المآسي، والسجون السياسية،
المآسي، والسجون السياسية،
والحب في الرواية العربية
ـ رواية "كما ينبغي لنهر"
لـ منهل السراج نموذجاً ـ
شاهر أحمد نصر
أصدر الأديب سمير روحي الفيصل كتاباً تحت عنوان "السجن السياسي في الرواية العربية" تضمن أهم الروايات العربية التي تتحدث عن السجون في البلاد العربية، وأرى مفيداً إضافة رواية "كما ينبغي لنهر" للمهندسة: منهل السراج إلى تلك الروايات. وقد اطلعت عليها مصادفة، وهي ـ النص الفائز بالجائزة الثالثة / الرواية/ جائزة الشارقة للإبداع العربي / الدورة السادسة 2002 ـ إصدارات دائرة الثقافة والإعلام ـ حكومة الشارقة ـ الإمارات العربية المتحدة / الطبعة الأولى 2003.
لم أتعرف مباشرة بعد على الكاتبة، مع الأسف، وقد ساعدتني شبكة الانترنت في الحصول على معلومات محدودة تفيد بأنّ: منهل السراج مهندسة وأديبة واثقة من امتلاكها لأدوات القص الفني الجاد والممتع. ولدت في مدينة حماة ـ سوريا، درست الهندسة الميكانيكية، وأصدرت مجموعة قصصية، ورواية "كما ينبغي لنهر"، ولها قصص منشورة في المجلات العربية، وفي شبكة الانترنت، وقد يكون لديها أعمال أخرى لم أنل حظ التعرف عليها بعد..
أرسلت قراءتي لرواية "كما ينبغي لنهر" إلى الأديبة الروائية منهل السراج، فوافتني مشكورة بتعليقها النقدي، وتدقيقها لقراءتي، ورأيت أن أنشر قراءتي، وتعقيبها في مقال واحد، بعد حصولي على موافقة الأديبة منهل، لعلّ ذلك يقدم بعض الفائدة والمتعة للقارئ.
تعالج منهل السراج في رواية "كما ينبغي لنهر" موضوعاً اجتماعياً وسياسياً حساساً، يصعب على الكثيرين الخوض فيه، وتجهد بأسلوبها الرشيق والشيق أن توقظ الضمير الحي، إن بقي هناك ضمير حي... وعلى الرغم من لغة التورية العميقة التي تستخدمها الكاتبة، وعدم ذكرها مكان حصول أحداث الرواية، فليس صعباً للقارئ أن يلاحظ أنّها تتحدث عن أحداث عاشتها مدينة عربية في ثمانينيات القرن العشرين. وهي تصلح لتأريخ تلك الفترة العصيبة، لولا أنّ الكاتبة، كما لاحظت، سطرت الأحداث من وجهة نظر، قد يلمس فيها بعض القراء، أحادية الجانب، كما لمست من قراءتي الأولية أنّها مع وصفها النقدي لتصرفات طرف أساسي محدد، وكان نقداً صحيحاً وضرورياً، إلاّ أنّها بالمقابل لم تقدم وصفاً نقدياً لتصرفات الطرف الأساسي الآخر في تلك المأساة، وإن ذكرت بعضها عرضاً، (وهذا ما سننوه عنه لاحقاً) فتسوقه في إطار تساؤل يحمل كافة التأويلات والتبريرات: "لا أحد يعرف لماذا أحرقت الفتيات علم بلادهن، أنزلنه من عليائه بجنون، بعصبية، بوجه محتقن فسقط فوق الماء الموحل الدائم التجمع أسفل درجات المنصة التي يحيين العلم منها ويرددن النشيد الوطني. أخذن يدسنه من جميع الجهات حتى تلوث بكامله، ثم هرعن إلى غرفة الصف نزعن وعاء المازوت عن المدفأة، ورجعن وسكبن المازوت فوق العلم الموحل، وأشعلنه. رحن يرددن بحناجر زرق، بوجوه محتقنة وقبضات غاضبة "يلا بره أبو شامة".ص96 ولعل هذا الأمر يفقد العمل بعض الموضوعية من حيث القيمة التأريخية، فالرواية مع صدق المشاعر، والعاطفة الصادقة التي تمتاز بها، لم تغطِ كامل اللوحة، لأنّ تعاطفها مع جهة معينة، ـ وهي الضحية، في المحصلة ضحية ذاتها والقوى التي ألبتها ضدها، وضحية الآخر والحالة غير السليمة السائدة ـ جعلها ترى، أو تقدم هذه الجهة مثالية، لم تقترف ذنباً، ولا خطأ...
