استعارات الفروسية لأحمد المجاطي (3)
استعارات \"الفروسية\" لأحمد المجاطي (3)
الاستعارات العرفية
د.محمد الولي
الاستعارات العرفية
هي الحلقة الوسيطة بين الدلالة الحرفية والاستعارات الخاصة. إن الدلالة الشعرية
المجازية لا تبزغ إلا حينما تتمرد على الحرفية. إلا أننا نفترض بين النثرية الخالصة
والشعرية الخالصة محطة وسيطة هي التي أدعوها شعرية أو استعارية مستهلكة أو عامة أو
بكل بساطة استعارات عرفية. هناك جنس من الاستعارات التي لا يبتكرها الشعراء وإنما
يتناولونها جاهزة من إرث الثقافة التي ينتمون إليها. إرث الأمة أو الإنسانية. إن
الشاعر أحمد المجاطي المنافح عن قيم التحديث وعن المقهورين والحلم بحياة إنسانية
لكل مستضعفي الأمة العربية تتغذى قصائده من هذه الاستعارات الموروثة والشائعة. قد
تكون استعارة الفجر الاستعارة الشائعة بل الشعبية الأكثر تواتراً في "الفروسية"
بمعنى الخلاص والتحرر والانعتاق. ولو أننا قصدنا إلى مجرد التمثيل لتوقفنا مع
المجاطي عند قصيدة "عودة المرجفين":
حِينَ عَادُوا كَحَّلَ الصَّمْتُ جُفُونَهُ
مَدَّ لِلْفَجْرِ يَداً
أرْخَى جُنونَ الضَّوْءِ
فِي لَيْلِ الْمَدِينَه
وأفَاقَ الغَجَر الْمَصْلُوب
والْخَمْرُ اسْتَباحَتْ خُلْوَةَ الصَّفْصَافِ بِالشَّمْسِ،
ارْتَمَتْ نَهْراً عَقِيقِياً
وبَاتَتْ دَارُنَا تَكْبُرْ
وامْتَدَّتْ مِنَ الفَرحَةِ غَابَاتٌ
وسَالَ النَّجْمُ فِي الرَّمْلِ
فَلوْ فَجَّرتْ أَحزَانَ اليَتَامَى
فِي جَناحِ الَّليلِ لاخْضَلَّتْ يَنَابِيعٌ
وفَاضَ اللَّحْنُ فِي الكَأسِ الْحَزِينَة.[1]
ومن الفجر أيضاً قوله:
مَدَدْتُ إِلَيكِ فَجْراً مِنْ حَنِينِي . [2]
[…]
فَجِئْتُ إِليْكِ مَدْفُوناً
أنوءُ بِضحكَةِ القرصانِ
وبُؤسِ الفَجْرِ
[…]
وتَلْتَفِتِينَ لَا يَبقىَ مَعَ الدَّمِ
غَيْرُ فَجْرٍ فِي نَواصِيكِ.[3]
وفي قصيدة "السقوط" يتعانق المعنى الحرفي والمعنى الاستعاري تعانقاً حميمياً رائعاً
:
فِي اللَّحْظَةِ الأَخِيَرة
إِذَا تَلَاشَى الَّليْلُ
فِي سَعْلَتِهِ الضَّرِيرَة
يَرْفُضُ أَنْ يَغْسِلَنِي الفَجْرُ
وأنْ تَشْرَبَنِي الغَمَامَة
أَبْقَى وَرَاءَ السَّيْفِ
والغَمَامَة
مُلْقَى علَى ظَهْرِ الثَّرَى
مُلْقًى بِلا قَبْرٍ
ولا قِيَّامَهْ.[4]
ويقول المجاطي:
دِمشقُ على مَتنِ ظَبيةِ بانِ
تعودُ إلى شَاطِئ الأطلسيِّ
تمدُّ ظفَائِرهَا
تَتجدَّدُ
تغدُو ولادةَ حَرفٍ
وفرْحةَ بدءٍ
وفجرَ حَقيقَة.[5]
ويقول في قصيدة كتابة على شاطئ طنجة:
جبَلُ الرِّيفِ علَى خاصِرَةِ الفَجرِ
تعثَّرْ.[6]
ويقول عن النجم وهو مقابل كنائي للفجر:
وَكيْف تُسامرُونَ النَّجمَ بعدَ غيَابِه.[7]
ويقول جامعاً بين استعارتي النجم والليل:
يسْمرُ عند أبْوابِي نُباحُ اللَّيل
وَيرقُصُ في بَصيصِ النجْمِ
ظلِ ٌّمن شياطِين.[8]
وإذا كان النجم الاستعاري ينافس لفظَ الفجر كما ينافس نقيضَه الليل فإننا نود أن
نقف عند لفظ استعاري آخر مرتفع إلى مستوى الرموز الإنسانية، ألا وهو "النهر" الذي
عشقه المجاطي أيما عشق. ولعل أجمل مثال على رمزية النهر الصيغة الدرامية التي قدمها
في قصيدته سبتة:
أنا النَّهرُ
أمتَهِن الوَصلَ بيْنَ الْحَنيِن
وبين الرَّبابة[9]
وبَينَ لهاثِ الغصُون وَسمْع السَّحابَة
أنا النهرُ أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي
وأَركُب نَسغَ الَأغانِي
وأَترُكُ للرِّيحِ والضَّيفِ صَيفِي
وَمجدُولِ سَيفِي
وَآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
آتِي علَى كُل نَقعٍ يثَار.
