قراءة في مجموعة (على موتها أغني)

فلسطين الجريحة .. حزن حتى الموت

قراءة في مجموعة (على موتها أغني)

ليسري الغول

يسري الغول

[email protected]

ماهر عمر

[email protected]

صدر مؤخراً عن مركز أوغاريت للنشر والترجمة في رام الله المجموعة القصصية الأولى للقاص الفلسطيني يسري الغول بعنوان (على موتها أغني)، وتقع هذه المجموعة في 92 صفحة متوسطة الحجم، تحوي بجعبتها 22 قصة قصيرة.

تمتد في هذه المجموعة موجة الديباج والديباجة وبراعة التصوير والاستهلال ليصبح النص همس لصاحبه ونجوى روحه بلغة قوية سليمة وصيغ جمالية رفيعة، محاولاً إبراز الجانب الإنساني والنفسي في أبهى صوره العميقة. ثم يتطرق بعد ذلك بقوة وينفجر بعد صمت رهيب بعاصفة من الكلام، ذلك الكلام الذي يسرده بحكايا الجوع والخوف والألم والمعاناة والتشرد التي يعانيها الفلسطيني في كل ربوع الكون. فتتدفق معانيه كأنها وحي يأخذ بتلابيبه أخذاً.

والملاحظ لقصص هذه المجموعة سيكتشف منذ الوهلة الأولى بأنها سوداوية، قاتمة، مأساوية بكل معنى الكلمة كما تلك اللوحة التي جاءت واجهة للمأساة العميقة التي تجول في دروب هذه النصوص، فالغلاف كان قاتماً إلى حد بعيد كما ذلك العنوان الغير تقليدي أبداً. كما تؤرخ هذه القصص الوجع الفلسطيني بكامل صوره وجوانبه. بداية بالحروب ثم القصف الغاشم على التجمعات السكنية والسيارات إلى الحصار الاقتصادي والسياسي المحدق بفلسطين من كل جانب، خاتماً هذا السواد المدقع بقضية معبر رفح الذي لن يجد له أحد مثيلاً في هذا الكون.

يسرد الغول نصوصه هنا بلغة قوية تعطي القارئ منذ السطر الأول كم فوق العادي من المفردات الشاعرية، القوية، المتدفقة، حتى تشعر بأنك تقرأ قصيدة منثورة جيداً والجميل في تلك النصوص أنها تأخذ بلبك وعقلك و جوارحك إلى البعيد، البعيد حيث ينفرد بك القاص ليهمس في أذنك بما جرى وسيجري. كما أنه يحاول الخروج عن المألوف والاستطراد بمشاكل العالم أجمع بأسلوب لم نعهده على كتابنا الجدد. فيتمرد على النص و يبدأ بسرد بعض القصص الفنتازية العميقة المعنى والحكاية لتشعر بأنك أمام عظمة محمد خضير القاص العراقي صاحب القصص الفنتازية الرائعة كمجموعة (في درجة 45 مئوي). كما يحتضن الغول المشاهد كلها بلغته الموسيقية التي احتضنت لوحة الغلاف أيضاً. فقصة (الزمن القادم مع الريح)، و (العجوز والرجال) و(ظلال الرجال) تطرح أفكاراً كأنها خارجة لتوها من ملاحم التاريخ الإسلامي أو من أفلام هوليود الحديثة التي تحاول التنبؤ بالمستقبل من خلال العودة إلى الماضي. ولا أنكر أنني احتجت أن أقرأ هذه القصص أكثر من أربع مرات كي أصل إلى بعض الخيوط أو المفاتيح التي قد تدلني على لوحة الحكاية و أرجو أن أكون قد استطعت تفكيك بعض تلك الرموز. والملاحظ أيضاً أن هذه القصص هما تعبير عن الحالة الإسلامية الراكدة، فالغول وكما اعرفه لديه أفكاره الإسلامية الواضحة، البعيدة عن التطرف والغلو فقصة (الزمن القادم مع الريح)  كأنها استحضار لأهوال يوم القيامة والساعة التي أعلن فيها البطل بأنه ينتظر الموت ولا شيء سوى الموت لأنه الآن ميت أيضاً، كأن الدنيا ما عادت هي التي يريدها. أما بالنسبة لقصته (العجوز والرجال) التي كانت في تلك المجموعة منقسمة كأنها قصتين و هذا ما أثار انتباهي، وتأكدت من أنها ليست سوى قصة واحدة بمقطعين كبيرين، الأولى صحيفة البارغان والثانية صخرة الجلمود التي كانت في الفهرست تقع تحت عنوان لاسم قصة جديدة، مع العلم أنها ليست سوى ما تبقى من الجزء الأول من تراجيديا الحكاية. و للعلم فإنني أقر بأن هذه المجموعة الرائعة تحوي بداخلها 22 قصة فقط وليست 23 قصة.