أما النظرة الفنية إلى الرواية فتبين أنّ الكاتبة بارعة في استخدام تقنيات الكتابة الروائية الحديثة، وخاصة إجادتها استخدام تقنيات الزمن، وحسن استثمارها لما أطلق عليه النقاد: التناوب، التناوب المتزامن، الارتجاع، التضمين، الاستباق.. فها هي بطلة القصة فطمة في الصفحات الأولى من الرواية تتذكر كيف: "هدرت الطائرات الحربية فوقها، وهي مختبئة بين الأغصان العليا لشجرة الليمون الموجودة في أرض الدار.."ص14 وهي "لا تملك إلا أن تتذكر أكف أعمامها، وأصابعهم المنفرجة على آخرها مغطاة بدمائهم، حين قتلهم رجال أبي شامة، وأخذ أولادهم، فصاروا غائبين مع الغائبين، تفكر بأبي شامة: تراه يعلق صورته في قصره، كما هي معلقة حول النهر بتالوته الساقطة والباقية؟ لا تملك إلاّ أن تتذكر فارس النحات القادر، رغم كل الظروف، على أن ينحت أدق التفاصيل وأصعبها بصبر غير محدود، دونما انتظار لشهرة أو مال.."ص17 وتلاحقها صورة اعتقال الأطفال والأحداث: "تهاجمها ذكرى أحمد أصغر الشباب الذين غابوا، أحرق قلب أمه عليه، أمسكوا به: أنأخذه أم نتركه؟ بال الصبي على نفسه بانتظار جواب المعلم الذي كان يقود رجال أبي شامة، لكنهم دفعوه أمامهم طفلاً. يتردد بكاؤه وارتجافه، فكرت: تراه يعود؟"ص18 وتعرفنا الكاتبة على طقوس الصلاة.. المؤذن أبو رحمون.. "ساعتين على الأقل يرافقهم على سحورهم بأناشيده الخاشعة".ص26
التبرير الأيديولوجي عند بعض أعضاء الجماعة للأحداث:
وفقت الكاتبة في تعريفنا، في الرواية، بشكل غير مباشر، على الأساس الأيديولوجي الذي اعتمد عليه بعض أعضاء الجماعة لحشد الطاقات وخاصة الشباب والأحداث وراءها: "...أصوات الداعين للجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة تنفيذاً لوصية نذير الهارب، كانت أصواتاً حارّة. أصوات أطفال رقيقة ضعيفة، تناثرت في كل البيوت، أيقظت النائمين المتآلفين مع صوت أبي رحمون، أيقظتها وأخذتها مثلما أخذتهم". إذاً هو الجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة، وهنا ينتصب سؤال موضوعي حارٌ أيضاً، هل هذه المسألة تتطلب الجهاد؟! وأي نوع من أنواع الجهاد؟! هل تطلب سفك الدماء؟! وكيف تم إقناع أولئك الشباب بالذهاب إلى الموت على طريق ذلك الجهاد؟! تقدم الرواية الجواب بشكل لا لبس فيه: "تدافعت فطمة مع النساء إلى النوافذ كالعادة، لمراقبة خروج الصبيان من بيوتهم صافقين الأبواب الحديدية، مندفعين بثياب النوم الخفيفة، وبالأخفاف المنزلية ملبين النداء، يحكّون أصابع أقدامهم بعضها ببعض بتأثير "الشمطلس" (الشملاص) والقشب اللعين، فيما تسيل أنوفهم الحمراء ليختلط مخاطهم وعرقهم بقطرات المطر الخفيفة. كانوا يبغون الوسيلة، وسيلة العم نذير، إلى نيل الجزاء المرتجى "فالمبطون والمطعون وصاحب الهدم والشهيد في الجنة"، في الجنة حيث الأسرة المتقابلة وصحاف الفضة والذهب ولباس السندس، الوجوه نضرة والفضلات تخرج من الأبدان بالتجشؤ كرشح المسك".(ص98) فثمن ذلك الجهاد هو الجنة كما وعدهم قادتهم... دون أن يسال (الصبيان) أنفسهم من نصب هؤلاء القادة مستشارين لفتح أبواب الجنة لمن يشاءون؟!
نتعرف في الرواية على بعض مجريات الأحداث ودخول القوات للمدينة، فقائد الجماعة (نذير) يستعد للجهاد منذ مدة، وقد خزن الأسلحة لهذه الغابة: " كانت فطمة نائمة بين الفرش المتلاصقة، عندما فتح باب الغرفة في الثالثة ليلاً واقترب العم نذير من أذن الأخ الكبير هامساً أنّ الأسلحة مطمورة تحت شجرة النخيل في حديقة قبو القبو". "رأت المآذن زرقاء من شدة البرد، أصوات الداعين للجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة... كانت أصواتاً حارّة". وعندما خرج الصبيان إلى الجهاد كانت النساء اللائي يراقبن خروجهم "تحمل كل منهن، بمن فيهن فطمة، هويات الشباب بصور وجوههم الفتية وأعمارهم القصيرة حيث تنبه الخارجون إلى ضرورة ترك هوياتهم في أيدي أمهاتهم كيلا يورطون غيرهم (ذويهم) فيما أقدموا عليه، فقد كانوا متوقعين القتل".ص98 مما يدل على استعداد عام مسبق (للجهاد)... وتقدم الكاتبة لوحات فنية صادقة، حول تلك الأحداث تجعل القارئ يعيشها وكأنّها تحصل معه، ويتعاطف مع أبناء المدينة الذين يكتوون بنارها، فيرسم مصيرهم البائس تلك اللوحات المأساوية لحرب المدن: "كان الرجال يتركون رزقهم "داشراً" ويعدون خوفاً من رصاصة طائشة أو غير طائشة، يقول عبد الحكيم: كانت أغلب رصاصات أبي شامة طائشة. أصبحوا يؤرخون كثيراً من الأحداث من تاريخ الركضة كذا، أما الرجل صاحب دكان صابون الغار وترابة الحمام وزيت الخروع لتقوية الرموش، فيرجوها ألا تتحدث عن تلك الفترة كي لا توقظ ذكريات موجعة وذلاً شربه مع الجميع وصار في دمهم، عدا عن أنّه خائف مثل الجميع، يريدها أن تسكت كما يسكت ويسكتون، كي لا يدعوه رجال أبي شامة إلى فنجان قهوة، فيغيب ويتوه ذكره، مثل الغائبين".ص56
