باسم سليمان واللا مباشرة الشعرية

(مقاربة بنيوية-أسلوبية)

سعيد بودبوز

[email protected]

توطئة منهجية :

من الملاحظ أن هناك كما هائلا من المقالات و الأبحاث تتصدى لتعريف المنهج البنيوي، سواء التقليدي أو التكويني، ولكن للأسف تفتقر للأمثلة العملية-إلا قليل جدا- حول هذا المنهج أو غيره بحيث يصعب على القارئ أن يفهم عمليا ما هي القراءة البنيوية بشكل واضح لا لبس فيه. أكيد أنا لا أخاطب الناقد المتمكن من خلال هذه التوطئة، ولكني أفترض، على الأقل، بأن هناك قارئا قد شبع من دراسات التعريفات النظرية للمنهج البنيوي دون أن يكون بمقدوره لا التفريق بين القراءة القائمة عليه وغيرها، ولا تطبيقه بدوره في قراءة نص أدبي. لهذا سأحاول توضيحه بشكل عملي وباختصار بعيدا عن الإطنابات التي مللت منها شخصيا. سنأخذ مثلا من شعر باسم سليمان حيث يقول في مستهل قصيدته المعنونة " خبر السندباد" (1)

أُنزل قلوع الظلّ

راكباً نملة النهار

والأفق حبّة قمح

لنركز على قوله" الأفق حبة قمح" فالأفق مشبه وحبة القمح مشبه به. الملحوظ أن التحليل البلاغي البسيط لا يحتمل هذه الظاهرة لأنه لا مجال لتشبيه الأفق بحبة القمح لانتفاء أدنى خاصية مشتركة بين العنصرين بالمطلق وهذا ما نسميه الانزياح، وإذا كان هذا غير مستساغ بالنسبة للتحليل البلاغي التقليدي البسيط فلأن هذا الأخير يعتمد على الإسقاط المباشر للنص(الدال) على المرجع (المدلول) الخارجي. ولهذا فإن مثل هذا التصوير يقتضي تحليلا بلاغيا مركبا مندمجا محتكما إلى التناسق الداخلي، في شأن البث النقدي في عناصر النص، وليس إلى التناسق الخارجي بالضرورة. على سبيل المثال، إذا انتفت الخصائص المبررة لإقامة التشبيه من هذا النوع، على المستوى المرجعي، فإن الاحتكام إلى المرجعة الداخلية، المستمدة من كلية الاندماج اللحظي لدى الشاعر في مشعوراته، يجعلنا ندرك مبررات هذا التشبيه البنيوية، في حالة ما إذا كان صاحب القصيدة شاعرا حقيقيا. سأعود إلى الموضوع وأقول إن هذا المقطع ليس بسيطا إطلاقا، بل في غاية الانزياح...المهم إذا استطعنا أن نجد سبب إيراد هذا التشبيه داخل النص فتلك هي القراءة البنيوية. بوضوح أكثر: إن "حبة القمح" هي التي استوقفتنا في هذا المقطع، لماذا؟ لأنها النقطة الأولى التي انتهت إليها غرابة المقطع الأول من القصيدة. ومن الطبيعي أن العنصر الأغرب هو الأدعى إلى استنفار التحليل النقدي، فقبل أن نقول بأن الغريب والمألوف يشكلان الموجب والسالب الذي يحرك النص الأدبي في أعماقه، نقول ميدانيا: إذا استطعنا التوصل إلى سبب تشبيه الأفق بـ"حبة القمح" فهذه هي القراءة البنيوية  ولا داع للتعقيدات والغرق في أدغال النظرية التي لا مخرج منها. القراءة البنيوية تطارد كل عناصر النص و أسباب إيرادها على أن تكون هذه الأسباب متضمنة داخل النص. أقصد تلك الأسباب التي تجعل اللبنة=العنصر الأدبي (الشعري)  فوق اللبنة=العنصر الآخر. وهكذا نستطيع أن نقول بأن السبب القائم وراء إيراد حبة القمح –في قصيدة الشاعر باسم سليمان- هو قول هذا الأخير قبل ذلك " أنزل قلوع الظل راكبا نملة النهار".

ملاحظة: أستعمل هنا كلمة "لبنة" حتى يتكون وعي حقيقي لدى القارئ حول علاقة اسم "البنيوية" بطبيعة اشتغالها النقدي، فعندما أقول "لبنة" يستطيع أن يربط بين بنية النص وبنية الجدار مثلا، وبهذا نكون على وشك التفاهم إن لم نقل سيحصل التفاهم الكلي.   لنركز على قول الشاعر "نملة". ماذا سنجد؟ الجواب أن هذه الـ"نملة" تشكل اللبنة التي تقع مباشرة أسفل لبنة"حبة قمح" ! وبهذا نقول: لولا لبنة="نملة" لكانت لبنة="قمح" في الهواء ! وبهذا يصبح البناء عشوائيا واعتباطيا ويصبح ما يقوله الشاعر - على سبيل المثال- مجرد هراء، على الأقل، بالنسبة للمنهج البنيوي !. إذن فإن لبنة="قمح" ليست معلقة في الهواء، بل تقع في جدار متين وبالضبط على لبنة="نملة"مع العلم أن الجميع يعرف مدى تعلق النمل بالقمح. من هنا ندخل إلى التصوير الانزياحي المركب، ونجد أنه تصوير متناسق ومتين في بنائه الداخلي تماما كما أنه متين جدا فيما يعكسه من عناصر المحيط الخارجي من خلال تصاويره الإيقونية والسيميولوجية وغير ذلك. إذا كانت القراءة الممثل لها أعلاه قراءة بنيوية فإن كل قراءة غير قادرة على إيجاد أسباب إيراد العناصر داخل النص ليست قراءة بنيوية. أفترض سؤالا مؤداه التالي:

إذا كان سبب إيراد"حبة القمح" متمثلا في إيراد "نملة" فأين سبب إيراد هذه الأخيرة؟

الجواب: إذا شبهنا النص الأدبي بالمنزل فسيتضح لنا بأن اللبنة العليا يجب أن تقع تحتها لبنة سفلى، ولكن عندما نتعمق في الأرض نجد لبنة موضوعة على التراب مباشرة. وتكون هذه اللبنة هي لبنة البداية التي تقابل العنصر الأول في النص، سواء كان عنصرا سرديا أو شعريا. ولهذا يسمى المنهج البنيوي، فهو يقوم على رصد مدى انسجام لبنات النص مع بعضها داخل النص وليس خارجا، هذا فيما يخص البنيوية التقليدية أما التكوينية فهي تمد جسرا تأويليا من العناصر الداخلية للنص إلى عناصر المحيط التي تشكل المرجع. على كل حال أعتقد أن الشعر الحديث يحتاج إلى المقاربات البنيوية حتى نميز على الأقل بين الشاعر والهاذي.

****

تحليل النصوص:

عندما نلتقط صورة بانورامية Panoramic لشعر باسم سليمان نجد أن ثنائية الموجب والسالب المحركة للنص في عمقه تتحدد في نوع من التقابل القائم بين المباشرة واللامباشرة في عملية الإبداع الشعري. أي إذا كانت القصيدة مثقلة بالحلول والانتحال والمسخ والانتساخ  على مستوى البنية الإجمالية العامة فإن نفس المظاهر يمكن تلمسها على المستوى التفصيلي، وبذلك نتوصل إلى نوع من الارتباط العضوي الذي يعكس الهوية الأسلوبية للشاعر باسم والتي تدل عليه بقدر ما يدل عليها. هذا التقابل أحيانا يظهر بين الحقيقة والمجاز، الإجمال والتفصيل، الكل والجزء، الرئيسي والثانوي الخ. سنبدأ بأخذ أمثلة عملية من قصيدته "خبر السندباد" حيث نجد أن العرض الشعري فيها يقوم على استعارة هيكلية لقصة شهرزاد. وبهذا نقول أنه استعار الإطار العام للقصيدة بنوع من الاستيحاء المحايث للإيحاء. وعندما نقابل هذه العملية بما ورد في العرض نجد أن هذه الاستعارة العامة الإجمالية  تمتد إلى التفاصيل أيضا كقوله:

"وإذ

تقصّ شهرزاد:

خارجاً من فرجة الحرف"

ّإن شهر زاد هي التي تقص علينا حكاية المتكلم، على أنه في نفس الوقت يضع نفسه خارج قصها كما سيأتي لاحقا،  وهذا وجه من وجوه الذي وصفته باللامباشرة في إنتاج القصيدة. على أنها اللامباشرة الإجمالية العامة الممتدة نحو اللامباشرة التفصيلية التي منها تتشكل الصورة المنزاحة لدى الشاعر باسم سليمان في مقابل المباشرة التي تتمثل في انعطافه بالمستعار إلى التعبير عن مختلجات ذاته، وبهذا يكون الشعر شعره. نأخذ مثلا على اللامباشرة التفصيلية المقابلة بقوله:

" أُنزل قلوع الظلّ

راكباً نملة النهار

والأفق حبّة قمح"

