"أبي البعثي" لماهر شرف الدين

"أبي البعثي" لماهر شرف الدين

سفر الخروج على الأبوة

بلال خبيز

تقرأ "أبي البعثي" (دار الجديد)، كتاب ماهر شرف الدين دفعةً واحدة. الفكرة تجرّ الفكرة والحادثة تلحق بها حادثة اخرى. ماهر شرف الدين كتب كتابه على الأرجح كما لو انه يلفظه من فمه كقيء ثقيل. هو كتاب لا بد من كتابته ليستقيم المرء بعد مرض، ويخرج إلى نقاهة الشمس والصحة التي تجعل الجسم غائباً تماماً. يذوي الكاتب بعد الكتاب ويختفي في الظل، منتظراً ان تُقبل شهادته. يطلق الشهادة التي ليست اقل من اعتراض حاد ومفتوح على ما سلف وتحصّل له. محاولة في التوبة والتكفير عما اقترفه من عيش وطلب انتساب جديد.

يخطئ من يحسب ان ماهر شرف الدين انما يصور الاحوال في سوريا ويصفها بالدقة نفسها التي تتسم بها تقارير الامم المتحدة او حتى الافلام التسجيلية والوثائقية. ما يكتب عنه شرف الدين تائباً، ليس وصف سوريا او جزء منها، بل سفر الخروج. رحلته الشاقة في البحث عما يجعل العين التي ينظر بها إلى العالم، اقل غيرة واكثر دعة وتيهاً. العالم الذي يعيد الكاتب صوغه على الأوراق، ليس عالماً يصعب على المرء ان يجد فيه سحراً وفتنة. اصلاً، لا يكفّ الكتاب عن تذكيرنا بوجود هذا السحر. إذ كيف تكون الفتنة والسحر إذا لم يكونا دافعاً للتطلب والشغف الحاد بإنجازه؟

في العالم الذي يكتب فيه شرف الدين وعنه، تبدو المفاهيم والأفكار والرغبات والغرائز في الطور الأول الذي ولدت فيه. أي قبل ان تتشكل على مراتب وانماط، تجعل هذه المرأة آية في الجمال وذلك المبنى فخماً وهذا الرجل صاحب سلطة، لا يتوجب عليه لتأكيد سلطته ان يضرب اولاده او يعتقل مواطنيه. هذا العالم، وبخلاف ما يفكر بودريار، هو عالم المفاهيم والأفكار. العالم البري الذي يوجد قبل استواء كائناته انصاباً وعلامات على اي شيء. كأن تقول: تلك ملكة الجمال وهذا رئيس الحكومة وذلك الرجل ملياردير. العالم قبل استواء كائناته انصاباً، هو العالم الذي تكون النظافة فيه، هي مفهوم النظافة، لذا تزعج قاطنه رائحة الشوندر التي توحي أن ثمة جهداً بليغاً تم بذله لجعل المكان نظيفاً. وهو ايضاً العالم حيث يكون الجنس هو اصل الجنس، متصلاً بالرغبة الحارة اكثر مما يتصل فعلاً بإثارة ناجمة عن تبادل الادوار بين ذكر وأنثى. العالم حيث الطعام لا يعني سوى اثره في الجسم، من شعور بالشبع والامتلاء، مثل الجنس الذي لا يعني سوى اثره في الجسم ايضاً.

يبدو لي الكتاب والحال هذه، كما لو انه رغبة في انتقال ارسطوي من عالم المثل إلى عالم الوقائع، حيث تعود الوقائع نفسها لتنتج مُثُلها، تفريقاً وتغييراً واتصالاً بالحواس المدركة. فلا يعود الجنس جنساً لمجرد ان الرجل يملك ذكراً والمرأة فرجاً. بل لأن ثمة حواس اخرى تغذت جيداً وعرفت ايضاً، بالتنوع الذي تواجهه، وبالإفصاح المتكرر عن الوجوه والاجسام، كيف تصبح محايدة وغير مرئية تماماً. يصبح الجنس قائماً بين شريكين يستعينان على اتمامه بالحواس التي تدرك الوقائع وتتصل بها وتتأثر. فيحسن ان يختار المرء شريكاً بملء ارادته، ويتحمل نتائج هذا الاختيار بملء عاطفته ورغباته وافكاره.