وتنوه الكاتبة إلى وجود بعض الأصوات العقلانية التي نصحت الجماعة بعدم خوض معركة غير متكافئة، دون جدوى: "في الفجر البارد الذي خرج فيه الصبيان لمواجهة أبي شامة، كانت أم الحب تركض من زاوية إلى زاوية في البيت، تجر الأطفال صارخة بالفتيات كي يختبئن، تنهر الصبيان، تأمرهم أن يرتدوا الفروات وتنهاهم عما هم قادمون عليه: أنتم لستم قدّ أبي شامة، عودوا، سوف يذبحكم ويقبركم".ص92 "ربما كان أبو فطمة محقاً في قلقه واضطرابه، فالجميع كان مرتبكاً بعد هجوم أبي شامة على الحارة... عاد أبو شامة برجاله وأسلحته الحديثة يلاحقونهم وهم يتراكضون من حارة إلى أخرى.. محتمين بجدرانها الضيقة التي تعينهم على الهروب والاختباء".ص99 "كانت الأماكن غامضة ومخيفة لرجال أبي شامة... غابوا في متاهاتها.. انحناءاتها وأسرارها العتيقة، كل هذا أغضب أبا شامة غضباً شديداً فأمر بتدميرها من الأرض ومن الجو".ص99 "أما حارة فطمة، الضفة الأولى والجسر الصغير بينهما، بما فيه الطاحونة وحارسها وحارة اللاجئين، حارة القلعة، وحاملي سلاح نذير ببيجاماتهم الرقيقة، فقد اكتفى بقتل معظم رجالها وهدم واجهات بيوتها ومئذنة جامع أبي رحمون".ص99
وكثيراً ما تستخدم الكاتبة كلمة (الصبيان) لدلالة على (المجاهدين) وتدل هذه الكلمة على عدم نضج حاملها فكرياً، وربما تريد الكاتبة انتقاد تلك الحالة، ومن ورط أولئك (الصبيان) في معركة غير محسوبة جيداً وغير متكافئة، وفرّ ناجياً بجلده... "من لم ينل من الصبيان الذين خرجوا للقاء أبي شامة، الجزاء المرتجى من الجهاد، عاد ناقماً هارباً خائفاً. كان الحلم هو الجنة أو النصر والسيادة بمسح أبي شامة وأهله (وليس جنوده) من الحارة. رددت أم الحب جملة لم ينسوها: هل يمكن لبيجاماتكم الرقيقة مواجهة بدلاتهم الثقيلة، وعمكم نذير ترككم وغادر بعيداً؟"ص99 " صدقوها بعد أن حدث الذي حدث، لم يخرج كل الصبيان، لكن من عاد منهم، عاد باكياً على موت أخيه أو رفيقه. لجؤوا إلى أحضان أمهاتهم قانطين من رحمة السماء التي أرسلت كل ما بوسعها من البرد كي يساهم مع الخوف في تيههم".ص100
ما بعد المأساة:
تصف الكاتبة ببراعة في لوحات فنية مؤثرة حال المدينة وأهلها بعد المأساة التي حلت بها "كانت الأماكن التي ملئت بالجثث ثم أفرغت: مستودعات دكاكين أقبية.. صامتة مدماة تستقبل صف النساء المنتظرات دورهن للتعرف على حذاء الزوج أو قميص الابن أو "بيجامة" الأخ.. فإن لم يجدن أثراً لهم يتفاءلن بعودة الزوج أو الابن أو الأخ، لكن بعد أن يشممن الدماء المتجلطة على الأرض أو الجدران خشية أن تكون دماء الأحبة. أم غالب التي دفنت ابنها لم ترفض إعطاء رجال أبي شامة أساورها، لكنهم قطعوا ذراعها، مثلما فعلوا مع النساء اللواتي رفضن إعطاءهن الذهب، لم يتمهلوا أن تشرح لهم كيف أنّ أساورها كانت مهر عرسها حين كانت عروساً نحيلة وصارت بصحة جيدة للسعادة التي عاشتها مع أبي غالب.. وقفت بذراع مقطوعة وهي تشكر الله أن لم يغتصبوها كما فعلوا بغيرها. كان رجال أبي شامة يدخلون إلى النساء في الظلام فيسلطون ضوء بطارية على الوجوه المتلاصقة وحين يعثرون على ضالتهم: وجوه فتيات صغيرات جميلات يسحبونهن من أمهاتهم ليغتصبونهن ويقتلوهن. ولم يفد الأمهات تمريغ وجوه بناتهن بالطين والشحار فقد كان جمال العين البريئة الخائفة يطغى".ص115