وَآتيكِ.[10]
ومن هذه الاستعمالات الرمزية للنهر قول المجاطي في "قراءة في النهر المتجمد"
يَحمِلُ في غُثّائهِ الأَشْجَارَ
وَالكُتُبَ الصَّفرَاء
والمَوائِدَ
والصَّمْتَ والقَصَائِدَ
ودارَ لُقْمَانَ
وَأطْلَالَهَا
والمْـدنَ والأَسْوارَ
حتَّى إِذا أتَى رِحَابَ القُبَّةِ السَّعيدَة
ألْـقَى نِـثَارَ الْغَضْبَةِ الحمْراء
وصَار خَيطَ مَاء
[…]
وهَا أنَا على مَدارِ النَّصر والهَزِيمَة
أُمسِكُ حَدَّ السَّيفِ
ماءَ النَّهْرِ
رأسَ الوَطنِ المقْطوعِ
لونَ العَلَمِ المرْفوعِ
أُمسِكُ
ها …
كبرت يانهر نَمَتْ مِن حَوْلك الأغصانْ
وخَرجَت أحْجارُك السَّودَاء
مِنْ أسمَائِهَا.[11]
والواقع أن ثبات مثل هذه الاستعارة وتواتر استعمالها بنفس المعنى في تراث الإنسانية
هو الذي يسمح بتسميتها رموزاً كونية.
لا يمكن في سياق الفروسية الحديث عن الاستعارات العرفية مثل: الفجر والنجم والضوء
والشمس والصبح دون الخوض في مقابلاتها من قبيل الليل والصمت والأطلال والعتمة الخ.
وهي تحمل كلها دلالات مناقضة للفجر. لنتأمل المثال الآتي من قصيد "دار لقمان 1965"
ويكذب النجم وتبقى الرُّؤى
مبحرة في ليل تسآلها
ويسفر الصبح ولما تزلْ
أطلال لقمانَ على حالها.[12]
وفي كل الأحوال ففي الفروسية فيض من هذه الاستعارات التقليدية الموروثة العرفية
منها:
الصمت:
وتَسقُط كلُّ البنَادِقِ
قَتلَى
وتدْخلُ كلُّ الدوَاوينِ في زَمنِ الصَّمتِ
والدَّمعَة الماَلحهْ.[13]
ويقول :
يَحمِلُ في غُثّائهِ الأَشْجَارَ
وَالكُتُبَ الصَّفرَاء
والمَوائِدَ
والصَّمْتَ والقَصَائِدَ
ودارَ لُقْمَانَ
وَأطْلَالَهَا
والمْـدنَ والأَسْوارَ.[14]
ويقول:
رَأَيْتُكِ تَدْفَنِينَ الرِّيحَ
تَحتَ عَرائِشِ العَتْمَهْ
وتَلتحِفينَ صَمتَكِ
خَلفَ أعْمدَةِ الشَّبابِيكِ[15]
ويقول:
حينَ عَادُوا كَحَّلَ الصَّمْت جفُونهْ
مدَّ للفَجْر يَداً
أرْخَى جُنونَ الضَّوءِِ
في لَيلِ المْدِينهْ.[16]
ويقول في نفس القصيدة
كذِبْتِ يارُؤْيَا
طَرِيقُ الصَّمْتِ لا تُفضِي
لغَيرِ المقْبرَهْ
ومن هذه الاستعارات العرفية العتمة. من استعمالاتها عند المجاطي قوله:
تخْرجُ الأكْفانُ مِنْ أجْداثِهَا
يوْماً
وتَبقَى هَاهُنا العتْمَه.[17]
وكذلك استعمل هذه الاستعارة في قصيدة القدس[18]
ومن هذه الاستعارات العرفية "النسر". يقول:
لم تمَُتِ النُّسُورْ
لكِنَّ لقْمانَ الحَكيمَ
مَاتْ.[19]
ومنه أيضاً:
ظنَنَّا النَّسْرَ حَطَّ عَلى
مَدينَتكُمْ
فأيْنَ مَضَى؟[20]
ومنه أيضاً:
وكَانَ ريشُ النَّسْرِ
في جِراحِنا العَمِيقَهْ
فَماً
وتَوْقاً ضَامِئاً
لِدَقَّةِ الطُّبولْ.[21]
ومن هذه الاستعارات "القرصان":
أرْسُم فوقَ جَبهَةِ القُرصانِ