أي أن واحدا من الاثنين؛ الراكب والمركوب عليه لا بد أنه منتحل لما هو غيره من أجل أن يلائم الأخر، أضف إلى ذلك أنه مادامت خاصية التشبيه المألوف-بين حبة القمح والأفق- منعدمة بالكامل فإن ذلك يمكن اعتباره امتدادا أسلوبيا بنيويا، قبل كل شيء، لتلك اللامباشرة المذكورة أعلاه والتي تقابل المباشرة في عودته إلى نفسه عن طريق الخصائص الآدمية التي يضفيها على العناصر الشعرية. لما تعلق الأمر بفرجة الحرف=حيز صغير كان على المتكلم أن يركب نملة=دابة صغيرة لكي يستطيع الخروج عبر هذه الفرجة ! لكن الشاعر قد فخخ الصورة بشكل عميق وجميل معا فإذا عدنا إلى حكاية ألف ليلة وليلة نجد أن شهرزاد تستمر في الحكي لشهريار ولا شيء يثنيها إلا طلوع النهار. ولهذا ركب المتكلم نملة النهار=ضوء النهار لتتوقف شهرزاد عن القص(ليستلم زمام التعبير عن الذات بعد ذلك) وبهذا يعطينا لمحة عن مظهره الأخر الذي يقع خارج ما تقصه شهرزاد كما قلت أعلاه. المتكلم يمتطي نملة النهار علما  بأن الشمس تظهر على الأفق. إن نفس التفاعل القائم بين الشمس والأفق هو القائم بين النملة وحبة القمح مع العلم أن النمل يأكل القمح ومتعلق به كما ذكرت سالفا. إذن فمن السذاجة أن نحاكم هذا التصوير في جزئيته المتمثلة في تشبيه الأفق بحبة القمح وفق الأصل البلاغي (التشبيه) احتكاما إلى  النسق المرجعي خارج النص.

"وإذ

تقصّ شهرزاد

يتعكّز مسرور على سيفه"

مسرور هو اسم لسياف الخليفة العباسي "هارون الرشيد" ولقد أخذ الشاعر شدته في قطع الرقاب ليعود به إلى قصر شهريار قصد إنجاز التصوير الشعري الذي بدأه.  هنا نجد أن تعكز مسرور ليس من ضمن القص الذي تقصه شهرزاد، بل هو يتعكز على إيقاع قصها لأن مسرورا هذا قد أوتي به إلى قصر شهريار ليكون سيافه هذه المرة. وأما البطل الذي تقص عنه شهرزاد فهو المتكلم نفسه أو الشطر المندمج منه في موضوع قصها، على أن هناك شطرا أخر يقع خارج القص، كما قلت، وهو الذي يتوجس خيفة من بأس مسرور الذي يقع هو الأخر خارج موضوع القص الشهرزادي.

في قصيدته " وأنا من أُضِلّ عن علم"(2) نجد أن تلك اللامباشرة لا تتجلى فقط في إعطاء الشاعر الكلمة الأولى لحبيبته بل تتجلى أيضا في استعارته إطار القصيدة العام من قصة خلق آدم وبالضبط محاكاة الحوار الدائر بين الله وإبليس حول رفض هذا الأخير السجود لآدم. على أن ركن المباشرة يكمن في لي عنق المتن الأصلي طبعا لهذه القصة لصالح التعبير عن ذاته. سيأتي التفصيل في هذا الشأن والمهم في هذه النقطة هو التوضيح بأن هذه القصيدة أيضا تقوم على ما سميته الازدواجية بين المباشرة واللامباشرة في الإنتاج الشعري لدى باسم سليمان. نأتي الآن لامتداد هذه الازدواجية عبر التفاصيل أخذين مثالا بقوله:

" خلقتُ من لقاء

وخلقوا من انتظار"

أي أن الرجل لم يعد مخلوقا من الطين بل من اللقاء، كما أن منافسيه العشاق أيضا خلقوا من الانتظار. وبهذا نقول بأن هناك علاقة جدلية بين الانتحال الهيكلي والتفصيلي. وبما أن ركن المباشرة يتمثل في كل عودة إلى الذات من نوبة الانزياح فسأواصل الكشف عن ركن اللامباشرة فقط حتى لا يمل القارئ مما يشبه التكرار لبعض الكلمات. نعود الآن إلى المقطع حيث يقول:

"أشهدتني

قلتُ بلى

لكنّي

أنكرتُ كلّ عشّاقكِ"

في هذه القصيدة يتحدث الشاعر عن بعض مشاكل الحب المحفوف  بازدحامات وتكالب المنافسين. إنهم الآن عشاق مثله ولكن لماذا جاؤوا عشاقا/بشرا؟ الجواب أنهم جاؤوا كذلك  من أجل النفي. فرغم أن الشاعر جزار إلا أنه أبقى على تصويرهم عشاقا"آدميين" لا لشيء إلا من أجل أن ينفيهم بقوله: "أنكرت كل عشاقك" إنه، بعبارة أخرى، لا ينفي اعترافه بهم كعشاق فحسب وإنما كآدميين في عالم القصيدة ! سوف يتضح ذلك عندما يحولهم، كما سيأتي لاحقا، إلى جياع الريح. لقد دخل الشاعر في نوع من الحس اللاهوتي مستوحيا بالضبط ما جاء في القرآن الكريم  (3) من الحديث الدائر بين الله والملائكة حيث يقول:

"خلقتُ من لقاء

وخلقوا من انتظار

أيتساوى

لديك الخمر بالماء؟"

تتحول البلاغة واللغة إلى عجين يصنع منه الشاعر ما يشاء وبأمكر الطرق التي كلها تؤدي إلى روما الجمال. إذا كانت الشيئية تنطبق على مقولتي"لقاء وانتظار" فإن الشاعر باسم لم يكتف بالتشييئ هنا بل تطلع إلى المحسسة، أي جعل هاتين المقولتين محسوستين. وبعد أن أفرغ من ذلك حول الانتظار واللقاء إلى خمر وماء بأمكر ما أوتيته البلاغة من التصاوير الجمالية. وأكثر نقاط الروعة تكمن في العمق، أي  قبل أن يقول الشاعر "يتساوى" كان اللقاء والانتظار مقولتين ثانويتين والموضوع الرئيسي هو الذات المتكلمة والعشاق. وبعد إيراد سؤال" أيتساوى" نرى أن اللقاء والانتظار أصبحا مقولتين رئيسيتين. والملحوظ أن طبيعة الانتقال من الرئيسي إلى الثانوي هنا تقوم على مبدأ الصيرورة، أي أن بعض اللقاء صار إنسانا وبعض الانتظار صار إنسانا كذلك..والعجيب أن هذا الفعل "الصيرورة" قد انطبق أيضا على الانتظار واللقاء أي "صارا"= خمرا وماء !

"قلتِ: اهبطوا إلى سريري

بعضكم ضلالة من بعض"

هذا المقطع استوحاه أيضا من القرآن حيث جاء الحديث فيه كالتالي: « وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو  ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين » (4) أو  « قلنا اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو» (5) إنه ليس تربيبا أو تأليها بل ترببا وتألها، أي أن المتكلم ليس هو الذي أله وربب المرأة بل ينقل إلينا أخبارها التألهية فقط وكأنه يرفض التورط في هذا الأمر مع أن الجمال الشعري تطلبه في نفسه ذات لحظة شعرية. يكاد الشاعر باسم يبدو من كبار شعراء النثر ويبدو لي شاعرا لا يشق له غبار إذ يقبض على البلاغة بقبضة من الحديد والنار حيث يقول:

"كنتِ تقطعين خسّ الضوء

بسكاكين المطر

وفي حلقي صحراء من توبة

أطبخ رمل الوقت

أطعم جياع الريح

فيمرّ بي الصدى

يصرخ كمن تلبّسه ألف عطش

ماء.. ماء… ماء"

لقد وظف التصوير الإيقوني بشكل موفق فعلا. ففي السطرين الأولين شبه المرأة بالسماء (استعارة مكنية) على أنه تشبيه مركب قوامه تضمين تشبيه معاكس، أي أنه شبه المرأة= السماء بالمرأة= الإنسان بعد أن قام بالعكس مباشرة. ونجد هنا تداخلا وتخارجا رائعين بين التكوين Cosmorphism  والتأنيس Anthropomorphism. إن التشبيه الأول (تشييء الإنسان) يتضمن تشخيصا لهذه السماء المشبه بها (تأنيس الشيء) لنلاحظ كيف تغلغل التعاقب الأسلوبي في أعماق النص فنجد أن العملية الأولى (تشييء المرأة) ما هي إلا امتدادا للامباشرة الأسلوبية التي تداخلت مع البنية الدلالية وأن العملية الثانية (تأنيس الشيء= السماء=المرأة=الإنسان) كذلك ماهي إلا عودة إلى ركن المباشرة الذي يقابل اللامباشرة طبعا. إن إيراد المطر يجعلنا نقدر بأن المشبه به المحذوف هو السماء تماما كما أن السكاكين تعطينا فكرة كافية حول التشبيه (التأنيس) العكسي المضمر.  بعد ذلك ندخل في صورة أخرى حيث نجد المتكلم يطبخ رمل الوقت بنار الظمأ ليطعم جياع الريح. النقطة الثانية تتعلق بما جاء في السطر الثالث من المقطع الأخير، فلقد جاءت الـ"صحراء" بعد مجيء الـ"مطر" من أجل التعبير عن مدى الظمأ المحسوس به. ومن المعلوم أن الصحراء من الصعب أن يرويها المطر.  لكنها صحراء من توبة وهذه التوبة جاءت امتدادا للتأله الذي تحلت به المرأة. إذن فالتوبة تمت عن خطيئة نفيه شهادة العاشقين إلى جانب المرأة. يبقى هناك سؤال كالتالي: من هم جياع الريح؟ إنهم العشاق الذين تم ارتكاب الخطيئة بإنكاره إياهم وعدم الاعتراف بهم. إن العشاق(الآدميين) في المقطع السابق قد أصبحوا الآن جياع الريح كما قلت أعلاه، وهذا يعني أن إثبات آدميتهم، في إنكاره إياهم كعاشقين، كان تأسيسا منه لنفي آدميتهم فيما بعد وهذا ما نراه الآن أمامنا. من الملحوظ أن هناك تعاقبا يتجلى في ارتكاب خطيئة الإنكار والعودة إلى الاعتراف بهؤلاء العشاق. لنعد الآن إلى لحظة ارتكاب الخطيئة حيث يقول:

" لكنّي

أنكرتُ كلّ عشّاقكِ"

إن كلمة الـ"عشاق" هنا تستمد رئيسيتها من ورودها في ذوات آدمية. أعني حتى وإن كانت مفعولا بها أو منفية فلقد جاءت على الأقل في ذات آدمية ومن هنا كان من المتوقع أن ينعطف الشاعر إلى المقابل بعد أن عرفنا الأسس العميقة اللاشعورية لإنتاجه الشعري والذي يقوم على مثل هذه التعاقبات. إذا كانت كلمة الـ"عشاق" هنا تستمد رئيسيتها من ورودها كما هي في المقطع الأول، أي أدمية، فإن العكس يجب أن يقوم على تحويل هؤلاء الـ"عشاق" إلى ما هو غير آدمي، وهذا بالضبط ما حصل إذ يقول الشاعر بعد ذلك:

" وفي حلقي صحراء من توبة

أطبخ رمل الوقت

أطعم جياع الريح"

إن فهمنا لطبيعة التفاعل الباطني الأعمق بين التعاقبات الحاكمة لصيرورة العناصر الشعرية لدى باسم سليمان لا يجعلنا نستغور  ما يقصد بجياع الريح، على سبيل المثال، فحسب وإنما يجعلنا ندرك بأنه يسد قوسا تعاقبيا أسلوبيا كان قد فتحه بإنكاره العاشقين، وفي هذا الإطار نفهم بأن المقصود بالجياع هم هؤلاء العاشقون. للمزيد من الإيضاح أقول إن إنكراه الـ"عاشقين" في المقطع السابق هو الذي تمثل في الجوع الذي يتحدث عنه في المقطع الأخير. لنتأمل هذه المعادلة:

أنكر فلانا=أجوعه

أعترف به=أطعمه

كيف نعرف بأن الإنكار يرمز للتجويع وأن الاعتراف يرمز للإطعام؟ الجواب هو أن العشق=جوع إلى الطرف الجنسي الأخر. وعدم الاعتراف بهذا العشق (الجوع) يعني اعتراض سبيل العاشق المؤدي إلى هذا الطرف. وهذه هي الخطيئة التي ارتكبها المتكلم. نأتي إلى التوبة. مهما عمق الشاعر رؤيته يبقى أن التوبة لا معنى لها ما لم تكن منطلقة من تصحيح الخطيئة، ولكنا نرى أن هذا التصحيح غير وارد بشكل مباشر. فلنعد إلى المقطع الأخير ولنتأمل ما قاله في تصحيح هذه الخطيئة:

" أطبخ رمل الوقت

أطعم جياع الريح"

لقد أدرك بفطرته الشعرية بأن الإطعام يقابل الإنكار في إطار مقابلة الاعتراف بالتجويع ! النقطة الثانية في هذه الجزئية، والتي تؤكد مدى شاعرية باسم سليمان، هي أن اعتراف المتكلم أخيرا بهؤلاء العاشقين قد جعله صحراء، أي ظامئا. ومن هنا نفهم بأن هذا الاعتراف قد أقصاه من دائرة ذلك الحب، وبهذا يكون قد كفر عن خطيئته، ولكن دون أن يتنازل عن المعادلة البيانية الرائعة التي أثبت عشقه بموجبها في مقابل نفي غيره من العاشقين. وعندما اضطر للاعتراف بهؤلاء العاشقين عاد هو إلى ما كانوا يعانونه من الجوع/الظمأ في صحراء إنكاره إياهم. فها هو لم يعد يملك ما يعطيه لهؤلاء الجوعى (العاشقين) سوى الرمل (الاعتراف الاضطراري). وهذا الأخير جاء نتيجة نفاد عطائه المتمثل في احتكاره المتمنى للحبيبة. وما دام قد اعترف بغيره، من العاشقين أخيرا، فهذا يعني إقصاءه لنفسه. وبهذا يكون كالأرض التي كانت خصبة (محبوبا) ثم تحول(ت) إلى صحراء(منبوذ) لا تملك سوى الرمل (الاعتراف) لتطعم به الجياع (العاشقين). إذن فإن مقطع الخطيئة والتوبة يحملان، إلى جانب التصوير البلاغي/الإيقوني الأخاذ، عناصر التعاقب الأسلوبي الذي أشرت وسأشير إلى تحديده في شعر باسم سليمان. وهو التعاقب القائم هنا بين ورود "العاشقين" بذوات آدمية" في المقطع الأول، أي مقطع الخطيئة، وتحولهم إلى جياع الريح في المقطع الثاني أي مقطع الاعتراف. وشكل التعاقب هنا قائم بين الحقيقية و المجاز. لقد انطلق من الحقيقة ثم مجزن العاشقين. و هذه المجزنة نفسها تعبر عن تحفظه الباطني في تسجيل هذا الاعتراف. لننظر تعزيزه ذلك بقوله:

"في حلقي صحراء من توبة"

أي أن هذه الصحراء مترامية الأطراف في حلقه(مخرج الصوت) وبما أن كلا من الخطيئة والاعتراف مسألتان قوليتان وليستا فعليتين فلذلك تحول الحلق(مخرج الصوت) إلى مسرح للصحراء وتابعاتها وإطعام الجياع الخ. ينتقل الشاعر إلى تصوير من نوع آخر على أنه مستوحى من قصة قرآنية وبالتحديد قصة نوح (6)  إذ يقول:

"أبني فلك الرمل

أُدخِل من كلّ سؤال وجواب، اثنين

وأنتظر زمن الورق"

أكيد إذا لم نحسن استنطاق السياق العام فسنختار أسهل التأويلات ونقول بأن القصيدة مفككة ولا شيء يربط شرقها بغربها، ولكن بمسؤولية وجدية نخلص إلى طرح السؤال التالي: لماذا يبني الفلك (السفينة)؟ الجواب : لأن المطر الذي قال فيه قبل هذا المقطع" كنتِ تقطعين خسّ الضوء بسكاكين المطر" قد بدأ يشتد. وبما أن الأمر كذلك فهو يحاكي النبي نوح ( الذي أخذ في السفينة من كل زوج اثنين) إلا أن الشاعر لا تعنيه أجناس الحيوانات بل أجناس المقولات؛ السؤال والجواب. إذا قلنا بأن الشاعر قد استوحى هذا التصوير من قصة نوح فلننظر من أين وكيف استوحى عناصره الشعرية(الخاصة/الفردية) التي تجعلها استيحاء وليست اقتباسا. مثلا، لماذا يبني فلك الرمل؟ أو بالأحرى من أين جاء الرمل؟ لماذا لم يقل "الخشب"؟ الجواب أن الشاعر قد استوحى "الرمل" من قوله في المقطع السابق" أطبخ رمل الوقت" وهو استيحاء داخلي جاء نتيجة انطواء النص على داله ومدلوله المستقلين عن المرجع الخارجي نسبيا. كيف؟ عندما تحول الـ(عاشقون) إلى (جياع الريح) كان على الطعام أن يناسب هذه الريح ! ولهذا يجب أن نركز على كلمة"طبخ" فهي تدل على النار، وبالتالي الوقود.  فعندما نشعل النار في الحطب، على سبيل المثال، نراها تتأجج بالريح. وإذا كانت كذلك فهذا يعني أن الريح تأكل الحطب(الخشب) من خلال النار. إذن يصح القول بأن تركيز ذات الشاعر على طبيعة الطعام، المناسب لجياع الريح، قد أوصله إلى الإحساس بأنه يطبخ الحطب(الخشب) الذي تأكله الريح. ومن هنا نقول بأن الـ(رمل) يساوي الـ(خشب) وفق البنية الدلالية الداخلية للنص.على أن الخشب كان مضمرا في عملية الـ(طبخ) من خلال صرف نظر القارئ إلى الـ(رمل) باعتباره وجبة مستقلة عن الحطب ! ولقد اتضح ذلك بعد أن وجدنا المتكلم يبني الفلك (السفينة) من هذا الرمل(الخشب) لندرك بأنه قد انتقل من الخشب(البنية البسيطة) إلى- استيحاء- الرمل(البنية المركبة) سيرا على التحويل الأول، أي أنه قد أخذ الخشب في طية الرمل. وبعد أن بنى السفينة قال:

"وأنتظر زمن الورق"

