عملية القراءة : مدخل ظاهراتي

د.محمد سالم سعد الله

عملية القراءة : مدخل ظاهراتي *

المؤلف : وولف جانج آيزر

ترجمة : د.محمد سالم سعد الله

[email protected]

تؤكد النظرية الظاهراتية في الفن بشكل كبير ، على الفكرة القائلة أنّ العمل الأدبي يأخذ في الحسبان النص الحقيقي وحسب ، فضلا عن أنّ هناك جوانب أخرى تسهم في استجابة النص بدرجات متساوية .

ويضع ( رومان إنكاردن ) المعرفة في مواجهة تركيب العمل الأدبي ، أي مواجهة الطرائق التي يدرك بها النص ، وذلك من خلال وضع بنية النص الأدبي في مواجهة تلك الطرائق التي يدرك بها .

وقد يُعرض النص برؤى مختلفة ، وتعمل تلك الرؤى على تسليط الأضواء لكشف النصوص الأدبية ، وتوصف بأنّها عملية إدراك .

ومن خلال ما سبق يمكن القول : إنّ للعمل الأدبي قطبين : ( فني وجمالي ) ، يشير الفني إلى أنّ النص هو إبداع الكاتب ، وهو عبارة عن عناصر فنية كونت النص ، ويدرك الجمالي من لدن القارىء ، ولذلك فالعمل الأدبي لا يتماثل تماما مع النص ، ولا مع إدراكه ، فهو متوسط بينهما .

إنّ للعمل الأدبي أهمية أكبر من أهمية النص ، فالنص يكون حياً عند إدراكه ، والإدراك بأي شكل من الأشكال هو تكوين فردي مستقل عن القارىء ، لأنه يقع تحت تأثير أنماط مختلفة ، إنّ وجود العمل الأدبي يتطلب نصا وقارىء ، وهو ما يجعل للعمل الأدبي وجودا وحياة ، وهذا الوجود لا يحدد بدقة ، ولكن يبقى في الحقيقة وجوداً ضعيفا ، لأنه يشخص حقيقة النص وفردية القارىء .

إنّ واقعية العمل الأدبي تعطي أهمية للنص ، إذ تجعله طاقة حركية ، ولهذا فان هناك شرطا مسبقا لبعض التأثيرات التي لها نصوص مختلفة.

وقد يقدم القارىء مدركات عدة قدمت له من لدن النص ، وتعمل تلك المدركات على ربط الخطوات والرؤى بعضها مع بعض ، وقد تؤدي هذه العملية في النهاية إلى إيقاظ إستجابات نفسيـة ، وكشف بعض السمات الحركية المتلازمة للنص .

إن التحليل الظاهراتي يعمل على تفحص الجمل المتشابهة المتفاعلة مع بعضها ، ولذلك أهمية خاصة في النص الأدبي ، وأن النصوص التي لا تتطابق مع حقيقتها الموضوعية لا قيمة لها ، إنّ العالم الفردي يقدم بوساطة النصوص الأدبية ، التي تتكون من الجمل المترابطة عمدا ـ كما أسماها إنكاردن ـ .

وقد ترتبط الجمل مع بعضها بطرائق عدة ، لتشكل بالتالي وحدات أكثر تعقيدا ، تعطي تراكيب متنوعة من : ( قصة قصيرة ، ورواية ، وحوار ، ومسرح ، ونظرية علمية ، ... ) وهذا التركيب قد يعطي في التحليل له عاملا خاصا مستقلا عن غيره ، بأجزاء وعناصر مميزة له ، وقد تعمل هذه التنوعات في الأجزاء على ربط الجمل بتعمد ، أي أن تكون مترابطة تماماً بتعمد ، ولا سيما في الجمل المعقدة ، وهذه العملية تشكل العمل الأدبي ، ويسميه ( إنكاردن ) العالم الذي قُدِّم في العمل الأدبي .

إن العامل السابق لا يمر أمام عين القارىء كالفلم ، لان الجمل عناصر ذات مكونات عدة ، وهي تكون أحكاما وملاحظات ، تعمل على إيصال المعلومات ، وتقوم بتأسيس مدركات عديدة في النص ، ولكنها تبقى عناصر ، ولا تشمل النص كلّه ، وهذه العلاقة المترابطة بمفردها أقل وجودا من نظامها ، لأن هذه الجمل ليس لها معنى لوحدها ، ولكن يتكون المعنى بترابطها ، وتأخذ معناها الحقيقي من خلال هذا الترابط .