وبالعودة مرة أخرى فإن قصص الغول هنا عدلت نفسها عن الخطوط المستقيمة والأحداث المتتالية بلا فجوات وكل ذلك يظهر واضحاً في جميع النصوص الموجودة، وترك لنا القاص هنا المعالم البسيطة ليقيم عوالمه الأخرى تعتمد على توازي الخطوط والمصائر، ويقطع لنا الأحداث ويعدد المستويات حتى تتمكن هذه النصوص من شق بطن الواقع المزري والنفاذ إلى أحشائه بدلاً من الانزلاق على سطحه. لذلك فإن جميع هذه النصوص متكدرة تحاكي الباطن أكثر مما تحاكي العوامل السطحية للشخصيات أو الأحداث كما في قصة العبور، وزوجة عابرة..الخ.

النسق القصصي والدرامي يعتمد هنا في الدرجة الأولى على عنصر التتابع السببي المتكئ بدوره على خلفية زمنية تضبط حركته كما في قصة (سهواً، كل ما جرى) وهما نتيجة لذلك ينتميان بالضرورة إلى المحور السياقي. و لو تأملنا جيداً إلى قصة (سهواً كل ما جرى) فإننا سنجد السياق الممتد في هذه القصة، وقضايا التداعي الميلودرامي و المنولوج الذي نحج بإفراز هذا التداعي بعيداً عن الحوار الذي تم تجاهله بعد نجاح القاص باستخدام تتابع الأحداث بدلاً عنه.

وهنا أود الإشارة إلى أن جميع نصوص الغول كانت بعيدة جداً عن الحوار (dialogue ) مستكفياً بالحالة الفردية التي شملت المونولوج ( monologue ) لذلك فإن قصص الغول متفردة بالهمس و النواح و البكاء الداخلي المشوب بحزن عميق، لينجح الكاتب وبصورة متفردة في استخدام المونولوج، ومع ذلك فإنه أيضاً لم يهمل الحوار لكنه كان ضئيلاً في هذه القصص كما في قصة العبور وظلال الرجال وطائرة لحرمان قديم والمسافر.

كما يضع الغول في ذلك قارئه دائماً على حافة نوع خاص من التوتر يمكن أن نطلق عليه توتر التذكر، فلا يستطيع أن يمضي في تلقيه النص دون أن يستحضر تداعيات نظيره في المستوى المستشار ودون أن يقارن بشكل دائم بين ما يؤديه كل من الطرفين، ولو نظرنا إلى قصصه فإنها دائماً تستحضر الماضي بحلوه و مره كأن يقول في قصة (عرس آخر النهار) " أحذيتهم التي ظهرت علاماتها في جسد والده قبل أن يموت ، يغوص بعينيه بعيداً ، يستجلي صوراً في زاوية من مخيلته الضيقة تراود خاطره . تفتح أمامه كوة ضيقة ، يرى فيها عجوزاً تجذبه إلى جوارها ، ترضعه المأساة كاملة ، يلثم ثديها حتى يجف الحليب في حلقه . يبكي و الأم تهدهده بينما تبدأ أسراب العائدين بالتحليق كنسر جائع حول جثة أبيه " وأيضاً كما في قصة (فتاتان برائحة الغربة) حيث يقول " لا أدعها تكمل حديثها الأجوف ، أسير دون أن ألقي لهما بالاً . هما ذكرى مرت من هنا ، بجوار قلبي الذي ذاب بعد ذلك الحديث إلى حبيبة ماتت بعد العودة إليها بقليل . وكذلك قصة (على موتها أغني) فيقول "  حلمت بها ليلتها كما رأيتها لكنها كانت بغير ذلك الخاتم ، صعقت و لم أسألها عن مكانه." ..الخ.