الورق يرمز إلى  البر، فعندما بنى السفينة-وقد استعرض شريط قصة نوح في أذهاننا- كان لا بد أن يتوجه(يبحر) نحو البر، هنا يبقى سؤال لا بد من إيجاد الإجابة عليه، وهو التالي: لماذا لم يقل " أبحر نحو الورق أو شيء من هذا القبيل مادامت السفينه تبحر وليست في انتظار كما قال؟ الحقيقة أن تعبيره أدق وتصويره أجمل وأقوى بيانا لأن الأمر يتعلق بالطوفان وليس ببحر عادي. والطوفان لا يمكن عبوره- خصوصا كما جاء في قصة نوح- لأن الأرض ببساطة أصبحت كلها بحرا واحدا ولهذا كان عليه أن يقول"أنتظر زمن الورق=البر" وليس "أبحر نحو الورق=البر" . وبما أن الأمر لا يتعلق بالحيوانات بل بمقولات-سؤال وجواب- فقد أتقن التصوير أيضا لأن بر الكلمات هو الورق وليس اليابسة ! نأتي إلى المقطع الأخر، من هذه القصيدة، حيث يقول الشاعر:

"أكسر النهارات

وأجيب كبير الليل"

عندما يقول "أكسر" النهارات يكون قد لمح إلى تجميدها، أي جعلها شيئا جامدا قابلا للتكسير. نقول بأن النهارات محذوفة المشبه به الذي هو قابل للتكسير، وتكون النتيجة أن ورود الشيء القابل للتكسير قد ورد بصورة جزئية وها هو يأتي بها بصورة كلية بقوله:

"إن كنتَ.. …

احجز الفجر في قمقم"

إن ورود القمقم هنا ما هو إلا تكميلة التجلي للمشبه به، الذي هو قابل للتكسير، في حديثه عن تكسير النهارات. هناك جملة شرطية محذوفة وقد أبقى على جوابها فقط. وهناك نوع من التحدي لكبير الليل. عندما يقوم الشاعر بتكسير النهارات فهو يقول لكبير الليل ،على سبيل المثال "إن كنت  تتحداني، فلتحجز الفجر في قمقم (القابل للتكسير)"=لكي ألحقه بالنهارات (القابلة للتكسير). بما أن الفجر جزء من النهار والليل معا فهو يعتبر محتوى لكل من النهار والليل معا. وكأن النهار لا يختلف عن القمقم في علاقته باحتواء الفجر. فالشاعر يبحث عن الفجر في قمقم=النهار الذي كسره ولم يجد شيئا، ثم قبل مواصلة التحليل نطرح هذا السؤال: إذا كان النهار يساوي القمقم في مفهوم الاحتواء وبالتالي صوره الشاعر قابلا للتكسير فلماذا لم يكن الليل هو الأخر كذلك، أي لماذا طلب من الليل متحديا أن يضع الفجر في قمقم؟ الجواب أن الشاعر لا يتحدى الليل العادي الذي يقابل النهار، بل يتحدى كبير الليل ! وبالتالي فإن حديثه يتضمن مقابلة بيانية سليمة وجميلة بين (صغار الليل=قماقم) و (النهارات العادية=قماقم) وكأنه يرى الليل قد خرج من جلدة الليالي العادية فقال له :"إن كنت كذا وكذا فلتحجز الفجر في القمقم=الليل العادي الذي يقابل النهارات العادية لترى كيف أكسره تكسيرا تماما كما كسرت النهارات=القماقم".

في قصيدته "Sms  "(7) يحاول الشاعر أن يوحي للقارئ، بقدر ما يستوحي، أحداث القصيدة من الرسائل الهاتفية المتبادلة بين القاصي والداني. إنه لم يبدأ كعادته الكتابة بطريقة مباشرة، إذن هناك استعارة هيكلية قوامها تحويل العرض الشعري إلى منطويات الرسائل الهاتفية. عندما نتأمل عرض القصيدة نجد أن هذه الاستعارة قد تسربت إلى التفاصيل تماما كما وجدنا وسنجد مع قصائده الأخرى. يقول:

"لو كنتُ دالية

لما

شربتُ النبيذ

---

ادلقي

قهوة الشهوة

سأرتكب طفولة الحليب في فنجان فخذيك

حكماً مؤبّداً كطريق

---

جسدك القمحيّ حلم الطيور"

قد يبدو الأمر مجرد تشبيه عادي من خلال النظرة الأولى ولكن سوف تأتي التفاصيل ليتضح بأن الأمر أعمق من ذلك. لنضيف هذا المثل:

"يامرأة

تضاجع رصيف الكحل

تحمل أيتام المفارق

أنجبيني

قبلة كشارع"

إن مرونة تحول المتكلم إلى قبلة وبالتالي إقامة تشبيه بشارع لا تختلف، في عمقها، عن التحول العام المتمثل في الاستعارة الهيكلية لفضاء Sms . كما أن الجسد في المقطع الأول قمحي ونقول بأن كلمة قمح جاءت ثانوية لأن الرئيسي هو الجسد الذي صار وفق الوصف حلما للطيور. فهل سيعود الشاعر بعد هذا المقطع مباشرة ليجعلها رئيسية؟ الجواب نعم !  كيف؟ لنتأمل قوله:

"ورغيف الخبز قمر يحصد نجومه

ليرشّها حبة بركة"

لننظر كيف تدرج رغيف الخبز ليدخل في علاقة مع النجوم، ولا شك أن هذا سيؤدي بالقارئ غير القادر على استنطاق السياق العام والخاص للقصيدة إلى الحكم بأن الشاعر يهذي ليس إلا، ولكن الذي يحدث أنه شاعر حقيقي لا يخضع لصورة العالم الواقعي، في تصاويره الشعرية الجمالية، بقدر ما يخضع لصورة عالمه النصي الداخلي. من هنا يحاكي المرجع الخارجي، أي عن طريق الخلق الذي يشمل الدال والمدلول معا في نطاق النص. على سبيل المثال: من المعلوم أن أصل الرغيف هو القمح. و بعد أن سجل تصويرا ثانويا هامشيا لهذا القمح عاد ليؤكده في الرغيف ليجعله موضوعا رئيسيا ! أكيد إذا لم نكلف أنفسنا عناء استخراج الصلة الضرورية بين الـ"قمح" والـ"رغيف" فلن نتوصل إلى شيء، لكن التحليل البنيوي(التقليدي) يجعل بالإمكان استغوار العلاقات القائمة بين عناصر النص إلا أنه يحتكم إلى نسقها الداخلي وليس الخارجي أما التحليل البنيوي (التكويني) فهو يعطينا إضافة إلى ذلك فرصة للكشف عن علاقة النسق الداخلي نفسه بالمرجع الخارجي. قبل الخروج من هذه النقطة أود القول بأن إيراد كلمة" رغيف" في المقطع الأخير ما هو إلا سد لقوس التعاقب البنيوي الأسلوبي الذي تخضع له آلية الإنتاج الشعري لدى باسم سليمان. ولكن لا بد من الكشف عن نقطة أخرى، ألا وهي أن الجمع بين الرغيف والقهوة والحليب هو عبارة عن مزج استيحائي وإيحائي بين وجبة غذائية والوجبة الشبقية إن لم نقل جنسية وكفى. وهذا ما يؤكده بقوله:

 "على غير العادة

الطريق مستقيم حدّ الإيلاج

ابعدي ما بين ساقيك للريح"

الريح هنا ترمز إلى الجوع/الرغبة الجنسية كما رأينا في قصيدته السابقة " وأنا من أُضِلّ عن علم".  ننتقل إلى المقطع الموالي استكمالا  لاستخراج طبيعة البناء الشعري لدى باسم حيث يقول:

"وبقي قلبي معلّقاً

كقمر

تطفئه غيمة

لتشعله أخرى"

القمر جاء مشبها به. وبالتالي فهو ثانوي لأن الرئيسي - دائما هو المشبه، أي القلب. وهذا الأخير، باعتباره مشبها، هو الموضوع  الرئيسي في هذا المقطع. ترى هل  سيخضع الشاعر لنفس الصيرورة الأسلوبية ليحول المشبه به إلى موضوع ؟ نعم هذا بالضبط ما فعله بعد المقطع المذكور  مباشرة  حيث يقول:

"قشري

موزة القمر"

هناك تشابه واضح بين الموزة والقمر عندما يكون هلالا. هذه هي النظرة الفنية الخاطفة من الشاعر إلى السماء لحظة التكون الشعري في وجدانه، علما بأنه كان مشحونا بتشكيل صورة من عناصر الغذاء وعناصر الجنس كما ذكرت سالفا. وهو طبعا نفس الشيء في شأن تشبيه الرغيف بالقمر. فهذا الأخير عندما يكون بدرا يشبه الرغيف. الأمر يتعلق بموز القمر، وهذا الأخير قد أصبح موضوعا رئيسيا بعد أن كان ثانويا ! الملحوظ أن نفس الشيء هو الذي حدث مع النجوم حيث قال فيها قبل هذه العبارة :

 "ورغيف الخبز قمر يحصد نجومه"

ليرشّها حبة بركة"

لقد كانت هنا ثانوية من باب كونها محصودة من قبل المشبه به ="القمر" أي لم تكن(تلك النجوم) محصودة من طرف الرغيف مباشرة. ثم إن تشبيه الرغيف بالقمر كان ضروريا من أجل الكلام عن النجوم. هذا يعني أن الرغيف هنا لم يتم تشبيهه بشكل عادي بل نرى أنه عندما تم تشبيهه بالقمر أصبح بمقدوره التفاعل مع النجوم، لهذا صح القول بأن النجوم قد جاءت هنا ثانوية عن طريق كونها محصودة من طرف ما هو ثانوي. ولهذا نرى أن الشاعر قد حولها إلى موضوع رئيسي بعيد ذلك تماما كعادته مع كل العناصر الحاكمة لهذه القصائد، بل لكل ما قرأت له من شعر. إن الأكثر جمالا ودليلا على التناسب والتناسق النصي الرائع هو أن طريقة الشاعر في إيراد الثانوي تساوي طريقته في إيراد الرئيسي وهلم جرا. مثلا، إذا كانت النجوم في العبارة السابقة تستمد ثانويتها من كونها مفعولا بها لما هو ثانوي=مشبه به"القمر" فإن النجوم الواردة بعد ذلك تستمد رئيسيتها من نفس الشيء. لنتأمل كيف جاءت النجوم في صيغة موضوعية رئيسية:

"أطعمي صغار النجوم

لتطلع

علّني أهتدي لشمالكِ"

النجوم أصبحت رئيسية لكونها مفعولا مفترضا لشخص المرأة بشكل مباشر، أي دون تشبيه أو استعارة أو غير ذلك هذه المرة. ويكفي أن نقارن بين صيغتي؛ المفعولية اللتين جاءت فيهما النجوم فنجد أن هذه الأخيرة جاءت في الأولى مفعولا لما هو ثانوي" القمر المشبه به" في حين جاءت هنا مفعولا لما هو رئيسي "المرأة غير المشبهة" . والجمال البنائي يتجلى في كون كلتا الحالتين جاءتا في إطار المفعولية، وكأن الشاعر كان شديد الحرص على تسجيل هذا الجمال البلاغي/ الإيقوني رغم أنه لا يتحصل إلا في العمق.

"لو كان لسوتيانك

فنجان ثالث

لاضطجعت معهما نهداً"

التحول لدى الشاعر يعبر عن شدة الرغبة المكتوب عنها. أي أنه جعل للتعبير عن الرغبة مقياسا تتحدد درجاته بدرجات التحول الذي يأتي عن طريق التشبيه أو غيره. ولهذا فمن شدة الرغبة الدفينة في النهد نستطيع أن نفك شفرة هذه الأمنية (التحول إلى هذا النهد نفسه).

 إنها قوة بلاغية/بيانية موفقة، عندما نعود إلى السطر الرابع والخامس من هذه القصيدة نجد قوله" ادلقي قهوة الشهوة سأرتكب طفولة الحليب في فنجان فخذيك" وها هو يتحدث عن الفنجان في هذا المقطع دون المس بقيمته الرمزية التي اكتسبها نتيجة التفاعل الداخلي لعناصر النص. هناك تناسق بياني رائع يتجلى في وصف الشاعر لبؤر الشهوة بالفناجين، أعني أن وصفه لم يكن عابرا وذلك لأنه لم يطلقه على بؤرة ويصف أخرى بشيء آخر على سبيل المثال، بل كان وفيا لتصويره البلاغي الجمالي العميق وفق النسق النصي الداخلي طبعا. لنلاحظ أن ما بين الفخذين بؤرة للشهوة. ولقد وصفها بالفنجان. كذلك نرى كيسي "الستيان"  يضمان الثديين وهما بؤرتين للشهوة. إذا كان كل من القهوة والحليب محتويين للفنجان فإن موافقة المخاطبة على إقامة العلاقة العاطفية يعني تفعيل تلك البؤر الشهوانية. وكذلك إقدامه يعني سكب شهوته=حليبه. ولكن لماذا لم يكن المحتوى منتميا إليه؟ لأن انشغال المتكلم الطبيعي بمحاسن الطرف الأخر قد صرف أدنى التفاتة منه إلى مفاتنه، هذا إذا كان للرجل مفاتن أصلا. الفنجان إذن متعلق بالمخاطبة فقط لأنها موضوع الرغبة. ويبقى على هذا الفنجان أن يجدي نفعا بأن يمتلئ. وبذلك يكون قد أتقن التشبيه بين ما يحصل من تفعيل البؤر الجنسية وسكب السائل في الفناجين. بوضوح: لا فائدة من الفنجان إذا لم نملأه بشيء قابل للشرب، كذلك لا فائدة من العضو الجنسي ما لم نسكب/نضخ فيه الشهوة مما يعني الموافقة على إقامة العلاقة، فتكون النتيجة أن كلتا العمليتين تؤديان إلى الإشباع. (امتلاء الفنجان بالسائل=امتلاء العضو بالشهوة)(القابلية للشرب=القابلية للجماع)الإشباع.

"يا مرأة

تضاجع رصيف الكحل

تحمل أيتام المفارق

أنجبيني

قبلة كشارع"

لا شك أن هذا يبدو تصويرا غريبا لاسيما لو بدأنا التأمل من كلمة" شارع" إذ لا يمكن أن يكون هناك مبرر مألوف لا لتشبيه القبلة بالشارع ولا تشبيه الذات المتكلمة/الشاعرة بهذا الشارع ولا إسناد إنجاب ما من شأنه أن يكون على شبه بالشارع إلى المرأة، خاصة إذا كانت هذه المرأة آدمية مثلنا ! ولكن هذا بالنسبة للقراءة التي تعتمد على الإسقاط المباشر لعناصر النص الشعري الداخلية على المرجع الخارجي، أعني القراءة التي تبحث في الأدب عن شيء آخر، أما القراءة التي تبحث عن الدال والمدلول داخل النص، أي التي تبحث عن الأدب داخل النص الأدبي فهي تؤدي إلى الكشف  عن أن الشاعر باسم  يجيد التصوير الإيقوني أيما إتقان. حتى نفكك كلمة "الشارع" لا بد أن نتأمل كلمة "الرصيف" وقبل التحليل أود القول بأننا عندما نتمكن من السيطرة على آلية/بوصلة الإنتاج لدى الشاعر يصبح بإمكاننا الذهاب بعيدا في استغوار مشعوراته على سبيل المثال لنستخرج الميكانيزمات  التي تحدثت عنها في هذه القراءة ونستطيع أن نفسر هذا الإشكال كالتالي: إذا التقطنا صورة بانورامية للمدينة سنجد بأن الـ"رصيف" جزء من الـ"شارع"، وأن الفرق بين الأول والثاني هو الفرق بين الجزء والكل..إذن فمن خلال ورود هذا كله في العبارة أعلاه نجد أنه يتحدث، في البداية، عن افتراض امرأة تضاجع الرصيف=الجزء وينتهي بإنجاب شارع=الكل. وهذا امتداد للثنائية المفصل في شأنها أعلاه..أي لقد أورد الشارع في صيغة ثانوية=رصيف=جزء، ثم أورده في صيغة رئيسية=شارع=الكل. ويكون بهذا قد حقق التعاقب الأسلوبي  بين الرئيسي والثانوي من باب التعاقب القائم بين الجزء والكل.  لماذا تنجبه شارعا ؟ لأنها تحمل أيتام المفارق؛ أي مفارق الطرق. وإذا أنجبته شارعا يكون الأمر قد اتضح والإشكال قد انحل !

في قصيدته" القافز بساقه"(8)  يلتقي التحول الإجمالي بالتفصيلي بشكل معقد، فعلى المستوى الهيكلي نرى أنها قصيدة لا تدور حول ذات المتكلم لأن القافز بساقه هو الضفدع. ثم يأتي الانتحال التفصيلي المركب كالتالي:

" الضفدع الذي يغط في النوم كفراشة على زهرة

يحلم بأنثى في متناول قفزة"

الملحوظ أن الضفدع لم يعد ضفدعا (بعد أن كان وسيبقى كذلك) بل أصبح يحمل خصائص بشرية. إنه انتحال مركب لأن إضفاء الخاصية الآدمية على الضفدع جاء بعد الانتحال المضمر المفضي بذات المتكلم إلى ذات الضفدع.  وتفسير هذه المسألة كالتالي:

الشاعر يكتب بصيغة الغائب=استعارة الهيكل العام للقصيدة

الضفدع يتحول إلى إنسان=استعارة تفصيلية للقصيدة

وبما أن الهيكل العام يقوم على اللامباشرة الإجمالية( الكتابة بصيغة الغائب) كان على بوصلة الانتحال (الاستعارة التفصيلية) أن تنعطف بالضفدع نحو الإنسان (مجددا)  من أجل تحقيق التحول التفصيلي المقابل للإجمالي. لقد أشار في هذا المقطع إلى علاقة الضفدع بالأنثى، ولكنها إشارة إجمالية وهي تشكل ركنا من أركان التعاقب البنيوي الأسلوبي المفصل فيه أعلاه، إلى جانب الركن المقابل، إذن فمن المفروض أن يأتي بعده الركن الثاني المقابل ولكن ليس على شكل المجاز لأن الأمر هنا لا يتعلق بركن الحقيقة، وإنما ينبغي أن يأتي به على شكل التفصيل وهذا بالضبط ما حصل بعد ذلك حيث يقول:

"الضفدع

عندما يعشق

لا يقدم لضفدعته باقة من الورد

أو عطرا فرنسيا

ولا شوكولا باذخة الذوبان

ولا يدخل في عراك مع ذكور القبيلة

بل يصرخ بأعلى صوته

حتى يصم أذنيها"

بهذا يكون قد أكمل دورة التعاقب المتمثل في ثنائية الإجمال والتفصيل. وفي هذا المقطع نرى أنه انطلق من الإجمال ثم دخل في التفصيل. أي أنه في المقطع السابق تحدث عن الضفدع بشكل مجمل مقتضب ثم جاء المقطع الأخير لكي يسد قوس التعاقب القائم بدخوله في التفاصيل التي تخص هذا الضفدع. وبهذا نرى أن هذا التعاقب يشبه تماما التعاقب المتحدث عنه أعلاه بين الحقيقي والمجازي الخ . بعد هذا ندخل في لون آخر من التعاقب وهو تعاقب بين الطرح والاستدراك. فالأول جاء في قوله:

"الضفدع فريسة سهلة لحيوانات الوادي"

أي أنه يطرح الفكرة بشكل عادي ولكن بعيد ذلك يدخل في الاستدراك ليقول:

"لكنه يطير في معدة طائر مهاجر"

فبعد دخول العبارة الاستدراكية الأخيرة ينفي ما أثبت فرضيته في الطرح الأول (العبارة السابقة) ألا وهو أن هذا الضفدع رغم سهولة اصطياده إلا أنه قادر على استغلال معدة الطائر المفترس نفسه للتنقل من مكان إلى آخر جوا. وبهذا يصبح الضفدع متمتعا بثلاث قوى فيزيائية؛  السباحة في الماء، الزحف على البر والطيران في الجو، أي أنه بعد أن كان برمائيا أصبح جوبرمائيا.