كيف يدرك القارىء الترابط بين الجمل ؟ يدرك القارىء ذلك عن طريق فهم أقطاب القراءة ، التي تمكنه من فهم النص وتدبره ، وتفاعله معه ، وعندما تكلم ( إنكاردن ) عن قصدية الجمل المترابطة أدبيا ، قال : إنّ صناعة الجمل أو إيصال المعلومات في الجمل الآن ، هو محدد بعملية الكفاءة لدى القارىء ، فالجمل لا تتوقف على عرضها ، لأن ذلك منافٍ لها بوصفها أفكاراً حية ، لكن بتكملتها نفهم بعض الشيء الكامن وراء القول الحالي ، وهذا ينطبق على كل الجمل في الأعمال الأدبية ، وقد يتحقق الغرض من خلال التفاعل الحاصل بين الجمل ، وهذا يعطي قيمة خاصة للأعمال الأدبية ، وأنّ هذه الجمل لها طاقات رصدية كشفية تغني النص بالمعلومات ، وتعطي علامات لأشياء مقبلة آتية لتراكيب تنبىء بمضمون معين ، وهذه التراكيب تدير حركة النص ، ويظهر محتواها في النص نفسه ، وكما رأينا سابقا إنّ عملية القراءة يمكن أن توصف بأنها ( ناظور ) لعلاقات وأشياء وصور مختلفة ، إنها ( كيلسكوب ) ، فهي تركيب ذات أبعاد مختلفة ، وعلاقات ونيات مسبقة ، وإعادة جمع ، إنّ كل جملة تحوي على رأي مسبق للجملة الآتية وتشكل نوعا من الاستقراء ، وقد تُغيّر رأيا مسبقا ، أو نية مسبقة ، وهذا الرأي الجديد يغير الرأي السابق ، وهذه العملية كلها تمثل إنجازا للطاقة الكامنة للحقيقة غير المعبر عنها للنص ، ولكن هذا يظهر تنوعاً كبيراً للوسائل المعتمدة ، التي يكون لها وجودا بوساطة بعدها المرئي .

إنّ عملية الحدس واستعادة الأحداث بأي شكل من الأشكال ، لا يشير إطلاقا ولا تتطور بشكل انسيابي ، وقد لفت انتباه ( إنكاردن ) إلى ذلك ، وأشار إلى حقيقة مهمة مفادها : أننا إذا غرقنا في إنسابية الجمل ، وأكملنا فكرتها سنستمر في فكرة الجملة الأخرى ، وهي مرتبطة بسابقتها ، وبذلك ستسير عملية القراءة دون عناء ، وإذا لم يكن للجملة التي قرأناها للتو علاقة بسابقتها سيؤدي ذلك إلى عائق في التفكير ، وسيؤدي إلى خلق فجوة تكون مرتبطة قليلا أو كثيرا بالمفاجأة التي تثير الانزعاج والتذمر .

وإذا أردنا الاستمرارية في القراءة يجب تجاوز هذا العائق ، الفجوة التي تعيق انسيابية الجمل في نظر ( إنكادرن ) تـأتي صدفة وتعد عيبا ، وهذا نموذج تقليدي لفهم الفن ، وإذا عدّ أحد أنّ تتابع الجمل بتدفق مستمر سيجعل الحدس المنبثق معروفا من الجملة التالية ، فهذا إحباط في التوقع ، لأنه سيثير إحساسا بالسخط .

ومع هذا فالنص الأدبي مليء بتحولات فكرية ، وانعطافات غير متوقعة ، واحباطات فـي التوقع ، وحتى في النصوص البسيطة ، يكون هناك نوع من العوائق ، وذلك بسبب عدم وجود نص يقال بصورة كاملة تماما ، ومن خلال الحذف تحصل القصة على حركيتها ، وبهذا الحال قد تنقاد إلى اتجاهات غير متوقعة ، وهي لا تعطي الفرصة المناسبة لقدراتنا الذاتية في ملء الفراغات المتروكة من النص نفسه .

ولهذه الفراغات تأثيرات مختلفة في عملية الحدس ، وفي عملية استعادة الأحداث ، وعلى الصورة في أبعادها المرئية ، لأن هذه يمكن أن تملىء بصور مختلفة ، لأنها قد ترتبط بكيفيات مختلفة ، ولهذا السبب فللنص طاقات كامنة ، وقدرة على معطيات مختلفة ، ولا توجد قراءة واحدة تستنفد كل القراءات ، لأن كل قارىء بمفرده سيملىء هذه الفراغات بطريقته الخاصة ، وبهذا يبعد كل الاحتمالات الأخرى الواردة أثناء القراءة ، وهو الذي يقرر كيف سيملىء الفراغ .

وبينما سنتخذ قرارا لذلك ، سنكشف حركية القراءة وحيويتها ، وأن عدم نضوب النص سيجبر القارىء على فهم النص هكذا ، وعدم فهمه بطريقة أخرى ، ومن الملاحظ أنّ هذه العملية غير واعية مع النصوص القديمة ، ولكن النصوص الحديثة قد تستغل بشكل متعمد ، لأن بعض الأجزاء قد تثير الانتباه بشكل كبير ، وقد تستغل للبحث عن الروابط التي تجمع بين تلك الأجزاء .

وهذا يعني أننا نعقد السلسلة في بحثنا عن الروابط ، وفي مثل هذه الأحوال سيشير النص وبشكل مباشر إلى اهتماماتنا ، التي ستكشف بعملية التفسير وهو عنصر أساسي لعملية القراءة .

وعملية القراءة مع جميع النصوص هي عملية انتقائية ، والطاقات الكامنة في النص تقدم قراءات لا نهائية لكل فرد ، وقد جاءت هذه الفكرة من الحقيقة ، والقراءة الثانية لقطعة أدبية تقدم انطباعا مختلفا عن القراءة الأولى ، وقد يكون السبب في هذا اختلاف ظروف القارىء ، ومع هذا فالنص فيه تنوعات كثيرة ، ففي القراءة الثانية تظهر أشياء على صور جديدة ، وأشياء أخرى قد تصبح أكثر غنى .

              

* هذه النص مترجم من فصل : ( عملية القراءة : معالجة جديدة في التاريخ الأدبي ) ، للناقد الظاهراتي ( وولف جانج آيزر ) ، ضمن كتاب :

( Modern Literary Theory , Philip Rayce , London , Blach Well , 1990 : 97 – 101 . )