قراءة في مجموعة على موتها أغني

قراءة في مجموعة على موتها أغني

حذام العربي - القدس

ناقشت ندوة اليوم السابع الاسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس مجموعة قصص قصيرة للأديب يسري الغول بعنوان "على موتها أغني". صدرت المجموعة عام 2007 عن منشورات مركز اوغاريت الثقافي في رام الله، وتحتوي 23 قصة قصيرة وتقع في 92 صفحة من الحجم المتوسط :

بدأ النقاش الكاتبة حذام العربي فقالت :

 لم اقرأ ليسري الغول من قبل، ولم اسمع عن كاتب بهذا الاسم، قبل ان يقع نظري على كتابه هذا.

قلما يستوقفني الانتاج الفني للكتاب، أيّ كتاب. فانا قارئة اتمتع بالكلمة أولا، وان كنت أحب أن أراها منضدة بشكل سليم وبصورة جيدة. بإخراج معقول وغلاف مقبول، او على الأقل غير منفر، لكن هذه الأمور، ليست على رأس جدول مطالبي من الكتاب، أيّ كتاب.

 على الرغم من ذلك، ففي البداية استوقفتني لوحة الغلاف، بألوانها الزرقاء الداكنة، المحروقة والمتعكرة التي تميل الى السواد احيانا. ثم شيء كأنه انكسار الأمواج على شظايا مرآة قاتمة، ولكن المرآة تصبح صماء في بعض المراحل، إذ لا تعكس عنوان الكتاب الذي تم ترسيمه بتكرار، بلون باهت وبشكل عامودي. ورسم لإمراة تتراءى بعيدة، واقفة على الأمواج أو على جسر شبه موهوم، ممتد الى بطن البحر، تدير ظهرها للقارئ، وتنظر في الأفق المعتم والمتشابك بظلال، مـُرتبة ومتسقة وكأنها بتنسيق مسبق تسير وفق ايقاع معلوم ومرسوم.

 تحتضن هذا المشهد، شارات من اللغة الموسيقية تبدأ بمفتاح الصول في الموسيقى، تتقعر حانية على المشهد المذكور، وعلى أطرافها شيء وكأنه الشاطئ، تبعثرت على بعض أطرافه قطع من القماش او الاكياس، وكأنها حطام او ركام، او بقايا نفايات مهملة، ثم تتحفز الشارات الموسيقية لابتلاع المشهد، وكأنها تضمه، أو تعانقه او قل ما شئت في ذلك. في لوحة الغلاف رأيتُ كما يرى النائم، أمواج وبقايا كابوس، وأحلاما مرعبة، وأوهام اختلطت بعضها ببعض، وأنغام سحرية ناصعة البياض.

 كذلك استوقفني اسم الكتاب "على موتها أغني" المأخوذ عن عنوان نص من بين 23 نصا، احتواها هذا الكتاب، الواقع في 92 صفحة.

أذكر في صغري، وكان المذياع لا يزال في قريتنا، من الكماليات التي لا يقتنيها إلا من تيسرت لهم أسباب المعيشة، أنـَّه قد ارتبط  كذلك، بالأغاني. وإذ ذلك، فقد كان من الواضح أن الاستماع الى المذياع، يمنع منعا باتاً في فترة الحداد، هذا الى جانب طقوس اجتماعية أخرى كثيرة تلازم حالة الحداد، منها ظهور النساء بالملابس السوداء، ومؤازرتهن بعضهن لبعض وفق القاعدة الشعبية القائمة على "سـَلـِّف واسـْتـْلـِف"، الامتناع عن غسيل أو نشر ملاءات الأسرة أو الملابس البيضاء اللون، والتوقف عن بعض المآكل وتأجيل الأفراح، وغير ذلك الكثير.