لا تنفصل كتابةٌ من هذا القبيل عن الدور الذي لعبه حكم سوريا على النحو الذي نعرف وقائعه واحواله منذ اكثر من ثلاثة عقود. لكن الكتاب لا يدين، مثلما انه لا يمجد. انه كتاب يذهب ابعد في مساءلة شرط الإنسان الحديث. يريد ان يتيقن من ان الحياة تجري من حوله، مفترضاً انه على صلة بكل مجرياتها. فالشرط الذي يبحث شرف الدين عن تحقيقه هو الشرط الذي يجعل المرء بالغ التأثر بما يحيط به. إذ ان شرط الاجتماع المديني الحديث يتصل اتصالاً وثيقاً بتأدية كل شخص دوره في دورة الاجتماع، بخلاف ما يبدو الاب البعثي من دون دور وعبرة سوى تعليق هذه الدورة ومنعها من اتمام حلقتها الضرورية. ونحن نعرف جيداً ان المجتمعات تتعلم وئيداً كيف تنسق بين حلقاتها وادوارها، وكيف تنتظم في سلك حديث يتيح لها ان تنمط من جديد. لهذا ربما لم يجد ماهر شرف الدين انسب من لحظة تظاهرة 14 آذار المليونية ليعلن انه جزء من هذه التظاهرة. لكنه هذه المرة السوري في التظاهرة، اي الشخص الذي يتفرد عن الجموع ويفوقهم اعتباراً وأهمية. لأنه الوحيد الذي لا يمكن جمعه في حزمة لبنانية ما. في هذا المعنى، ينحاز شرف الدين في تظاهرة 14 آذار إلى فكرة، إلى مكان. قد لا يكونان على قدر ما يأمل، لكنهما ملجآن حقيقيان في مسيرة خروجه من غرائز الأفكار والمثل إلى الاستواء فرداً يحب ما يريد ان يحبه ويكره ما يريد ان يكرهه، لكنه على الأخص يستطيع ان يقرر.

انحياز الكتاب إلى التظاهرة ليس انتماء إلى الحشد مرة أخرى، بل احتماء به في مواجهة حشد يتركه خلفه ولا يريد العودة إليه. هذا الذي يتركه خلفه ليس سوريا في طبيعة الحال، بل العالم حيث عاش واختبر الحياة في وصفها مراهقة لا تنتهي فصولها بانتهاء سنوات المراهقة. فشرط المراهقة ان تبقى الثورة ثورة دائمة، وان يبقى الحاكم حاكماً دائماً، وان يكون العالم ثابتاً على النحو الذي يراه فيه المراهق للمرة الأولى. يخرج شرف الدين من سوريا المراهقة إلى الرشد. الرشد الذي يجعل المرء وحيداً، واحياناً وغداً، لأنه ذات يوم انجرف مع مراهقته حتى حدود الاستمتاع. لهذا ربما لا يكف شرف الدين عن تكرار انه وغد لأنه اشتهى نانو الكردية التي اغتصبها ابوها، فيجرها من شعرها كما لو انه رسنها ويركبها كحصان.

ذلك ان هذا الاشتهاء الذي حضه عليه مرأى نهديها، وقدرة عينه على تكوين حكم عليهما، ليس اقل من اكتشاف ان العالم الذي خرج منه إلى غير رجعة قد يختزن، وفي وسعه ان يختزن، ما يمكن ان يحثّ العين على الاشتهاء والرغبة، كما باقي الحواس. لهذا لا يكف عن التأكيد انها المرأة الاولى التي ذاق لحمها ومرقها، وان المرأة الاخرى، ام صالح، لم تكن امرأة، بل ثقباً مفتوحاً وغائراً إلى مجاهل لا يريد العودة إليها أصلاً. هو وغد لأنه يعرف ان نانو الكردية تتصل اتصالاً وثيقاً بالعالم الذي خرج من بئره العميقة، وان اشتهاءه لها انما ينم على رغبة دفينة بالعودة إليه.

كتاب ماهر شرف الدين يحضّ كثيراً على التفكر في طياته وما يختزنه، وهو غزير وغني. لكن "أبي البعثي" ليس اقل من خروج عن الأبوة والبعث في وصفهما نظامين يؤبدان المراهقة ويجعلانها مآل الكائن الوحيد.