التأصيل .. على شواطئ الاثنين
التأصيل .. على شواطئ الاثنين
أضاء فأشاد دون أن يمدح، ولاحظ فرصد دون أن يجرح
بقلم: صبري عبد الله قنديل
اعتمدت الثقافة المصرية في انطلاقاتها وإشراقاتها الإبداعية بامتداد تاريخها على الجهود الفردية لمبدعين تميزوا في ريادتهم، حيث استطاعوا أن يقدموا مشروعات إبداعية لا يمكن أن يضطلع بإنجازها إلى مؤسسات كبرى، فأثروا الثقافة العربية على وجه العموم، وصارت إنجازاتهم علامات مضيئة في تاريخها.
والمثقف التركيبي أو العضوي الذي يمضي على هذا النهج يتكئ على تجربة ثقافية عميقة راكمت لديه خبرات معرفية تجعله قادرا على المشاركة الفعالة في مجالات إبداعية متعددة نظرية وتطبيقية.
نقفز بالإشارة من العملاق (عباس محمود العقاد) كمثال للتميز والندرة، إلى نموذج نبيل في مناخ وسياق مختلف، هو الشاعر أحمد فضل شبلول، الذي لم يتوقف طوال أكثر من ثلاثين عاما عن الإبداع الشعري والتواصل النقدي مع عطاءاته جنبا إلى جنب مع القصة والرواية والكتابة للأطفال، بامتداد المشهد المصري والعربي، إضافة إلى مشاركاته المتواصلة مع الواقع الثقافي، ثم في تفعيل النشر الإلكتروني، الذي انتهى بتأسيس "اتحاد كتَّاب الإنترنت العرب"."
وفي كتابه الجديد "على شواطئ الاثنين .. في القصة والرواية" تتبدى نبالة المثقف جلية في إيمانه العميق بأهمية التأصيل للتجارب الفردية والجماعية الصادقة في ممارسة النشاط الثقافي والإبداعي، حيث أصدر من قبل كتبا عن تجارب إبداعية لشعراء وكتاب من الجزيرة العربية، كما شارك ولا يزال بجهوده النقدية، في متابعة بعض الإبداعات القصصية والروائية، التي صدرت في كتب عن "ندوة الاثنين"، التي كانت ولا تزال رغم الصعاب، مستمرة في متابعة إبداعات عشرات الكتاب ونشرها في إطار إمكانات بالغة التواضع، لكنها تؤطر على مستوى المناقشات والإصدارات لتلك الأعمال التي وصلت إلى عدة قوائم لأعداد كبيرة بلغت ما ضمته آخر قائمة خمسة وثلاثين كتابا، ناهيك عن إصدار خمسة وأربعين عددا من مجلة "نادي القصة" بالثغر، تبارى على صفحاتها بامتداد هذه الأعداد، أعداد كبيرة من كتاب القصة في مصر، ومعهم العديد من النقاد، فأسهمت بشكل واضح في إثراء الحياة الأدبية بالإسكندرية، بإشراف الناقد المثابر عبد الله هاشم، الذي وهب حياته لتلك الرسالة النبيلة منذ ستينيات القرن الماضي، ولحقه عدد من الكتاب والنقاد ليشاركوه في مواصلة هذا العمل النبيل.
* * *
وقد جاء كتاب "على شواطئ الاثنين" ليكون تأصيلا أرخت مقدمته لتلك الجهود بشكل عام، وهي تمهد للدراسات التي ضمها عن ست مجموعات قصصية، هي: "القلادة" لبشرى أبو شرار، "أبجدية الدم" لتهاني عمرو مرسي، "إلا .. الليل" لفؤاد الحلو، "امرأة من برج القمر" لمجيدة شاهين، "على حافة الحلم" لمحمد عطية محمود، "الأمير الذي يطارده الموت" لمنير عتيبة، إضافة إلى أربع روايات، هي: "الدخول في الكابوس" للشربيني المهندس، "عزيزي طه" لرجب سعد السيد، "السمندل" لفؤاد الحلو، "السقوط في دوائر الانتظار" لفرات عبد الله.