ننتقل إلى قصيدته "كرتون" (9) حيث ستعار(انتحلت القصيدة) إطار فيلم للكرتون على مستوى الهيكل العام وما يقابل هذه الاستعارة/الانتحال/اللامباشرة على المستوى التفصيلي نستشفه من خلال هذا المثال:

" أنا

قطّ في فئراني"

أعتقد أن هذا يكفي، علما بأن القصيدة مليئة بالحلول والتناسخ وما يهم هو الكشف عن علاقة الانتحال/اللامباشرة الهيكلية بالانتحال/اللامباشرة التفصيلية، أي إذا كان الشاعر قد عنون قصيدته بـ"كرتون" فهذا يعني أنه يزج بها في نوع من اللامباشرة الشعرية من حيث ثنائية المتكلم والمخاطب. ثم إن هذا التحول الهيكلي نجده يتغلغل في القصيدة إلى مالا نهاية حيث ينعكس في التفاصيل تماما ككل أشعاره. لقد عنون القصيدة بـ "كرتون" لكي تأخذ الانسيابية التصويرية داخلها كامل مرونتها. لأن الزئبقية الشعرية  التي تحولت فيها ذات المتكلم إلى ذات القط اقتضت منه تحويل الصورة الشعرية عموما، وليس صورة القط فحسب، إلى ما هو مسلم بقبول خارقيته الخيالية، ألا وهو عالم الكرتون..فعندما نقرأ هذه القصيدة نجدها تشبه استيحائيا ما نشاهده في بعض الأفلام من هذا النوع. والسبب البنيوي القائم وراء  تحول الأحداث الشعرية، في هذه القصيدة، إلى خشبة الكرتون، يكمن في تسويغ زئبقية وخارقية ذلك التعبير/التصوير الشعري. وهذا امتداد لمظهر اللامباشرة الشعرية المتحدث عنها أعلاه، والتي يمكن الوصول عن طريقها إلى تحديد آليات التصويرالانزياحي لدى باسم سليمان. أكيد لا نستطيع القول بأن الانزياح الكامن داخل القصيدة هو نوع من اللامباشرة الشعرية إذا لم ينعكس ذلك في عمومية القصيدة وهيكلها كما رأينا أعلاه. ولكن عندما ينعكس ذلك في هيكل القصيدة العام يكون الربط بين اللامباشرة الإجمالية والتفصيلية سبيلا لتحديد آليات الإنتاج لدى الكاتب. فبعد أن يصرف نظرة القارئ العامة إلى خشبة الكرتون يسرع إلى نفخ روح شعره في هذا المشهد لكي يعبر عما يحس به تجاه الموضوع تعبيرا شعريا خالصا كما جاء في المقطع الأخير:

"أنا

قطّ في فئراني"

استخدم التشبيه البليغ من أجل الانتقال براغماتيا  إلى ذات القط. ومن خلال هذه الذات يصبح بإمكان المتكلم أن يقارب أدق التفاصيل الشبقية لدى حبيبته المفترضة، ودون أن يكون هناك حاجز تقليدي أو قانوني يحيل بينه وبين التواصل المطلق مع الذات الرافضة لإقامة الحب الصريح. إن إيراد كلمة الفئران هنا تعزز كشفنا عن براغماتية تحوله إلى ذات القط، لأنها لا تعبر عن مصدر من مصادر الغذاء لدى هذا الأخير بل تعبر عن كل العناصر المعكرة لجو التواصل المطلق مع الطرف الأخر.أعتقد أن الشاعر باسم سليمان يكاد يصبح جزارا تشريحيا فهو ينطلق، في النظر إلى المحيط الشبقي وغيره، من الكل البيولوجي، أي الجمع بين فصائل الحيوان وعلى رأسها الإنسان، لينتج في النهاية حديثا سليما خالصا عن لحظة الاشتباق وتلك الحالة الإيروتيكية Erotic. إنه يخرج من جسده لكي يستخدمه بتلك الرغبة التي تحول إليها  المتكلم ليحكي لنا عن الحدث الوجداني. وإذا كانت البنية البيولوجية والحيوية والمنطقية تتنافى مع شكل ومضمون الرغبة، المتوخى التعبير عنها، في مهدها السيكولوجي فإن الشاعر يرى أن الحل يكمن في تجسيدها على أنقاض أهلها بعد تشريحهم وتحنيطهم.

حتى يتضح أكثر المقصود بالتحول البراغماتي نأخذ قوله:

"سيّدتي تهوى دلالي

تصبغ أظافري بحنّائها"

انطلاقا من القراءة العادية-الإطرادية- نجد أن الشاعر يخبرنا، من خلال ذات القط، بأن سيدة هذا الأخير تهو ى دلاله، ولكن ما نستشفه من خلال استنطاق طبيعة التحول من الناحية السببية نجد أن هذا المقطع قد انزاح من بعده الإنشائي (البسيط)  إلى الخبري (المركب)  وبالتالي يكون مفاد قراءته العميقة- العكسية- كالتالي:

" لقد تحولت إلى قط لكي تدللني سيدتي وتصبغ أظافري بحنائها". كيف؟ لأنه بعد أن أنهى العبارة أضمر في ذات القط تحولا إلى ذات بشرية من خلال ما يتجلى في قيامه بالتالي:

"فأخمش

ساتان المرمر في الساقين

أُليّن صلابة فخذيها

لاضطجاعة

بعين حذرة

مراقباً

فئران الآه في أصابعها"

نفهم من هذا أن التحول إلى ذات القط ليس من أجل تخليص المنزل من مشكلة الفئران، بل إن استفأر هذه الفئران قد زامن استقطاطه البراغماتي،  فهو ( أي المتكلم) يراقب هذه الفئران بعين حذرة ومن الأفضل ألا تظهر. وهذا خلاف ما يقوم عليه منهج القط (خارج النص) في التعامل الطبيعي  مع مجتمع الفئران، إذ لا شيء أكثر بعثا للسعادة في قلبه من ظهور الفأر. وذلك حتى يخلص البيت من إزعاجاته ويسد به رمقه في آن معا. "الفئران" قد بدأت طبيعة إيرادها تتبلور، فهي تعبر عن كل ما يعكر جو التواصل المطلق مع الحبيبة" فها هو الشاعر يقول الآن " فئران الآه في أصابع المرأة". لنأخذ قوله:

"وهي تمدّ خيوط الشهوة

في قشعريرة ظهري"

أي أن أصابع المرأة تداعب ظهر القط وتبعث فيه الإحساس بالشهوة، لكنه في نفس الوقت يخشى أن تنقلب ردة فعلها إلى ضربة قد تؤدي إلى تكسير ظهره. وهذا ما يعنيه بـ"الفئران". أي أن الفئران ما هي إلا تلك الضربة المحتملة من المرأة المداعبة، وبالتالي لا مانع من القول بأنه قد شبه أصابع المرأة بالفئران وهو تشبيه مركب معقد.

"تنسج سجّادة

تخطو عليها

بقدمين من ماء"

أصابع المرأة هي التي تنسج هذه السجادة، ولكن هل تفعل ذلك على ظهر القط؟ كلا بل في ذهن المتكلم كإنسان ! لا ننسى أن السجادة يتم نسجها بخيوط من الشهوة. وها هو القط يشاركها في هذا النسج بقول الشاعر:

"أدفع كرة الصوف

أُسقطها"

بعد أن فتح القوس لاستعارة الخيط في تعبيره عما يحس به من مختلجات الشهوة الناتجة عن مداعبة المرأة لظهر القط، انتقل إلى الصوف من أجل أن يسد قوس الشهوة ويكمل تصويرا استطراديا لما يأتي وقد انتقل إلى هوية الخيط الحقيقية بعد أن تحدث عن كرة الصوف. وهذا تعاقب بين المجاز والحقيقة قوامه استخلاص الحقيقي من المجازي على سبيل الدفع بذات القصيدة نحو ذات الأدب وهو ركن من أركان التشكيل الانزياحي للصورة الشعرية لدى باسم سليمان. أما السبب المؤدي إلى إيراد (كرة الصوف) هو أنها جاءت لتكمل الصورة البنائية الذاتية التي تقوم (في القصيدة) على لبنة=مجاز والتي تقع أسفل لبنة=حقيقة المتمثلة في تحقيق المجازي بعد المجزنة. للمزيد من الإيضاح، بما أن عناصر تحريك النص لدى باسم سليمان تتحدد في مجال ثنائية المباشرة واللامباشرة المذكورتين سالفا فيمكن القول بأن الذي يحدث في انتقاله من (الشهوة ) إلى (كرة الصوف) هو (الخيط). أي إذا كان هذا الأخير مجازيا مع (الشهوة) فيجب أن يصبح حقيقيا بعد ذلك في كرة(الصوف)  ! وأن الميكانيزم الذي عمل على توجيه بوصلة النص إلى ذلك هو نفس الميكانيزم  الذي اقتضى- في مثالنا المنهجي الأسبق- من الكاتب التورط الشعري الجمالي في (تشبيه حبة القمح بالأفق). لقد قلت سالفا بأن هذا التشبيه(البليغ كما يسمى عند البلاغيين) جاء من أجل استكمال التصوير الذي يلائم (النملة) ! وهو التصوير الذي يستدعي بقوة الاعتماد على تحليل التناسق الداخلي للنص وافتراض مرجع داخلي أيضا ولذلك نرى أن التحليل البنيوي هو التحليل الأنسب.

