القصة القصيرة تحت المجهر

القصة القصيرة تحت المجهر

سعيد محمود

[email protected]

لماذا أقرأ قصة ؟

سؤال يبدو ساذجا للوهلة الأولى ؛لأن الإجابة عنه بدهية : تحصيلا للمتعة و الفائدة المعرفية.

لكنّ السؤال يظلّ مطروحا و بإلحاح وقد عجّت ساحة السرد بقصص طلسمية ، يكتنفها الغموض و يتجاذبها الخيال المُغرق في الضبابية و الرمز المتشعّب الدلالات ما يبتعد بالقصة عن الهدف الذي رُويَت من أجله .

تتشارك عدة عوامل في الإجهاز على القصة فنّيا و التطويح بها في مهاوي الإبهام و الإيهام و الإهمال منها :

1-    تأثّرالكاتب عاطفيا بشخوص قصّته و انفعاله الشديد بسلوكاتها و معايشتها عبر الخيال و أحلام اليقظة ما يجعله متسرّعا في نقل الصور و المشاهد على متن لغة مفككة و أسلوب متعثّريجنح بالقارئ إلى دروب جانبية وعرة تنتهي به إلى التشتّت و الضياع ،فيُعرض عن القصة و عن كل ما ينتجه كاتبها من إبداعات فيما بعد.

2-    رغبة الكاتب في إبراز عضلاته و إثبات فرادته و سعة علمه و ثقافته من خلال اختيار المفردات الصعبة الغامضة و البائدة أحيانا ،ما يُحوج القراء المثقفين منهم و أنصاف المثقفين إلى إجهاد العيون بحثا في القواميس الصفراء عن معاني المفردات المضمّخة برائحة العفن و ( النفتلين )   وهذا الجهد وإن كان حافزا للقارئ على البحث و التنقيب و إغناء مخزونه اللغوي إلا أنه يكون أكثر نفعا في المقالات العلمية الموضوعية ،لا في قصة أدبية شائقة تبعث المتعة و الفرح و الانشراح في نفس القارئ إضافة إلى ما تطويه في ثناياها من معارف و أفكار .

3-    تلذّذ بعض الكتّاب في الارتحال إلى مجاهل الخيال مُحلّقين بعيدا عن الواقع و قضاياه،متكئين على الأساطير فيما يشبه الروايات الإغرابية التي تطرق باب عالمٍ لا وجود له إلا في خيال الكاتب و أحلامه .

4-    الحشد المتعمّد للصور البيانية و إقحامها بتكلّف في غير أماكنها المناسبة ما ينوء بذهن القارئ ويجعله ينصرف إلى تحليل تلك الصور و إعادة ربطها بالمعنى المباشر المتعلّق بأحداث القصة و مواقف شخوصها.لأن الصور المجازية ليست هدفا بحدّ ذاتها ،بل وسيلة للتوضيح والتخييل والتجميل و رسم المشهد صافيا أمام القارئ؛ كما أن الإكثار منها لا يُعتبر  دليلا على الإبداع بل على تصنُّع الكاتب و تفذلكه.

5-    تناول المواضيع و الأفكار المطروقة من قبل، دون تجديد في الأسلوب و دون أن يضيف الكاتب إلى الأحداث و الحبكة شيئا من خياله و عاطفته و ثقافته،فتغدو القصة نسخة طبق الأصل عن قصص تشبهها وتكرارا ممّلا يجعل القارئ يتنبّأ بالنهاية وهو بعدُ في المقدّمة ، فيشيح بوجهه عنها .

6-     توهّم الكاتب أنّ الحداثة هي في تجريب الأساليب المستوردة من الخارج  فيروح يفجأ القرّاء بقصص مبتورة ، مفككة ، مُغرقة في السوريالية و الترميز ؛فتبدو أقرب إلى قصيدة النثر،أو إلى التداعيات الهذيانية غير المترابطة منطقيا ؛والتي يعجز المثقفون عن فهمها؛و اللآفت في الأمر أنّ القاص حين يُسأل عن سبب إعراض القراء عن قصّته الغامضة،يُجيب بكل ثقة :ليس ذنبي إن لم يفهمني القرّاء ،و لست مستعدّا للنزول إليهم،بل عليهم الارتقاء بثقافتهم إليّ.و هكذا تعلق القصة في منزلة بين المنزلتين تنأى بها عن القارئ و الكاتب معا و تحشرها في بطن كتاب يعلوه الغبار على رفوف المكتبات أو يقرضه الفأر في المستودعات الرطبة .   

7-    طغيان العقل والفكر على العاطفة في القصة أو العكس ؛فإن طغى العقل تحوّلت القصة إلى مقالة موضوعية تلقينية إرشادية ،وإن طغت العاطفة انقلبت القصة حينا إلى مرثاة تراجيدية تسدّ نفس القارئ و تعتّم صدره وحينا إلى ملهاة كوميدية هي أشبه بنكتة طويلة سمجة .

8-    عدم استيفاء القصة العناصر الأساسية الناهضة بها إلى مصافّ السرد الماتع (و التي يمكن استنتاجها من هذه المقالة .)