مزج الناقد في مقارباته للأعمال القصصية والروائية بين النهج الانطباعي والتحليلي في وقت واحد، على اعتبار أنه يؤصل لتجربة تميزت في جماعيتها طوال عدة قرون، وفي نفس الوقت يضيء أعمالا تحمل نصوصها بشارات الأعمال الأولى عند أدباء، إلى جانب أعمال قطعت خطوات جادة على طريق الرسوخ والتحقق الفني عند آخرين.
نتوقف مع أمثلة لمقارباته والتي بدأها بمجموعة "القلادة" للكاتبة الفلسطينية بشري أبو شرار، حيث اكتشف أنها مجموعتان، تتناول قصص الأولى فلسطين الأرض والمقاومة والحياة، تحت نير الاحتلال، والثانية تتناول الحياة المصرية في الإسكندرية حيث تعيش الكاتبة الآن، ويلعب الزمان والمكان دورا كبيرا رغم ورود جمل مالت للشعارية، وتسلل بعض ألفاظ العامية المصرية إلى لغة القص.
أما مجموعة "امرأة من برج القمر" للأديبة مجيدة شاهين، فقد رأى أن الكاتبة انتقلت عبرها إلى الواقعية، فقدمت قصصا متميزا عما كانت تكتبه من قبل، أي أن الناقد يرصد في قراءاته المتعمقة مستويات التطور الفني لدى هؤلاء الأدباء، وهو ما يعني أنه لا يكف عن المتابعة للمعطيات الإبداعية.
وبينما هو يتناول قصص مجموعة "الأمير الذي يطارده الموت" للأديب منير عتيبة، يجد نفسه أمام عدة أسئلة يطرحها إجرائيا، ثم يجد إجاباتها كنتيجة في مقاربته للقصص، لكنه يتوحد مع رواية "السمندل" للكاتب فؤاد الحلو، وقد اختار لدراستها عنوانا بالغ الدلالة "من مغرب العرب إلى كوبري التاريخ"، لأنها رصدت التداعيات التي بدأت بسقوط الأندلس، وما تلاها من سقوط ألف أندلس أخرى في أعقابها حتى لحظتنا الراهنة. والتوحد هنا هو توحد حزن المثقف الذي يتأمل تاريخه، وهو يتصدع وتتسلل من ثغراته الأطماع في الهوية والمقدرات، بعدما فقدت الأمة قدرتها على الردع وحماية ذاتها من الاجتياح، لهذا قامت الرواية على منظور تاريخي / واقعي / سياسي، وارتكزت في بنائها على زمنين، الأول عكس السقوط الدلالي لآخر معاقل الأندلس ـ غرناطة ـ والثاني يعكس مردودات الراهن العربي وتداعياته، لذلك جاءت صفحات الرواية محملة بأسماء لأماكن ومدن كثيرة أندلسية ومغربية ومصرية، وصلت إلى أكثر من ثلاثين مكانا ومدينة، كما رصدها أحمد شبلول، والذي حدد في هذا الإطار إلى أي المدارس تنتمي هذه النصوص، وهو يحلق معها من خلال مقارنات نظرية وتطبيقية، أو تحليل استقرائي لبعضها بحسب طبيعة ومستوى كل نص، لذلك جاءت المقاربات النقدية معتمدة على جمالية العرض وفقا لما انطوى عليه النص من تجليات وإخفاقات، أي أنه أضاء فأشاد دون أن يمدح بما ليس يستحق، ولاحظ فرصد بعض الإخفاقات دون أن يجرح بما ليس بحق، وهو بهذا الجهد النبيل أصَّل لنشاط حقيقي وجاد، كانت هذه النصوص هي ثمرته، كما أصَّل كذلك لسمات التطوير الفني التي تحققت فيها.