التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة 15
التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة
(15)
ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب
يقول بلقاسم الجطاري:" إلا أن التعبير عن ذلك الإشراق الممكن جاء في شكل تعابير جاهزة أو أوصاف قد تكون جامدة، لدلالاتها المباشرة. لكنها لم تنحط إلى درجة التقرير ، ولم تصل إلى درجة اللغة الإيحائية وذات الطابع التعددي للدلالة، إضافة إلى أن أغلب الدلالات ارتبطت بالعالم الطبيعي ، الشيء الذي جعل اللغة أقرب إلى التشبيه منها إلى الإيحاء. " [1]
فهل فعلا لم يصل محمد بنعمارة درجة الإيحاء والتعدد أو التحول الدلالي؟
لسنا في موقف المدافع عن موفق الشاعر، ولكن المتن المدروس لم يترك لنا حيزا لتفنيد القول أو تأكيده، ذلك أن النصوص التي قدمت نماذج لإيضاح عناصر وتجليات التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة نمو أفرزت جملة نتائج نلخصها كالتالي:
v إن الحاجة إلى هذا التحول في الدلالة ليس من قبيل الصدفة، أو أن الشاعر يأتي به قصدا لإبراز النص في صورة غير طبيعية وغير مفهومة. لكن الحقيقة أن المبدع يتعامل مع النص، الذي يجمع إلى جانب الدلالات مجموع الخطابات لتي يراها ( من الرؤية ) المبدع ويؤمن بها.
v الحاجة إلى ربط العلاقة بالمتلقي ، من حيث كونه قارئا نموذجيا يتلقى النص وينتج دلالاته الثانية ، ويحقق أفق الانتظار المتوقع منه. لأن النص المباشر والصريح لا يحتمل أكثر من معنى ، ولا يحتاج إلى محاولات للفهم والتفسير.
v ضرورة قراءة النص قراءة عاشقة، والعشق هنا يتكون عبر القراءات المتعددة للمتون الشعرية ، لصاحب الدراسة وللمتون المتفرقة الأخرى. لأن النظر في السياق الخاص ( نصوص المبدع) والعام ( النصوص الأخرى للمرحلة المدروسة ، والاتجاه الفكري والمعرفي).
v قراءة النص وفق آلية معينة، وهذا لا يعني كون المنهج المعتمد حاليا هو الأولى في كل القراءات، بل – كما سلف الذكر في مقدمة البحث – إن النص هو الذي يفرض نوع المعول المنهجي. لذلك فقراءتنا متن محمد بنعمارة أوحى لنا ضرورة اقتفاء أثر علم الدلالة، فبحثنا فيها، وقدمنا التحليل المرتبط بها، من جهة التحولات الدلالية، التي تعتبر سمة شعر محمد بنعمارة خاصة، والشعر العربي المعاصر عامة.
v الكشف عن أهم العلائق القائمة بين النظري والمنجز الشعري، وهذا ما دفعنا إلى استنطاق الحوار الذي تم مع الشاعر، واستنطاق مؤلَّفي الشاعر (الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر) و (الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، المفاهيم والتجليات ).
v تكريس مبدإ التوافق المنطقي بين الدلالة المعبر عنها والدلالة الثانية المتحولة، وربطها بأفق التجربة الشعرية ، ذلك أن المنطق يتطلب الوقوف عند المقومات السياقية التي تتطلب معرفة المعاني المعجمية وتشكيلتها المجازية.
v نفي صفة الغموض عن الشعر المعاصر، لأن الفهم الكلي للظاهرة الإبداعية وتحولاتها يفي بغرض البحث في المكونات الإيجابية التي تتيح الفرصة أمانا لإضاءة النص، وعدم الوقوف من بعيد للخوض في قراءة النص والقول بإبهامه. ولأن الشاعر عندما يتعامل مع عناصر خارجية (حقل الطبيعة مثلا ) إنما :" ليرتفع باللفظة الدالة على العنصر الطبيعي، كلفظة المطر مثلا، من مدلولها المعروف إلى مستوى الرمز، لأنه يحاول من خلال رؤيته الشعورية أن يشحن اللفظ بمدلولات شعورية خاصة وجديدة ." [2] وبذلك تنتفي مقولة الغموض ، ونصبح أمام نص ذي دلالات غير الدلالات المعروفة ، ويستوجب الدراسة والتمحيص.