وبعد انتهاء الصدامات المباشرة بدأت حملة الاعتقالات والتصفيات بالاعتماد على نزوات الوشاة والمخبرين "... سرعان ما جاء الملثم أبو الكوفية، الذي كان يرافق رجال أبي شامة، وأشار بإصبع حيادية باردة إلى أبواب من خرجوا، قبض أجره من رجال أبي شامة وولى هارباً من انتقام محتمل في يوم ما. إشارة إصبع الملثم، كانت سبباً لكوارث لا تنسى في الحارة، عشر آلاف؟ لا، بين عشرة آلاف ضحية والأربعين ألف ضحية، مجال كبير والله أعلم".ص100 "نجا منهم العم جميل النسونجي، عبد الحكيم، كشاش الحمام، العم أبو سليم الجربوع، المختار.. أبو فطمة، فارس النحات الذي ستقابله فطمة في هروبها وهي تغسل قدميها مرتجفة من الخوف: أهذا دمي أم دم أعمامي؟ كان يحمل لوحاته المطعونة بحرابهم ويبكي، فتؤنبه: لماذا تبكي اللوحات؟ ابك الأرواح. نجا العاص، صاحب أهم مكتبة في الحارة: "شو مكتبة المركز الثقافي؟" الحاج عمر الذي سيبدأ كابوسه: لن تبعث يا حاج عمر. الأستاذ عاصم الذي نجا لأنّه صادف يوم حصته في مدرسة المدينة القريبة.ص100
اقتاد رجال أبي شامة معظم من تبقى من الرجال. "كان اليوم الأخير من الهجوم. ظن الجميع أنّ الأمر قد انتهى هنا، لم يحسب أحد أن البيت سوف يفرغ إلاّ من النساء وبعض الرجال الذين لن يستطيعوا حلاً أو ربطاً.."ص114 بعد كل ما فعلوا.. غادروا تاركين شتيمة ... مكتوبة على الجدار الغربي للجامع بكل الألوان، بحبر ثابت لم يمحه ماء المطر، لم يتجرأ أحد منهم على مسحها، بل على العكس كانوا يقرؤونها خمس مرات في اليوم حتى باتت قدراً مقدراً عليهم.ص115
وبعد استتباب الوضع لم تعد هناك حاجة ليختفي الواشون أو يتلثموا "من يعمل مع رجال أبي شامة صار يمشي مزهواً يا لميا. لم يبق مطرح لأبي الكوفية أم الملثم بينهم، صاروا يتباهون برؤوس عارية ووجوه صريحة".ص105
آلام ومآسي:
تصف الكاتبة معاناة أهالي المدينة بشكل واقعي وموضوعي مجرد، بل يمكن القول إنّ الكاتبة تصور بعبقرية وذكاء، وبأدوات فنانة حساسة بارعة تلك المآسي وتجعلنا نعيشها ونعاني مع أصحابها: "نفذت المؤونة على كثرتها من البيوت، قلّ الزيت بعد أن استخدم للإنارة، اشتدت معارك النساء حول قبضة من البرغل، حول سكين ضائعة أو غطاء صوفي لطفل مريض، بينما كان شك الرجال بعضهم ببعض على أشده، نسوا مبدأ أولاد العشرين والستين. مضوا يفتشون عن طريقة ينجون فيها من هذا الحصار. كان عزرائيل ينام في فراشهم، يخطف ملعقة الطعام منهم، ألفوا وجوده، باتوا يبحثون عن طريقة يدفنون فيها موتاهم، دون أن يبرحوا أماكنهم، حتى لا يصابوا برصاصة طائشة أو غير طائشة.ص106 الحياة أقوى من الموت، وسيبقى نبع الحياة يتدفق بكل الألوان والنغمات والتداعيات: "شبت خلافات استمرت أعواماً بسبب قطعة من الخبز. لم يكن نصيب الواحد أكثر من لقيمات مغروزة بأظافر مدماة. رغم الرعب من الموت، أو من اغتصاب النساء، كانوا يخترعون النكات عن أبي شامة، ورجال أبي شامة، مؤخرة أخت أبي شامة. قد يدعم أحدهم معنوياتهم فيقول: يا جماعة، أبو شامة بالبراد".ص107
لميا:
من المآسي الإنسانية الفظيعة التي خلفتها تلك الأحداث المأساوية مأساة لميا: لميا بعد ساعات ستصبح لميا المجنونة، تماماً عند الفجر.ص100 "كانت لميا نائمة نصف مغلقة، ثديها مع طفلها، دفن زوجها رأسه وتنهيدته بين كتفيها خلف ظهرها، طفلتها ابنة السنوات الثلاث نائمة نوماً عجيباً غريباً عند قدميها.
نامت من تعبها، لميا اليقظة دائماً، كذلك فعل زوجها المريض. لكن الطرق الشديد جعله يقفز من شدة الخوف عن فراشه ليفتح الباب. ركلوا قامته النحيلة، داسوا أرض الدار الإسمنتية السوداء، خطوتان، وجدتهم بشعارهم المعروف "تالوتة على صدر كل منهم". سحبت ملاءتها وشدتها عليها وعلى ابنها المتشبث بثدييها. غضبت من الرضيع فرمته فوق ظهرها، لكنه ظل متشبثاً بكتفيها اللتين تحولتا شرفة لمراقبة الغرباء. نخروا بالحراب الثياب المعلقة، دفعوها بأحذيتهم القاسية خف الطفلة البلاستيكي الأحمر والمقصوصة مقدمته، رفعوا الوسادة التي تحمل رأس الطفلة وفتشوا تحتها، لم يجدوا شيئاً، تركوها، هوى رأس سحورة، لكنها لم تستيقظ. كانت عينا أنس ترقبان كل شيء من شرفته التي هي كتفا أمه المتنقلة، تصعد وتهبط وتلملم وتسوي ما خربه المقتحمون في بيتها الصغير. في غفلة منها، بسرعة كالحقد، أمسك أحدم تنكة المازوت المتبقي من خلف باب بيتها وسكبها على كل شيء. أما لميا المأخوذة فقد سحبت وسادة زواجها، بدل سحورة التي لم تستيقظ رغم كل الصخب، من غفوتها المطمئنة عند قدمي أمها، ولن تسمح لأي سبب بسحب السكينة منها، لكنها تفحمت. أما لميا التي فوجئت في ركضها بحملها الوسادة على صدرها بدل الطفلة. الطفل الصامت أنس في يد والوسادة في اليد الأخرى، فقد وقفت على الجسر، وقررت أن ترمي الوسادة التي خدعتها، لكنها بدل أن تفعل ذلك رمت الطفل في النهر تحت القناطر.