9-    عدم تمكّن الكاتب من حيازة المؤهلات الضرورية التي تنصّبه قاصًا مُجيدا كالموهبة المُبدعة و الثقافة الثرّة و اللغة السليمة و الأسلوب السلس و الخيال المتوثّب و العاطفة الإنسانية الجيّاشة و النظر الثاقب إلى بواطن الأمور و معايشة القضايا التي تهمّ القارئ و تقضّ مضجعه .

10-إقحام الكاتب نفسه في القصة كراوٍ عالم بكل شيء،سبّاق إلى اكتشاف الأحداث و المواقف فيوغل في مصادرة أدوار الشخصيات و يعرقل السيرورة الطبيعية للمشهد السردي محوّلا القصة إلى ميدان يصول فيه و يجول فارسا وحيدا أمام جمهور غائب.

11-استخفاف بعض الأدباء بعقول القرّاء وبثقافتهم ؛يروحون يشرحون المشروح و يبسّطون المبسّط في مباشرة فجّة تحوّل القصّة إلى بيان سياسي أو حزبي و تجعلها مناسَبة لإلقاء المواعظ و النصائح النابعة من تجربة طويلة ؛و يصل بهم الأمر حدّ الصراخ و العويل واللجوءإلى المبالغة و التهويل و التضخيم طمعا في استدرار عطف القارئ و تفاعله .

12-الإغراق في السرد المباشر الذي يُذكّر القارئ بمواضيع الإنشاء التي يكتبها طلاب المرحلة الإعدادية مركّزين على توصيل الفكرة التي تُلبس المواضيع ثوب التماثل و التطابق.

13-تحوّل القصة إلى فنّ أدبي آخر يُمسرحها من خلال الإسهاب في حوار مملّ بين الشخصيات أو يهيب بالقاصّ اعتلاء منبر الخطابة و إن كان أحيانا على لسان إحدى الشخصيات.أو يحوّلها إلى مقالة وصفية.

14-اعتقاد بعض الأدباء أنّ وصف القصة بالقصيرة راجع إلى قصر قامتهاومحدوديّة حجمها فيروح يختصر المشاهد مهرولا نحو خط النهاية مجتزئا حيث يجب الاسهاب مسرعا حيث البطء هو المطلوب ،حارما القصة روعة التناغم المنطقي الذي يعطي كل موقف حقّه دون تطويل مملّ أو تقصير مخلّ.

15-انقلاب القصة إلى أحجية طويلة يغلب فيها عنصر التشويق ما عداه من مزايا القصّ الجميل.

16-اختيار الكاتب مقدّمة متسرّعة تفشل معها القصة في جذب القارئ لمتابعة تطوّر الأحداث  و الشخصيات وصولا الى التنّهد مع الخاتمة .

17-عدم الدقّة في اختيار العنوان الذي يُعَدّ المُثير الأوّل و الأبرز من المنبهات التي تلفت انتباه القارئ و اهتمامه.

18-ملل الكاتب و تسرّعه في دلق خاتمة لا تتناسب والأحداث المندرجة في القصة أو تُجافي المنطق العقلي أو ما تعارف عليه البشر؛الأمر الذي يُحبط القارئ و يُشعره بالندم لإضاعة وقته في قراءة قصة لا تساوي في ميزان النقد ثمن الحِبر الذي كُتبت به .

19-قلّة خبرة الكاتب في تنظيم النص في فِقَرمتمايزة و في اختيار أدوات الترقيم الملائمة ؛ فيضع الفاصلة مكان القاطعة و النقاط المصفوفة أفقيا  مكان الكلمة المناسبة أو الأداة الصحيحة ،ما يجعل القارئ متعثرا في الفهم مضطرا إلى التحليل و التعليل ،باحثا عن مخارج التأويل مفضّلا هجر القصة و البحث عن البديل .

20-انتقاء الكاتب أدوات ربط لا تتواءم و سلامة المعنى أو النمط الكتابي المتّبَع، كاختياره أداة التفسير (أي) الخاصة بالمقالة في معرض السرد؛ أوالإكثار من روابط الاستنتاج( وهكذا– لذا– وبناءعلى - ) اللازمة للمقالات البرهانية ،رغبة في حرمان القارئ لذّة الاستنتاج و إخضاعه للتلقين المتعمَد.أو لجوء الكاتب إلى إثارة الدهشة باستخدامه الظروف الدالة على المفاجأة ( وإذ – حينئذٍ – و عندما –و بينما...)أو تحمّس الكاتب لإقناع القارئ بمواقف شخوص قصّته متوسّلا أدوات التوكيد لهذا الغرض( إنّ – أنّ – السين – قد مع الفعل الماضي....).

 عشرون عاملَ هدم قد يتضافر بعضها لتفشيل القصة ؛وقد يقوم عامل واحد منها بهذه المهمة و قد تتفاوت في أهميّتها،وقد يزيد عليها البعض عوامل أُخرى إلا أنها تبرز بوضوح ما يعتور القصة القصيرة من عيوب .