v إن تعامل محمد بنعمارة مع تجليات التجربة الصوفية بأعلامها ومصطلحاتها ورؤاها، يعني أنه يتمثلها ويستفيد من خصوصياتها، كما أن ذلك لا يعني أنه يعيش التصوف ويمتهن سلوكاته، لأن ذلك مرتبط بالحياة الداخلية، وتعاملنا كان من وجهة النظر الإبداعية.
v اللغة في التجربة الصوفية لا تقف عند حدود السطحي، ولكن تصل درجة الكشف ، والكشف هنا صورة ثانية لتجلي البنية العميقة في النص. كما أن العمق في الدلالة والرمز صفتان متصلتان بالتجربة الصوفية، من حيث الانسياب في عمق الحقائق.
من كل ما تقدم نرى أنْ لا تناقض بين اللفظ والمعنى المترتب عنه، سواء أكان ينتمي إلى المعجم ومستوياته الدلالية، أم كان ذا بعد تحولي عن الوقائع. ونقول في زحمة التعاريف السالفة حول نظرية الدلالة وتحولاتها إن الأمر متعلق بمدى الاعتراف بسلطة الدلالة في توجيه اللفظ. كما أن:" المنطق الدلالي هو المسوغ لنا في عرضنا لقضية اللفظ والمعنى إذ نميز بين ضربين من الاستخدام لهذين المصطلحين. فثمة العلاقة بين اللفظة المفردة ومدلولها أي معناها المفرد، وهو الذي تدونه المعاجم، وتتصل به مجموعة من الدراسات للأصوات والصيغ والدلالة. وهذا يختلف عن استعمال ( اللفظ والألفاظ) مصطلحات عامة، وكذلك (المعنى والمعاني ) إذ تهدف إلى الإشارة إلى الأغراض أو الأفكار والقيم الاجتماعية والفنية." [3]
إذا كان محمد بنعمارة انسجاما مع رؤيته الشعورية والشعرية قد أتاح لنا فرصة تجلية عمق الدلالات، فإن البحث في هذا الاتجاه يحتاج إلى كثير من التبصر والبصيرة. ولعل الخوض في موضوع التأويل ومنه التأويل الدلالي ، يربك الكثير من الدراسات إن لم تكن وراءها القراءة العاشقة للمتن الشعري.
كما أن الشاعر لا يقف موقف المحايد من هذه الرؤية الدلالية، بل يحاول أن يكشف عن علاقة النص بالتأويل. ومحمد بنعمارة من الشعراء القلائل الذين ينظرون ويبدعون، فيكون إبداعهم نظرة موازية ومفسرة لاتجاهاته.
يقول في قصيدة ( التأويل .. يا من يسجد في محراب الله ) مناجيا النص الشعري :
أنت الطين وأنثاك النار
ووقتك ماء تنقله الأنهار
ونحن عبيدك / يا عبد الطين
ويا ملكا لا يملك نعلا
قال النص / إذا دخلوا
حذف الرمز أوائلها
ولْتدخلْ مملكة التأويلْ
يا عبدا لم يسجد في محراب الله
وكانت سجدته خاسرة
لم يسكرْ برحيق التهليلْ [4]
فكانت سجدة الشاعر التي كشفت عن رؤاه، وثمل من رحيق ذكر الله، وكان شاعر العشق، داخل مملكة الروح في الرياح وفي السحابة.
[1] - بلقاسم الجطاري: المكان وتجلياته الدلالية في الشعر المغربي المعاصر، ص- 28.
[2] - عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص- 219.
[3] - فايز الداية: الجوانب الدلالية في نقد الشعر في ق 4 ه، ص- 21- 22.
[4] - محمد بنعمارة : السنبلة ، ص- 80- 81.