هكذا وجدت لميا نفسها بدون أعباء، بدون طفليها، بدون زوجها، ثم بدون عقل".ص102
أم تفقد ابنها أملها الوحيد طالب الطب تقبل الأحذية وتحفر له قبراً
"في الرف العلوي من الخزانة ما قبل الأخيرة، كتب ابن مطيعة للسنة السادسة طب، مازالت تحمل "مسكته" لها، رغم الغبار والزمن الطويل، غاب مع من غابوا، قبل أن ينهي العام، لكن أمه مطيعة أعدت قبراً تزوره كل خميس، وترسم مستقبله المبتور مبكراً، جاء من جامعته ليلة واحدة، كي تغسل أمه ثيابه وجواربه وتطعمه غذاء دسماً، كان مشتهياً "الباطرش" يقبر أمه، ليعود بعد ذلك ويكمل امتحانه، باقي مادتان".ص95
"صباحاً هزّ الأركان صوت مطيعة تسقط على الأرض وتمسح وجهها بقميص ابنها المفقود، تبكي وتركض إلى المصطبة التي تصطف عليها الأحذية تقبلّها وتصرخ بعويل مرعب، تلصق وجهها في الجدار وتقبله: يا حبيب أمك، اشتهيتك تمرض يا قلبي لأخدمك، "اشتهيت جبلك كاسة ماء"، "كان مشتهي الباطرش وأنا أجلته ليوم تاني، ما في يوم تاني يا عين أمك.
ثم هربت إلى برية القبور.
عندما وصلت برية القبور، كان الحارس مازال نائماً، فأكثر زوار القبور يأتون عصر الخميس، أما فجر الاثنين فلم يتوقع أن تأتي هذه المرأة تحفر بأظافرها قبراً.
ملأت حضنها وفمها بالتراب، ابتلعته أيضاً، كوّنت تجويفاً بأصابعها قدر ما استطاعت، فتحت حقيبة ابنها الذي جاء ليلة واحدة يأكل الباطرش، أخرجت منها نوتة المادة التي كان ينوي قراءتها في يوم الإجازة الذي منحه لنفسه. أخرجت جوارب ومريول الطب، وأشياء كانت تحتاج لمساتها الضرورية جداً، غسيل وكي ورتي.. وجرعة حنان، صفتها بعناية بالغة في القبر، ثم غيرت ترتيبها عدة مرات وعندما اعتمدت الترتيب الأخير أخذت تبكي بجنون، وهي تنثر قبضة التراب الأولى، كما يفعلون عادة بعد إنزال الميت الغالي. كومت التراب كي يرتفع قليلاً عن الأرض، سقته، قرأت الفاتحة مستغفرة ربها مائة مرة.
صار لديها قبر تزوره عصر الخميس تغرز عيدان الآس الخضراء تربط على كل عود شريطة حمراء وصفراء وخضراء.
عاش طالب الطب الغائب في قبره، بعمر أمه وأحلامها وعيدان آسها وشرائطها الملونة الجديدة كل خميس. ليست أمه فقط من رصد مستقبله في غيابه الذي لم يعد منه بل لقد شاركها الكثيرون من أهل الحارة، لم ينفكوا ينادونها أم الدكتور، وهم متيقنون من موته مع من قتل عند جدار المقبرة العتيقة".ص145
أفكار ممزوجة بالأسطورة والحكاية
تتضمن الرواية آراء وأفكاراً وأحكاماً تحتاج إلى تمعن وتدقيق، ولا أجد مبرراً كافياً كي تقتنع بها أديبة ومهندسة ذات اطلاع واسع وفكر وقاد، كأنّ تورد بحيادية، دون نقد أو إيراد حجج أخرى، وكأنّها تتبنى تلك المزاعم، بأنّ سبب ما جرى، هو أنّ أبا شامة "أراد أن يثبت لوجهاء حارته أنّه قادر أن ينتقم ممن لعنوا دينهم مئات السنين، سيرسلهم إلى ربهم، وأنّه سيطأ رأس كبيرهم "نذير" ويركعه، ويسترد كل ما ظن أنّه من حقه ومن حق أهله. كانت الجدة تتمتم: عديم وقع في سلة تين".ص109 كما أنّ التورية العميقة جعلت بعض المقاطع غير مفهومة للقارئ، الذي لن يستطيع ببساطة فك بعض الرموز والشيفرات التي تستخدمها الكاتبة: "لعل أم الصافي، قريبة أبي شامة، هي سبب الهجوم، كون الجد أحضرها كي تعتني بالعم العاجز، ترتب غرفته وسريره، تفرغ مبولته، تضع له المساند على الكرسي، ثم تستبدلها ليلاً بمخدة السرير..ص131
"تقول أم فطمة: إنّ سبب هجوم أبي شامة هو عمه حين اشترى قماش جلابية من الحارة وكان العم جميل هو الذي باعه القماش، مدّه عليه كي يتأكد من الطول، وعندما انحنى الرجل، سحب جميل القماش، إلى أسفل غامزاً أخوته، فقضى الرجل العيد بجلابية لا تغطي قصبة رجله".