عَلامَة الثَّورةِ.[22]
ومن هذا أيضاً:
فَجئْتُ إليكَ مَدفُوناً
أنوءُ بضحْكةِ القُرصَانِ
وبؤْسِ الفَجْرِ
في وَهْران
وصَمتِ الرَّبِّ في خَرائِبِ مَكَّة
أو طُورِ سِينينَا.[23]
ومن هذه الاستعارات "الثعبان والعقرب"
تحُزُّ خَناجِر الثُّعبَانِ
ضوءَ عُيونِك
الأشْيبَْ.[24]
هذه المحتويات ذات الطبيعة الاحتجاجية والنقدية المنكشفة عبر لغة تعيينية تشكل إلى
جانب البناء الخطابي الحريص على التواصل والتلقين واللغة المعتمدة على العلمية بكل
تلويناتها الزمانية والمكانية والشخصية والمعتمدة على اللغة المشتركة ذات الدلالة
المتداولة تشكل نسغ اساس لغة المجاطي الشعرية. إلا أن شاعرنا حينما يتزود من اللغة
الاستعارية التجوزية لا ينساق أمام إغراءاتها. إنه يخص الاستعارات المتداولة بحظوة
مثيرة.
الهوامش:
[1] الفروسية، عودة
المرجفين، ص.ص. 16 ـ 17
[2] الفروسية، القدس، ص. 57
[3] الفروسية، القدس، ص.ص. 57ـ58
[4] السقوط، ص. ص. 65ـ66
[5] وراء أسوار دمشق، ص.ص. 92ـ93
[6] كتابة على شاطئ طنجة، ص. 67
[7] خف حنين، ص. 113
[8] من كلام الأموات، ص. 106
[9] في اللسان، الربابة: الحنين الشديد من البكاء والطرب، وقيل هو صوت الطرب كان
ذلك عن حزن أو فرح. والحنين : الشوق وتوقان النفس […] وحنت الإبل: نزعن إلى أوطانهن
أو أولادها. […] وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. السحاب يرب المطر أي
يجمعه وينميه. والرباب بالفتح سحاب أبيض، وقيل: هو السحاب واحدته ربابة؛ وقيل هو
السحاب المتعلق الذي تراه كأنه دون السحاب. […] قال أبو عبيد: الرباب بالفتح :
السحابة قد ركب بعضها بعضاً وجمعها رباب . […] أربت السحابة دام مطرها. […] الرباب
قرب العهد بالولادة. […] قال الأصمعي أنشدنا منتجع بن نبهان
حنين أم البو في ربابها
والربابة بالكسر: جماعة السهام. وقيل خيط تشد به السهام: الجلدة تجمع فيها السهام
[…] والربابة والرباب العهد والميثاق.
[10] سبتة، ص. 73
[11] قراءة في النهر المتجمد، ص.ص. 39ـ41
[12] دار لقمان 1965، ص. 34
[13] الدار البيضاء، ص. 86
[14] الفروسية، قراءة في النهر المتجمد، ص. 39
[15] القدس، ص. 55
[16] عودة المرجفين، ص. 16
[17] كتابة على شاطئ طنجة، ص. 69
[18] القدس، ص. 55
[19] مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان، ص. 95
[20] من كلام الأموات، ص. 112
[21] كبوة الريح، ص.22
[22] قراءة في النهر التجمد ص. 40
[23] القدس، ص.ص. 57 ـ58
[24] القدس، ص.ص. 55 ـ 56
ومن هذه الاستعارات استعارة "الصحراء" ؛ وقد استلهمها المجاطي في دار لقمان 1965،
ص. 36، قراءة في النهر المتجمد، ص. ص. 41ـ43. القدس.57ـ58