قراءة في رواية عبد الله طنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

د. سعيد الغزاوي*

[email protected]

هذه قراءة في رواية الدكتور عبد الله الطنطاوي التي وعدت بها في مراسلة سابقة :

من نماذج الأدب المثالي الرفيع رواية " عينان مطفأتان وقلب بصير " للروائي الدكتور عبد الله الطنطاوي .

كل من تبنى نظرية الأدب الإسلامي وحاول الانخراط في التجارب التطبيقية ، يحاول التوفيق بين الواقعية التي يمثلها ما يعيشه الإنسان والمجتمع في العالمين العربي والإسلامي ، والمثالية التي يدعو إليها الإسلام قرآنا وسنة . وهو ما سماه الشيخ يوسف القرضاوي في الخصائص العامة للإسلام بالواقعية / المثالية .

والسياحة في ما أنتجه الأدباء العرب والمسلمون ، خصوصا من تبنى نظرية الأدب الإسلامي ، تثبت أنه يصعب تمثل تلك الخصيصة التي دعا إليها الشيخ القرضاوي ، وحاول المفكر محمد قطب توضيح الطريقة التي ينبغي الانطلاق منها في التصوير الواقعي للإنسان حين قال : " إن الواقعية الإسلامية على استعداد لأن ترسمه بأمانة كاملة ، بكل ما فيه من نقائص وضعف وخسة وهبوط .. ولكن على هذا الشرط : على أنها نقائص وضعف وخسة وهبوط . لا على أنها الأمر الواقع الذي لا مفر منه و لا أمل في الارتفاع عليه... إنها تصور الواقع الحادث .. ولكنها تصوره مقيسا إلى ما ينبغي أن يكون عليه البشر في حياتهم السوية " " منهج الفن الإسلامي " ص 62 . وهو بهذا التوضيح يشير إلى أدباء كثيرين انزلقوا إلى تصوير بعض لحظات السقوط البشري بشكل مثير للغرائز يقترب مما ننتقده في الروايات الغربية أو العربية المتأثرة بالغرب . ومن أمثلة المنزلقين أشير إلى روايات المرحوم نجيب الكيلاني : فرغم تخصيص الدكتور حلمي محمد القاعود كتابا لتمجيد الواقعية الإسلامية في رواياته ، باعتبارها تنتقد الفئة الظالمة و الأفراد الظالمين أيا كان انتماؤهم . " " الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني " ص 16 . ورغم دفاع نجيب الكيلاني عن هذا الانزلاق لأنه لا ينبغي النظر " إلى عدد السطور أو الصفحات التي تصور اللحظات الساقطة الخاطئة في حياة المرأة الفاسدة أو الرجل الفاسد ، ولكنها تعتمد على مدى الأثر الذي يتركه العمل الأدبي في نفس المتلقي " " مدخل إلى الأدب الإسلامي " ص 112 . إلا أن أغلب قراء رواياته حتى من المؤمنين بالأدب الإسلامي عابوا عليه جرأته الزائدة في التصوير الواقعي للمرأة .

" أما رواية " عينان مطفأتان وقلب بصير " للدكتور عبد الله الطنطاوي فتفاجئك بهذا العالم المثالي الذي تصوره من فصلها الأول إلى فصلها الحادي عشر والأخير فكأنها تصور الواقع الحادث .. ولكنها تصوره مقيسا إلى ما ينبغي أن يكون عليه البشر في حياتهم السوية ، كما ورد في الرؤية التنظيرية السابقة لمحمد قطب :

فالشيخ / الفتى صالح بطل الرواية بامتياز يقود الأحداث ويتحكم فيها مذ كانت سنه الثانية عشرة ، يقود الحاج فاتح إلى حيهم حيث يسكن والده المزرعاوي ، ويوجه الأحداث نحو تصوره المثالي للمجتمع : مبنيا على التراحم والتعاون وحب الخير ، والعناية بالفقراء والمعاقين ، ببناء معهد ديني خاص بهم يرعاهم وينمي قدراتهم . ثم بناء مركز الأبرار الذي يقدم خدمات مجانية لكل المحتاجين.

ما بين سن الثانية عشرة عمر الشيخ / الفتى صالح في الفصل الأول ، وزواجه وحجه في الفصل الحادي عشر والأخير من الرواية ، تتناسل الأحداث لتشكل داخل قريته نموذجا للمجتمع المثالي الذي يصبو إليه كل مسلم :. وكل من في هذا المجتمع المثالي يسعى للخير بقيادة فكرية نيرة من الشيخ / الفتى صالح ، وتمويل متواصل من السفير المتقاعد الحاج فاتح .