"رأي أبي فطمة أنّه سواء كان السبب قريبة أبي شامة زوجة العاجز أم غباء عم أبي شامة صاحب الجلابية القصيرة، أم سخرية إخوته وبطرهم وغرورهم فقد كان الهجوم أعنف بما لا يقاس.
أما السبب الحقيقي للهجوم فلعله نذير، نذير الذي احتل أعلى غرفة في المنزل، وقد كان المفضل عند الجدة، يخافه الجميع".ص134
من الأفضل ـ من وجهة نظرنا ـ في حال إصرار الكاتبة على البحث في أسباب تلك المأساة، من الضروري والمفيد رؤية اللوحة كاملة، وتقديم كافة الحجج والآراء، والغوص في تشابك الهموم السياسية والاجتماعية وتداخلها مع الرغبة في تفتيت المجتمع وتشرذمه وإضعافه.. وهي إرادة قوى متشابكة المصالح... أي البحث فيما هو أعمق من تلك الأوهام الشائعة والتي ترد في الرواية دون تدقيق وتفكيك، من الضروري رؤيتها في البنية السياسية والاجتماعية السائدة، وليس بإعادتها إلى قرون خلت، تم تجاوزها من خلال تلاحم أبناء الوطن جميعاً في المعارك ضد الغزاة والطامعين... قد يثقل ذلك الرواية، ويجعلها أقرب إلى البحث في علم الاجتماع... ولكن طالما أرادت الكاتبة أن تبحث روايتها وتخوض في هذه القضايا، فمن الأفضل بناؤها على أسس سليمة، بدلاً من اتكائها على الأوهام المتوارثة، التي تعيدنا قروناً إلى الوراء في الوقت الذي نطمح فيه إلى ولوج العصر والتفكير بالمستقبل كما تفعل ابنة أخت فطمة...
ويتجلى اعتماد الكاتبة على الحكاية الشعبية التي لا تخلو أحياناً من التفكير الخرافي في مكان آخر من الرواية، عندما ترد قصة جفاف الينابيع عندما يحل في الأماكن التي تتدفق منها بشر من صنف آخر... ولا أعتقد أنّ الفكر السليم يؤيد ذلك: "أبو شامة أمسك الضفتين من القرنين، فللضفتين قرنان قديمان جداً لعلهما جبلان، كرهوا التاء المربوطة في نهاية اسم المدينة لأنها تاء تأنيث بل تاء المبالغة وربما البأس. كانت تنبع بين القرنين، ليلة النصف من شعبان، عين ماء، تستمر في تدفقها ثلاثة أيام تمام، ثم تبلعها القرون. عندما أشرف عليها رجال أبي شامة جفّ تماماً.."ص116
وتقع الكاتبة، ربما نتيجة الحالة النفسية التي ولدتها المأساة، أو نتيجة بعض الموروث المتداول دون تدقيق أو تمحيص، في خطأ كبير عند استخدامها لفظ اليهود للذم... "قال كاتب كتب أبي شامة إن معلمه "أبو شامة" كان يعاني من السأم بعد خراب الضفتين: ذرف دمعة لكآبة سيده وكانت لكنته العربية مكسرة. يقول عبد الحكيم عن هذه اللهجة: مثل اليهود".ص116 من الضروري ألا نقع في مثل هذه الأخطاء... فاليهود مثلهم مثل جميع شعوب العالم؛ نجد بينهم المجرم، كما نجد بينهم من تزوجها الرسول، ومنهم من أنقذ كتب ابن رشد، ودون في دواوين العرب... ومن بينهم من يدافع عن قضايا الشعب العربي الفلسطيني بشكل أفضل من بعض العرب والفلسطينيين والمسلمين... ومن بينهم من أبدع نظريات في الطب وعلم الاجتماع والفيزياء التي لعبت دوراً هاماً في تطور البشرية... إنّ استخدام أسماء القوميات والشعوب للذم أمر غير مفيد لا فنياً ولا أدبياً... كيف يكون شعورنا عندما يستخدمون في هوليود وغيرها نفس الأسلوب عند الحديث عن العرب والمسلمين..؟؟!