 للمفردات معاني، ودلالات وإشارات. ففي عرفي وتقاليدي، أن الغناء على الموت أو الميت عيبٌ ومحظور، وسلوك سلبيٌ ممجوج وغير مقبول اجتماعيا ً. ولا يجوز الغناء على الموت أو على الميت بتاتا ً. بل الرثاء والندب والنوح والترديد. وقد أوصلتني لعبة الارتباطات الذهنية مع المفردات والمعاني الى ما رأيته وأحسبه متساوقا، وبرشاقة مع ما قاله الشاعر ابراهيم طوقان:

لا تحسبوا رقصي بينكم طربا === فالطير يرقص مذبوحا من الألم

ولكن اللافت في هذا، قبولي الفطري لما قاله الشاعر، لا بل وترديد ذلك. في حين تحفظت مما جاء في عنوان الكتاب. هل ما زال الشعراء أصحاب الحظوة في الوجدان العربي ؟!

لا أدري ما السبب، ولكن عند قراءة العنوان مقرونا بلوحة الغلاف شعرتُ بأغلال تقيد نفسي، تشدها الى مجهول، وتجذبها الى شيء مـَقيت يثير نسيم الضجر والنكد، والحزن البارد، السوداوية والتأفف والبؤس الناصع والمشاعر المتضاربة. وهكذا كان.

في قراءتي هذه لن أمسحَ النص، ولن أناقش ما فيه من صيغة جمالية، وحبك وسبك وإبداع لغوي ومضامين مستحدثة، الى آخره من معايير معتمدة. ولكن سأقرأ النص باختزال وتكثيف أعرف أنه ظالم. ولكنه أتاح لي في القراءة الثانية للنصوص، أن أتلقى الجرعة المـُرَكـَّزة في جميعها تقريبا، بسرعة وبسلاسة. دون التمرغ في أوحال الهزائم  النفسية، ودون أن أعاني من الألم القاتل للقروح والجروح المفتوحة. ودون التلوي من الاوجاع الباطنية الفلسطينية. ودون معالجة الحروق الغائرة التي تركها صقيع الغربة والمنافي، في الجسد والنفس الفلسطينية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر في النص الأول:"على موتها أغني" ص 4 ، يمكن للقارئ أن يختزل النص في : {على الموت أغني} – الحصار – دروب المخيم وأزقته – ومردوانات السجن – ثم صاروخ غادِر صفع شارع المخيم بأكمله". 

انه نص الموت على الموت على الموت.

 في النص الثاني "فتاتان برائحة الغربة" ص 7 : "دون وطني – هيئتي عربية – أحد الغرباء – تغريبة الشوق – ككلب لم يستطع الوفاء – لأخ يهاتفني كل عام – كغصة في حلقي – متأففا ً – وحبيبة ماتت بعد العودة بقليل".

انه نص عن الوطن والغربة والتغريبة والعودة والموت.

وفي النص الثالث "طائرة لحرمان قديم ص 10 : "طائرة ستقلع – ومخيم – وسفر – ومفاتيح –  ودروب عودة – ولن اعود".

نص عن الفلسطيني المرتحل أبدا.

 في النص الرابع "المسافر" ص 13 : "ظلام بالمخيم – تهاويم المرآة – ريح الجنوب – اشلائي الميتة – في أزقة المخيم – جثة همدت – رمال الحكاية – حيث الشرق الادنى – أريج الشوق الى الوطن – بوابة المدينة الضيقة – وريح سيناء – جبل الطور – هناك القـِبـْلـَة ُ القديمة – يا وطني الرائع يا وطني – لم يغب عن مخيمه ابداً – ريح قادمة من الشمال – يرتطمون بشاحنة – في ردهات المخيم وأزقته – تتكدس برائحة الموت".

نص لا يفسح المجال للقارئ، ولا حتى بابتسامة اللقاء عند العودة بالجسد. ريح الشمال، وزوابع الشرق مع دوامة الغرب، تصفعه وتصفع ابطاله، فـَتـُدميهم جميعا ً.