الجانب الآخر الذي أرغب الحديث فيه هو أن القاص وللوهلة الأولى سيبدو بأنه أحد شعراء القصة القصيرة، سيكتشف القارئ بأنه يقرأ قصائد منثورة، ومحبوكة جيداً. فيسري الغول متأثرٌ بالشعراء والقصاصين الفلسطينيين إلى حد بعيد أمثال الشاعر الكبير محمود درويش وهذا واضح في مجموعة من النصوص و الإهداء الذي لم يكن كلاسيكياً على الإطلاق، فقد افتتح المجموعة بالإهداء إلى أمه حيث قال ( إلى حضن أمي ) فقط. وأعتقد أن هذا مقطع من أحدى قصائد شاعرنا درويش (إلى أمي)، كما أن مقدمة المجموعة كانت بمقطع آخر من قصائد درويش فيقول ( إنا حملنا الحزن أعواماً/ وما طلع الصباح/ و الحزن نار تخمد الأيام شهوتها/ و توقظها الرياح/ والريح عندك كيف تلجمها/ ومالك من سلاح/ إلا لقاء الريح و النيران/ في وطن مباح) وكل هذا يبين لنا كقرّاء بأن الغول أحب درويش، أحبه كما لم يحب أحداً غيره، لكنه وفي إحدى قصصه يثور عليه عندما تشدو إحدى بطلاته في قصة (سهواً، كل ما جرى) وتقول نحن لسنا هنا ولا هنا هنا، مع العلم أن هذا هو مقطع آخر من مقاطع درويش التي يحن فيها إلى الوطن حين يشدو ( ... أنا هنا/ وهنا أنا/ و أنا من هنا/ و من هنا أنا/ و هنا هنا/ وأنا أنا ...) فتثور البطلة في تلك القصة لتقول نحن لسنا هنا ولا هنا هنا لأنها في بلاد الغربة المقيتة.

لست أدري لماذا جال بخاطري بأن الغول متشائم، متشائم إلى حد بعيد، و حزين حتى الموت. فكل ما تحمله هذه النصوص كانت مؤلمة، تعلن الموت، تصرخ لكن لا مجيب يقف أمام هذه الصور ويقول بكل قوة نحن هنا، نحن هنا. وهنا يستنجد الغول، يحاول استجداء العالم، القارئ، الحكاية حين يهتف في قصته (لبنان الجرح) على لسان شخصية ديناميكية تمثلت في صورة رجل عجوز حين يتساءل سبب شراء الأسلحة العربية، ثم يصرخ هذا البطل كالذين صرخوا داخل الخزان ويهتف بعلو صوته (أين هي الجيوش العربية ؟؟!) بأن هذه الحكومات وهذه الجيوش المجيشة لم تشتري السلاح سوى للاستعراض فقط وليس لمواجهة الاحتلال بأيٍ من أشكاله.

أمر آخر يلاحظه معي قراء هذه المجموعة بأن الغول كان يعيش وقع المأساة و لقد كان أحد أسباب نجاح هذه المجموعة هي قربها من نفس الكاتب، فقد كان يتحدث دائماً بضمير المخاطب وليس بضمير الغائب حتى ولج قلوبنا بسهولة وطرق جدران عقولنا. ليهتف بكل صراحة وقوة: لماذا كل هذا الصمت؟ أين أنتم من فلسطين؟ من لبنان؟ من العراق؟

أختم بأن القاص الجميل يسري الغول كان له المقدرة في تنويع الشخوص داخل هذه المجموعة، بل كان يتجلى في كل نص من هذه النصوص ليكسر حد الرتابة والملل ويكشف جانباً آخر من الصورة، كما أنه استطاع أن يحاكي جميع المدارس الأدبية لتشمل هذه المجموعة الواقعية السحرية والواقعية والفنتازية.. الخ من هذه المدارس المختلفة.