نذير
من الشخصيات الرئيسية في الرواية "نذير" وهو قائد الجماعة المناوئة لأبي شامة، الذي ورط جماعته في أمر أكبر من طاقتهم، بعد ساعة واحدة (من بدء الأحداث) "أخذ العم نذير ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وضع على كتفي ابنه شالاً صوفياً وسحب زوجته مغادراً بهدوء"... ولعل بعض صفاته الشخصية الذاتية تقود إلى النتيجة التي وصل إليها: "يفضل نذير نفسه على الجميع في طعامه الذي يطبخ خصيصاً له.. قام بتغيير أثاث البيت بحيث يصبح مناسباً لعقيدته وراحته وظروفه. أما ثيابه فقد كانت دائماً مغسولة ومكوية بحدة.."ص136 "حدث مرة أن نسوا (الأطفال) قيلولة نذير.. وما إن علا صوت أحدهم "حشيتودودة" لأنّ اللاعب داس على الخط، حتى استيقظ نذير من قيلولته غاضباً وأمر أن ينزل الأطفال إلى القبو خالعين ثيابهم مستلقين على المفارش العارية للأسرة الحديدية بعقاب طويل استغرق ساعتين.."ص134 هذه السادية لم تقتصر على أسلوب تعامله الأطفال، بل ولم ينج الكبار من عجرفته، ولسانه السليط الذي يعكس أخلاقه الخاصة: "من علٍ يتقن فن الحديث والإقناع. إن أخطأ أحدهم فلا مغفرة ولا نسيان، سوف يخضع لعقاب هادئ مذل من السخرية، وربما يخرج بلقب يطلقه نذير عليه، فيحمله طوال عمره، فأحد الأعمام لقب بـ "الجق" وآخر "كوساية"، وغيره "مسودة الصورة" جميل "النسونجي" وعبد الحكيم "كشاش الحمام". أما فطمة فلها ألقاب عديدة: "العصية، البستانية، يهود خيبر" وليلى "الشوكلاته".ص135
أما منهجه الفكري فهو الاعتقاد "بالمذهب السائد وحفظه بعناية، مداخلة وخارجه، حجج الدفاع عن وسائل التملص من المآزق التي لا بد وأن تحملها كل عقيدة، لم يكلفه هذا سوى وضعه كفنه على رأسه من أجل قول كلمة الحق التي يدعي، عمامة بيضاء كبيرة يثبتها بمهارة.. كانت أم الحب تقول: "كفنه على كيفه وكلمة الحق على كيفه... مصالح".ص135 وفلسفته لا تبتعد عن ذلك فهو يعود "حيناً للتراث وحيناً يستشهد بنظرية حديثة، قال العاص مربي الأجيال الذي ظن أنّ العم نذير سوف يرسل له كي يعلن توبته وراء محراب الجامع، كونه يدرّس الفلسفة ويحرض الطلاب بعيداً عن الأطر الجاهزة: عندما تنفذ الحجج لدى نذير فإنّه يصوغ نظريته الخاصة، بلا خجل، فالجميع مقتنع مسبقاً، لهذا لم يحتج إلى كبير عناء في السيطرة بمبدئه، لأنّهم مبهورون به وبعالمه المهيمن".ص135
وتصف الكاتبة أسلوب الإرهاب الفكري والنفسي الذي كانت تمارسه الجماعة من خلال نذير بفرض (توبة الناس أمام المحراب) والكاتبة هنا تتصف بالموضوعية وتظهر بعض السلبيات التي كانت تمارسها الجماعة بحق العباد، وتنصب نفسها ولية عليهم من دون وجه حق: "كان نذير يرسل الأعمام المطيعين إلى أي فرد لا يروق له في الحارة، يأمره بالمثول أمام الجميع يوم الجمعة، يعلن توبته وراء المحراب وعودته إلى صراط نذير، فأبو شامة لم يصل الحارة بعد حتى يجبر الناس أيضاً على التوبة، والعودة إلى صراط أبي شامة. من يتعاون مع أبي شامة من قريب أو من بعيد فسوف يستيقظ صباح الجمعة ليجد مظروفاً مغلقاً مرمياً من فوق باب بيته، مكتوب فيه: اسع للتوبة قبل أن يفوتك الميعاد. سيقضي الصباح باكياً في سريره كي لا يراه أولاده، وعندما تحين صلاة الجمعة سيتوضأ ويتجه إلى الجامع المذكور في ذيل الورقة، يؤدي الصلاة مع الجماعة، وبعد انتهاء الخطبة والأدعية يتجه منكساً رأسه وسط نظراتهم المذلة ليقف وراء المحراب قائلاً: إني أتوب ثلاث مرات. يدخل بيته ولا يخرج إلاّ لعمله حاملاً لقب "التائب".ص136 للإنصاف نقول هنا إنّ الأديبة منهل اتصفت بالموضوعية، خلافاً لرأينا الأول الذي سقناه في بداية البحث.
إنّ تلك الصفات والخصال التي ميزت نذير، وتصرفاته، وفراره جعلت البعض يوجه أصابع الاتهام إليه ووصفه بالمتواطأ مع أبي شامة: "قيل: إنّ الأسباب المباشرة، وغير المباشرة المذكورة عن هجوم أبي شامة هي أسباب سطحية، غير صحيحة... ربما تواطأ العم نذير مع أبي شامة، وهذا تفسير بعيد، أو ربما كان الأمر سوء تدبير من العم نذير وهذا تفسير قريب.."ص137
من ميزات السجن العربي، خط يكلف صاحبه عشرين سنة من السجن:
توثق الرواية حالات فريدة من سجن بعض الناس لعقود من الزمن لأسباب واهية وتافهة، فكتابة خط (سطر) على مخطوط تكلف صاحبه عشرين سنة من السجن: "ما فعله فيصل الراسب في البكالوريا أنّه باع راديو دراجة، وبضع علب من الجبنة الضاحكة لأحد العابرين دون أن يتوقع أنّ الضريبة ستكون استدعاءه لشرب فنجان قهوة هناك، لأنّ هذا العابر ذكر في اعترافه الدقيق والتفصيلي جداً، من الهواء الذي تنفسه في عمره حتى آخر كلمة تفوه بها، أنّه اشترى من فيصل الطائش جبنة البقرة الضاحكة وراديو صينياً تعطل منذ الليلة الأولى.
لذلك مكث فيصل ستة عشر عاماً.
