أحد من قبل). السيرة النبوية لابن هشام: القسم الاول391.
([21] ) روبير جاكسون: حسن البنا الرجل القرآني 20-21