تتوقع عند هذه السياحة في الرواية أحداثا معقدة أو مفاجآت ، وتناقضات بين الشخصيات ، أو تحولات في مسار الأحداث من الفرح إلى الحزن ، ومن الضحك إلى البكاء ، لكن شيئا من هذا لا يحدث . فتمتلئ نفسك فرحا وبهجة داخل عالم مثالي مما ينبغي أن يكون عليه البشر في حياتهم السوية حسب العبارة الدقيقة لمحمد قطب التي ألمحنا إليها سابقا :

الشيخ / الفتى صالح تظهر عليه علامات النبوغ رغم فقده البصر ، أو عينيه المطفأتين ، حسب الوصف البليغ للراوي . يقابلها في طباق بلاغي جميل قلب بصير يغطي على تينك العينين المطفأتين ، ويوجه صاحبه ، بل يوجه القرية بجميع أفرادها ، إلى تحويلها من قرية فقيرة مستكينة إلى حالها ، إلى قرية يتضامن أفرادها بحكمة وبصيرة هذا الفتى ورؤيته الثاقبة ، وعطاء متواصل للمحسن الحاج فاتح .

لا تشذ عن قاعدة الرتابة في سير الأحداث سوى حادثة سقوطه على الأرض التي أفقدته وعيه ، لكنها لم تصبه بأي أذى ، وجلبت له صداقة الطبيب الذي كشف عليه في المستشفى ، حيث التزم وزوجه ووالدته بالعمل التطوعي في مركز الأبرار الخيري عند افتتاحه . لنتابع أسلوب السارد في التعبير الموجز عن هذا الحدث :

" نقل الطبيب عينيه بين الوزير والشاب المريض . ثم قال :

- أنا سعيد جدا بما أسمع ، ولعل هذه ( الوقعة ) المباركة يا صالح ، تجر خيرا كثيرا .

قال صالح في حيوية :

- أتمنى أن أقع كل يوم مثل هذه الوقعة ، إذا كان المشروع سيكسب عضوا عاملا فعالا مثلك يا دكتور .

قال الدكتور :

- صدق من قال : رب ضارة نافعة ، وسوف تفرح أمي وزوجتي بهذا المشروع .. سوف تقدمان له الكثير .

قال صالح :

- وأنت يا دكتور ، أكبر من كل مال .. ستكون ثروة لهذا المشروع . " ص 127 .

في مثل هذا العالم المثالي ، مما ينبغي أن يكون ، تتناسل الأحداث : من التفوق الدراسي للشيخ / الفتى صالح وحصوله على الدرجات العالية في دراسته الثانوية ثم الجامعية إلى حصوله على الدكتوراه ، إلى متابعته أشغال المعهد الخاص بالعمي ، إلى بناء مركز الأبرار ، إلى زواجه من بنت الحاج فاتح " غالية ، إلى الفصل الأخير الذي يحج فيه مع زوجته ، وبعد عودتهما ينصرفان إلى العناية بالمركز ، هو في حقيقة الأمر نواة للمجتمع المثالي ، كما ينبغي أن يكون ، حسب عبارة وتصور محمد قطب . لنختم بعبارة من الفصل الأخير من الرواية ، تختصر التصور العام الذي تنطلق منه وتسير على هديه إلى آخر سطورها : " هكذا كان الشيخ صالح لا يفوت مناسبة إلا ويستثمرها للصالح العام ، من أجل إقامة مجتمع سليم ، تسوده المحبة ، ويتعاون أبناؤه على البر والتقوى ، وقد جعل من مركز الأبرار مجتمعا صغيرا منتجا ، يعمل من فيه كخلية النحل في الحب ، والتعاون ، والحركة ، والإتقان . فقد جعلهم متحابين متعاونين ، متقنين . والشعار المعلق في أرجاء هذا المركز ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " .

هكذا تكون خاتمة الرواية فرحا في فرح ، وتعاونا في تعاون ، وحبا في حب . وهو المجتمع المثالي الذي يصبو إليه كل أديب مسلم يحس بمسؤولية رسالة الأدب التي يتولاها بما وهبه الله من موهبة الأدب وفطرة الإسلام الصافية . فهنيئا لأديبنا الودود الدكتور عبد الله طنطاوي روايته " عينان مطفأتان وقلب بصير" التي تستحق أن تكون نموذجا للأدب المثالي كما نظر وينظر له المؤمنون بالأدب الإسلامي تنظيرا وإنجازا.

              

* * أستاذ النقد الأدبي

كلية الآداب ابن مسيك /جامعة الحسن الثاني المحمدية