"في سرّة

أطارد حولها ذيلي

فلا أدركه

تدركني أذيالها

الدسمة كالقشدة"

هذه الصورة تكفي- إلى جانب ما سلف ذكره- للكشف عن أن الشاعر باسم جزار لا يشق له غبار. فبعد أن شبه أصابع المرأة بالفئران، مرتكزا على أن وجه الشبه يكمن في (((ضربة=إزعاج)))، ها هو يحول هذه الأصابع إلى أذيال كما سيأتي لاحقا وهو تحويل تم من خلال استعارة مكنية. والسبب في هذا التحويل كالتالي:  لا بد أن نتذكر، في تحليل النص، بأن الأمر يتعلق بذات القط. وهذا يجعل من الطبيعي -وفق النسق الداخلي للنص طبعا ودائما- أن يكون هناك ذيل لهذا القط وبالتالي الحديث عنه. وهذا ما حصل بقوله "أطارد حولها ذيلي". فالملحوظ أن الذيل هنا حقيقي، إذن فعلى الشاعر أن يحوله- شاء أم أبى- إلى ذيل مجازي وفق القانون اللاشعوري المفصل فيه طوال هذه القراءة. وبهذا أقول: عندما ذكر الذيل الحقيقي كان عليه أن ينتقل إلى ضد ذلك مباشرة وهو مجزنة هذا الذيل عن طريق نسبته إلى المرأة بغض النظر عما إذا كان يقصد به الأصابع أو غيرها، مع العلم أنه يقصد الأصابع كما سيأتي. حتى أحافظ على تركيز القارئ سأذكر بأنه إذا كان المقطع السابق(شهوة=كرة صوف) خاضعا، كما رأينا، لثنائية التعاقب بين المجازي والحقيقي، فإن نفس الأمر هو الذي حصل هنا وهو الذي سوف يحصل طوال تحليلنا لقصائد باسم سليمان ! لقد وجدنا أنه انطلق من المجازي=شهوة ليسد قوس التعاقب بالحقيقي=كرة صوف. ونلاحظ في المقطع الأخير(ذيل القط=أذيال المرأة) أنه انطلق من الحقيقي=ذيل القط ليسد قوس هذا التعاقب بالمجازي=أذيال المرأة. أفترض بأن الفكرة أصبحت واضحة ولكن لا بد من الكشف عن مستوى أعمق لهذا التعاقب وهو تعاقب بين طبيعة الانطلاقات نفسها من حيث المجاز والحقيقة المذكورين، أي أن الشاعر باسم بدأ في المقطع السابق بالمجازي ثم خلص إلى الحقيقي، وهو عكس ما حصل في مقطعه الأخير. فما هذا إلا امتداد لا شعوري للتعاقب والتتالي العميقين اللذين يحكمان صيرورة التصوير الانزياحي للعناصر الشعرية في نصوصه.

"تنزع شعرة بيضاء كفأرة

قطّ أسود ككحلتها"

تصوير رائع ينم عن قدرة قد تكون كبيرة لدى الشاعر في إنتاج القصيدة الحديثة. مهما اختلفت عناصرها الداخلية عن العناصر المرجعية الخارجية إلا أن هناك تناسقا كاملا بين دالها ومدلولها الداخليين، لقد أشرت سالفا إلى أن كلمة" فئران" تشير إلى ضربة أحيانا وإلى تعكير جو التواصل مع الحبيبة أحيانا أخرى. فعندما أوجس في نفسه خيفة من تحول أصابع المداعبة إلى ضربة وصف هذه الأصابع بالفئران الخ. والآن يشبه المرأة نفسها بالفأرة، فهل يصح أن نكتفي بتطبيق ذلك الأصل البلاغي المهترئ بشكل مباشر فنقول بأن الشاعر قد شبه المرأة بالفأرة وأن وجه الشبه يكمن في التطفل وكفى؟ بصراحة أقول أن هذه كارثة في قراءة النص الأدبي الحديث بالعموم وليس الشعري فحسب. وعلى هذا أقول بأن هذا التشبيه (الحلول) مركب ومعقد يستمد أهم أركان تعقده وتركبه من التناسق الداخلي للقصيدة والذي لا يعكس التناسق المرجعي إلا بطريقة شعرية انزياحية تستدعي قراءة جادة ومسؤولة. وأن هذا التناسق (الداخلي) هو الذي يفرض علينا تحليل هذا التشبيه كالتالي:  إنه لا يشبه المرأة كلها بالفأرة، بل أصابعها فقط، لا بل عملية النزع وكفى !! لندقق فيما يأتي. بعد أن شبه الأصابع(وظيفتها=نزع الشعرة) تحول إلى تشبيه ذات القط،التي انتحلها، بكحلة المرأة. ووجه الشبه هو السواد.. أرى أن هناك جمالا شعريا يتمثل في نوع من التوافق الأخاذ في اقتصاره على تجزيء الموطن المشبه به لدى المرأة سواء ما يتعلق بالمشبه= القط أو المشبه= الأصبع. المعلوم أن نزع الشعرة مؤلم وهذا يتوافق مع تشبيهه الأصابع بالفئران في مطلع القصيدة حيث قال"  فئران الآه في أصابعها" وذلك أنه شبه الأصابع بالفئران متضمنا احتمال تعرضه للضرب=الإزعاج كما أشرت سالفا، وها هو يشبه نزع الشعرة من صدر القط بأنه فعل الفأر. إذا كانت ذات المتكلم قد شهدت نوعا من الحلول الكلي في ذات القط فإن ذات المرأة قد اكتفت بالحلول الجزئي فقط..لماذا؟ لأن التحول (كما قلت سالفا) نفسه ما هو إلا تعبير عن درجات الرغبة المحسوس بها لدى المتكلم لحظة الخلق الشعري، لهذا فإن مؤشر التحول بقدر ما يرتفع يعبر عن شدة الرغبة، وبقدر ما ينخفض يعبر عن انخفاضها. وبما أن المتكلم وفي جدا لوجدانه وما يخالطه فإنا نجد الصورة في منتهى الروعة حين نكتشف بأنه قد راع، في القيام بهذا الحلول، عدم التساوي بين رغبة المتكلم ورغبة المرأة، أي من الطبيعي أنه لم يحس برغبة المرأة بقدر ما حس برغبته. نستنتج من ذلك المعادلة التالية:

ارتفــــاع درجة الرغبة في نفسي=ارتفـــاع درجة التحول القط= تحول كلي

انخفاض درجة الرغبة في غيري=انخفاض درجة التحولالفأر= تحول جزئي

ومن الطبيعي أن الإنسان يحس بما يخالج نفسه أكثر مما يحس بما يخالج غيره وهذا هو مفاد التصوير الذي عبر عنه الشاعر من خلال هذا النوع من التناسخ والانتحال والحلول.

نأتي إلى قصيدته "حديث الخشب"(10) ونجد أن هناك تشابها بنائيا كبيرا بينها وبين "القافز بساقه"، التي سبق الحديث عنها ، فالملحوظ أن الانتحال الهيكلي هنا يتمثل في إخفاء الذات المتكلمة والانتقال إلى ضمير الغائب، إضافة إلى الغائب الآدمي (في مقابل الحاضر الخشبي) المتمثل في إسناد صفات آدمية إلى الطاولة. إن الانتحال الهيكلي يتمثل في تحويل القصيدة إلى  قصة للخشب، أما التفصيلي فيتمثل في انتحال الطاولة عن طريق إضفاء صبغات آدمية عليها. هذا مع العلم أن الطاولة جزء من الخشب تماما كما أن انتحال الطاولة هو جزء من الانتحال الهيكلي الأعم المتمثل في الخشب. لنأخذ مثلا على الانتحال التفصيلي في هذه القصيدة وذلك بقوله:

" لا تنعس الطاولات

بل

تهترئ"

حتى تتضح الفكرة أكثر يجب ألا ننسى الفرق بين الخشب والطاولة، وهو الفرق بين ما يسميه الفلاسفة (المادة والصورة)، وألا ننسى بأن العنوان نفسه لا يخلو من القول بأنه (الخشب) هو الذي يقص علينا أحداث الطاولة نيابة عن الشاعر. وهذا يتضح أكثر عندما نأخذ سياقات قصائده ككل. طبعا لا أعني أن الخشب هو الذي يكتب وإنما أقصد أن الشاعر لم يكتب شعرا مباشرا في البداية بل أسنده إلى الخشب هذا كل شيء. لنعد الآن للمقطع كي نحاول تحليله.