 في النص الخامس "عريس آخر النهار" ص 17 : يبتدأ ب "آخر النهار – جرح الوجه – كان الجنود – ينزعون – يطلقون كلابهم – يصرخ الجندي – سنـُفـَجَّر المبنى – عجوزا يلفظ آخر انفاسه – فوهات البنادق – ترنيمة الشوك – المستوطنة – المستوطنون – بأسلاكهم الجامحة – بأحذيتهم – تترنم أمّه – بمقتل أبيه – جرح جـَلـّي – تهدم البيت – أطياف حزينة – مسافرة الى أفق المخيم – الهراوة تتهادى – يضرب رصاصة – يطلق رصاصة – يبكي خائفا والدم شلال لنهر المكان – بجوار قبر أبيه – تودعه – تعود حيث الخيمة".

نص في بدايته مخيم وفي نهايته خيمة. محكوم باللجوء والخيام. العريس، أي الفلسطيني، سمكة والمخيم بحرها، لا بل محيطها.

 في النص السادس، "فلسطين تحت المطر"، ص 20 :"نـَقـْش آهات المطر على أسوار وطني – عالمي – لوحة القدس – سأرسم – أصنع عالمي – بيوتا تتكسر – بالتيه في بلاد الغرباء – قد فعلت شيئا – أسقط كتلا من الحقد – عجوز تجري – أتعثر بصورة مخيمي – وأبكي – غربة في وطن – الوطن يتلبد بسحب الانفجار – فلسطين تحت المطر، غربتي هائمة على وجهها – قطار موتي".

مرة أخرى نص الفلسطيني الملتاع حزنا ً في ازقة المخيم.

 النص السابع "خلف جدار الموت" ص 22 . "سلاحٌ واسدال – مدى فاصل بين الموت والموت – الجدران – الحجارة – الصمت – تطلق الدبابة قذيفتها – بين الألم والموت – للمخيم – نتعثر بالموت – نجهز أسلحتنا – اصوات الطائرات – بقعة قذرة من العالم – صخب – الموت في دوامة الصفر – اقوم اليه كي أقتله – تريد أن تقتلنا – بقايا كابوس – هذه النقطة السوداء – قذيفة تنفجر – نموت – وننتهي قبل أن تنتهي الحكاية".

حتى عندما يأخذ الفلسطيني زمام القرار، ويحمل السلاح، فهو قرار بين الموت والموت. لا ثالث له.

 في النص الثامن وجه غريب ص 24 " {الوهم} -  ليل الشتاء – عمق الظلام – شبح من الرجال – هرباً من – الضوء القاتل – الليل المتكدس – كهم فاجع – نباح كلاب هائمة – يصلي – يتأمل – يبكي – يهذي – بحرمان قديم – مفعم برائحة الخراب – {المرآة} – اشلاء مقطعة –  {المحققون} – سجناء القسم – صقورهم المنتفضة – الفتنة في اقفاص الموت – الطيور المهاجرة – العودة بسلام – {الرِّجال} – الخديعة – تفجرت المرآة – {السجين} – حرمان قديم – فاقئا عين الزمن – تقيأ الذاكرة – بقايا حكاية قديمة".

هذا نص عن الفلسطيني الخارج من ركام ظلام الشتاء المفعم برائحة الخراب والأشلاء، ليفقأ عين الزمن ويتقيأ الذاكرة، ولكنها تخونه.

 النص الحادي عشر بعنوان "أسطورة الزمن الغائب" ص 31 . "{الغائب} – ظلمة كئيبة – يسرقُ – يـَزْجـُره بعنف صارخا – الى بيتي – ظلمة – شاطئ حزنه اسود قميئاً – بحر الغرب المميت – وكثور هائج أعدو تجاه الشرق – اهتف – أدركنا نهايتنا المريعة – المدينة تبدو غارقة في موتها – جاء ميعاد الدفن – أجساد قتلانا – الموت في الاسفل – لقد غدر بنا الشرق – اذا السماء إنشقت – ذاكرة للموت – مَن سيدفن ابناءنا – تصمت – تبكي – تنتحب – تولول – تندب – علينا ان نموت جميعا ً – نـُلـْق ِ بالجثة في الماء – نتقيأ الماضي – ثم اموت واندثر".

انه نص الفلسطيني التائه بين سراديب الغرب وقصور الشرق. يضربه الشوق فيصبح أسطورة الكون.

هذه نصوص مسكونة بهاجس المخيم، وحكايا التشريد والأوتاد والخيام، تطارد الغربة والتغريب، وتستحضر الاشلاء الانسانية في حركة دائرية، ولكن صقيع المأساة الفلسطينية مستقر في قيعان نفس صاحبها وكاتبها. ينضح منها ألم فاجع، وتقطر سوداوية مظلمة وظالمة كذلك. يتعالى منها لهيب نار لا تطفئه بحار ومحيطات الكون بأسرها، وترياقها "جرعة من ماء الحرية في فلسطين" ولكنها مفقودة.

هذه نصوص مفعمة بصقيع المنافي وعواصف اللجوء، بأتون الشوق وحـُمـَّى الإنكسار والهزيمة، وكلها تتراكض وتصطـكّ في روح الكاتب وابطال قصصه، حتى أبـْصـِرُه احيانا يلهج بها، كمن اصابته حمى. وهو في حالة أجادَ وصفها المثل الشعبي الفلسطيني، القائل : "على ما ييجي الترياق من العراق بيكون المحموم بـِفـْراق".

كم هو صائب هذا المثل في ايامنا هذه. والعراق أصبح وجع ليالي الفلسطينيّ، وهـَمَّه اليوميّ.

هذه النصوص تكتمُ على نـَفـَس ِ القارئ، ولا تتح له المجال ولو للحظة ان يرفع رأسه فوق الأمواج العاتية، ان كانت قادمة من شوارع وزواريب الأمم في مدريد وأوسلو، او آتية من شعاب مكة، أو من أزقة ودروب المخيم. كلهم في الهمّ سواء.

في هذه النصوص كـَم ٌ، غير عادي، من الأشلاء والشظايا والتكسير. من الموت الرخيص والغالي، ومن العواطف النبيلة السامية، ولكنها راكدة وعرجاء، بفعل سهام الرصاص، وأسهم البورصات. وفيها جرعة مركزة من المخيم الفلسطيني، تؤرق القارئ، فهي لم تستطع ولم تقوَ على التحليق عالياً، وكأن عنقاء الكاتب لا زالت في طور الاحتراق.

وأرى في هذه النصوص، الشعب الفلسطيني يتقمص شخصية عباس ابن فرناس، في محاولته الاولى، ثم المحاولة الاولى بعد الاولى، ثم في حلقة مفرغة من المحاولات. انها الدوامة. دوامة الواقع الفلسطيني الذي يجيد حبكها الكاتب بأسلوب غيبي أحيانا، ولكنه رشيق وثري بالصـُور الجمالية. ولكن بطل النصوص، لا يرتفع ولا ينهض ابدا.

 هذه نصوص اشتملت على كم فوق عادي من المفردات المأساوية، الحزينة، الصارخة، المعتمة والمؤلمة، الضَجـِرَة والمظلمة كالحالكات من ليالي المئوية الاخيرة من حياة الشعب الفلسطيني.

 وهذه نصوص توثق لهزائم النفس العربية على وجه العموم، وليس الفلسطينية العربية وحسب.

انها اعلان حداد على الطريقة الفلسطينية الحديثة. نصوص متكدرة معكرة الروح، متالقة في صفاء الرؤية، للمـُعتـِم والقاتم والجاثم على وجدان كل واي فلسطيني، يفتح مذياعاً أو تلفازا ليسمع أو يرى خبرا، من الوطن العربي – من محيطة الى خليجه –  في زمن الردة هذا، الذي نعيشه اليوم.