"لا تنعس الطاولات

بل

تهترئ

في ملوحة الكلام

كنوارس الكهولة

عندما تضرب موجة بثديها

جرف الرجولة"

تصوير أدبي شعري في منتهى اللذة والجمال. يجسد فيه مراحل العمر لدى الإنسان في عناصر محسوسة مركزا على الدور الوظيفي لهذه العناصر على المستوى المرجعي الذي يقع خارج النص. وعندما يدخل بها إلى النص تدخل كوظائف في نطاق المداليل الداخلية، على أن الدوال تبقى كما هي خارج النص. لقد تحول الـ(كلام) إلى بحر بسبب الملوحة المراد تضمينه إياها. ثم شبه الطاولات، في اهترائها، بالنوارس، ولكن ليس النوارس التي تقع خارج النص(في الطبيعة) بل نوارس الكهولة. وبالتالي فهي خاضعة لقانون المداليل الداخلية. وهذا يعني تجريدها إلا من الوظيفة المناسبة لهذا التصوير الداخلي. إذا كان الكلام بحرا فالرجولة أيضا لم تبق في مستواها الطبيعي (ما هي عليه خارج النص) بل يجب أن تتنازل عن مدلولها بنفس القدر الذي تنازل به الكلام أو البحر عن مدلوله الخارج نصي، وهذا هو مبدأ التناسق الذاتي للنص والذي يسمح له بأن يكون أدبيا يحكي ذاته بنفسه ولا يحكي شيئا آخر. الرجولة هنا تدل على البر (اليابسة) والموجة تدل على المرأة. لأن ضرب جرف الرجولة(البر) ليس بالموجة مما يدل على إسناد فعل الضرب للبحر(الكلام) بل للموجة (المرأة) بثديها، أي عندما تضرب المرأة الـ(رجولة=رجل)  بثديها ( والرجل عاجز عن التفاعل المطلوب بسبب اشتداد وطيس الكهولة). لنحلل سيكولوجيا هذه الطاولات لكي نستخرج علاقتها بكل من البنية الدلالية للنص والأسلوبية. الطاولات تهترئ في الكلام=البحر، لذلك فهي قابلة لإعادة الإنتاج، أي أنها تحولت إلى جزيئات وبالتالي أصبح بإمكان الشاعر أن يعبر بها عن شيء آخر=يصنع منها شيئا آخر. لهذا ركزت على استخراج البنية الأسلوبية لعلمي بأن لها علاقة كبيرة بالبنية الدلالية للنص الشعري لدى باسم سليمان. فلو لم يكن خاضعا لقانون الازدواج القائم بين المباشرة واللامباشرة لما قال-على سبيل المثال لا الحصر-"..بل تهترئ في ملوحة الكلام". لأن هذه الجملة تعتبر تدخلا لا شعوريا منه لبسط مسار التصوير الشعري الانزياحي. إذا كانت الطاولات تهترئ بهذا الشكل فإن الشاعر قد صاغ منها – بعد اهترائها- حديثا عن إشكالية التواصل العاطفي مع الطرف الأخر في مرحلة مزرية من العمر(رغم أن الكهولة ليست سيئة إلى هذا الحد). لهذا فلا يصح مطلقا-برأيي- أن نتشدد لمنهج نقدي واحد في تحليل النص مهما كان هذا المنهج لأن النص يحتوي على تداخلات وتخارجات غريبة تستدعي الاعتماد على أكثر من ذلك.

"لا تفرح الطاولات

لكنّها تهتزّ

على خطّ حزن الزلازل"

أي أن الطاولات ليست فاعلة بل منفعلة تهتز باهتزاز شيء آخر مثل الهزة الأرضية أو ما شابه، لكن الشاعر قد بث في هذه "الزلازل" خاصية آدمية=سيكولوجية وهي "الحزن" وهذا يتطابق مع قوله في المقطع السابق "تهترئ في ملوحة الكلام" لأنها مادامت لا تهتز (تفرح) إلا بحزن الزلازل فهذا يعني أن الحزين(الإنسان) يستطيع إعادة إنتاجها(هزها) وفق ما يود التعبير به عن إحساسه، وهكذا يكون استخراج الشيفرة الأسلوبية مدخلا إلى تحديد البنية الدلالية عن طريق التعرف على بعض المقتضيات والتنازلات والاستبدالات الإبداعية التي يقوم بها الكاتب من أجل السير المتوخى على طريقه.

 نأتي إلى قصيدته الأخيرة بعنوان " يوم متوقّع"(11) أولا : عندما نقول يوم متوقع فهذا يعني أننا لا نتحدث عن اليوم المشهود أو اليوم اليقيني. وبهذا نقول بأنه استعار الغيب من أجل التعمية على ميثاق المباشرة الشعرية على المستوى الهيكلي. وهاهو يقابل ذلك تفصيليا بهذا المثل:

" صافرات الحزن تورق

أستأجر لها خريفاً

وأغصاناً لا تستحي من النحافة

وسريراً بملاءات بيضاء

أُبعث منه لمرآة فوق المغسلة"

في هذا المقطع يتحدث الشاعر عن ذاته المستعارة بشكل جزئي، فهو لا يتحدث عن الحزن كإحساس مستقل بل يرى ذاته عبارة عن صفارات الحزن بشكل كامل(لقد وضحت سالفا طبيعة التحول لدى باسم سليمان) ولم يترك من هذا الاشتمال سوى "فعل" أستأجر" فهو يستأجر لذاته/حالته الحزينة خريفا/نهاية، والخريف كنهاية أفرضه فعل "تورق" على سبيل إتمام صورة المستوحى الشعري في وجدانه. وكذلك الأغصان أفرضها التورق والخريف معا. فهو يستأجر للحزن أغصانا لا تستحي من النحافة، أي الضآلة؛ ضآلة الحزن. كلمة "سرير" هنا جاءت منصوبة وبذلك فهي مفعول بها لفعل "أستأجر" والفاعل هو المتكلم، إذن فهو يصف نفسه كما قلت بصافرات الحزن لأنها نهضت بعد ذلك، في ذاته الآدمية، من السرير لمرآة فوق المغسلة. كل هذه المظاهر تدل على اللامباشرة الشعرية لدى باسم سليمان كدرجة أولى في سلم تصويره الشعري. فهو يفضل أن يبحث عن فعل استشعار خارجا عنه لكي يكون شعره عبارة عن ردة فعل.  إذا كان الشاعر قد وصف نفسه بصافرات الحزن(لأن الذات فيه تحولت إلى حالة) لكي يعبر عن شدة وقع الحزن بشدة التحول، وهذا ما يدل عليه قوله "أبعث منه لمرآة فوق المغسلة" علما بأن السرير قد استأجره لذلك الحزن، فهو يكمل دورة التعاقب الأسلوبي بأن تحدث أخيرا عن نفسه بشكل حقيقي حيث قال:" أبعث منه لمرآة فوق المغسلة"  أي بعد أن تحدث عن نفسه( حالته) واصفا إياها بصفارات الحزن=تفكيك وتجزيء، انتقل مباشرة إلى الجانب المباشر، أي البعث من السرير لمرآة فوق المغسلة= تكليل(من الكل) هنا نرى الجزء يقابل الكل في شعره.

****

الخلاصة:

هناك تلاقح مستمر بين البنية الأسلوبية والدلالية في شعر باسم سليمان، إذ أن تحديد الأولى يؤدي إلى فك ما يمكن من شفرات الثانية والعكس صحيح لكون التوظيف اللغوي(الدلالي) لدى الشاعر شبه خاضع للبنية الأسلوبية.عندما نتقصى تفاصيل البنية الأسلوبية نجد أنها محكومة بما سميته اللامباشرة التي تقابل طبعا الجانب المباشر، حيث يتجسد هذا التعاقب في ثنائية المجاز والحقيقة فيكون الأول تجسيدا للجانب اللامباشر بينما تكون الثانية تجسيدا للجانب المباشر، وقس على ذلك في شأن الرئيسي (المباشرة) والثانوي (اللامباشرة) الخ مما يؤدي إلى خضوع البنية الدلالية للبنية الأسلوبية عن طريق ورود الحقيقي بعد المجازي أو العكس على سبيل المثال، وهذا ما يفسر أن انتقاء الشاعر للكلمة (الدال) أحيانا تابع للمقتضى أو المرتضى الأسلوبي الذي يسير عليه. ولهذا كانت الدراسة تهدف إلى استخراج آليات الإنتاج ، إضافة إلى إبراز طبيعة تولد الجملة الشعرية لدى باسم سليمان من خلال التلاقح القائم بين الأسلوبي والدلالي.

              

http://www.doroob.com/?p=39325   (1)

http://www.doroob.com/?p=39420   (2)

(3) الآية 10-12 من سورة الأعراف.

(4) الآية 35 من سورة البقرة

(5) الآية 122 من سورة طه

(6) الآية 39 من سورة هود

http://www.doroob.com/?p=39838   (7)

http://www.doroob.com/?p=40342     (8)

 http://www.doroob.com/?p=40447(9)     

http://www.doroob.com/?p=40521   (10)

  http://www.doroob.com/?p=40598  (11)