هناك من أُخذ لأنّهم رأوا خط يده على نوتة دراسية لأحد المقبوض عليهم، وبعد بضع صفعات، تذكر المعذب صاحب الخط، فأحضر الأخير، غاب عندهم عشرين عاماً. وهناك من غاب خمسة عشر عاماً، لأنّه كتب اسم شخص على دفتر هواتفه دون كنية، فلما سألوه عن الاسم، نسي المناسبة التي سجل فيها اسم صاحب الهاتف، فاعتبر أنّه يستخدم الرموز. هناك من قضى ستة عشر عاماً، وفي كل يوم يقول له حراسه ألا يقلق، فلا يوجد عليه شيء سوى أنّ اسمه مثل اسم والد أحد المغضوب عليهم، وذلك يكبره سناً. ثم هل أنسى الفتاة ضاربة الآلة الكاتبة في الصحيفة التي تصدر في الحارة. لقد أخطأت بحرف واحد من اسم أبي شامة وكتبت الطاء بدلاً عن الشين "أبو طامة"، ولم تلحق أن تصححها لأنّها ضربت حتى نسيت اسمها"؟ص148
طقوس انتظار الأهل عودة السجناء السياسيين الأحبة والمفقودين
تتابع الفنانة المبدعة منهل رسم لوحاتها مستخدمة مشاعر القارئ وأحاسيسه مداة لها، وتذيب شغاف القلب حرقة مع أولئك المواطنين الذين يقضون ساعات حياتهم على مفارق الطرق ينتظرون لقاء الأحبة الغائبين، وكأنّهم يمارسون طقوساً خاصة، معلقين نظرهم بوهم سراب الأفق الذي أحكم الطغاة سده، فيعودون إلى ديارهم خالي الوفاض منكسرين تأكلهم حرقة مرة لا يمكن وصفها، وهل هناك حرقة أمر من فقد الأمل في لقاء غائب حبيب: "تنتشر الشائعات أنّ هناك دفعة من الرجال الغائبين عائدة من مجهولها، يتركون ما بأيديهم ويهرعون إلى هناك، ينتظرون عودة الابن أو الأب أو الأخ أو القريب.. تقسم العائلة الواحدة بعضها إلى فرق للانتظار، تؤدي مناوبات ليلية ونهارية، تعود الفرقة الأولى وليس لديها أي خبر لصاحبة البيت المنتظرة عودة الغائب، فيؤجل الأمل إلى اليوم الثاني..
فجأة من بعيد يشق ضوء الباص الكبير برد الليل وسواده، فيتدافعون إلى الحافلة الأولى، يتجمعون قاطعين جزءاً من الشارع. قبل أن يتوقف الباص تماماً، يهجمون هجمة واحدة على الأبواب والنوافذ، تعلو النداءات، أصوات رجال ونساء وأطفال ينادون متوقعين وصول ـ بابا.
يردد المنتظرون أسماء غائبيهم التي غالباً ما تكون بكنية واحدة فيعيد تردادها السائق ومعاونه والركاب المسافرون في الباص، يعيدون الأسماء المناداة بتوسل لله وقدره ولكن.. من بين مئة عائلة تنتظر، تحظى عائلتان بغائبهما، وتغادران معتذرتين متنيتين بحرارة عودة بقية الغائبين."ص149
التعذيب المستمر في السجن السياسي:
نتعرف بعد (عودة أحمد) الذي أُخذ مع الذين تم اعتقالهم وهو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، على بعض أنواع التعذيب التي تمارس في السجون العربية، والتي تركت بصماتها على تصرفاته غير المالوفة، وعاداته في الحياة بعد خروجه من السجن: "لم يكن يرفع رأسه مطلقاً، لا يفتح عينيه، يقول كلمته ويسارع إلى خفض وجهه، راصاً يديه الممدودتين إلى جنبه.
"نظرت إليه يتناول فطوره ببطء ثم بسرعة، يأكل فتات الخبز الذي يسقط منه، بأصابع صفراء ناتئة العظام، يصمت طويلاً، هزيل هو: هزيل، إنّه يكاد يتكسر على كرسيه، لمَ لم تفرح لعودته"؟ص153
ـ قال ابن العم إنّه سيخضعك لعلاج فيزيائي يمكنك من تحريك عظامك المتيبسة.ص153
ونتعرف على وصف للمكان الذي حشر فيه السجناء، وتعامل السجانين الوحشي مع ضحاياهم: "هنالك في المكان الذي لا يتسع لأكثر من خمسين رأساً مزدحمين، كان يحشى فيه مئتان، ينامون تسييفاً "راس وعقب" كتلاً لحمية، كانت رجالاً قبل الغياب. سوف يقع براس أي واحد منهم أو أكثر من واحد لقب المعلم، بفتح العين وشد اللام وفتحها. المعلم هو صاحب العلامة، والعلامة هي قرار ذلك العسكري الذي تصاعد في رأسه، يطلقه على ضحيته، إن تحركت، أو تنفست، أو حتى إن لم تفعل شيء، كم يشتاق العسكري للقاء "المعلَّم". يبدأ وجبته الشهية في فترة التنفس الصباحية للكتل اللحمية، بسلسلة من الشتائم كمقبلات، ثم يهوي بسوطه الحديدي على جسد صاحب العلامة، ثم بالعصا الحديدة، بعد ذلك يرمي السلاحين، شوكته وسكينه، ليلتهمه بيديه وه يكز على أسنانه من اللذة، بعد أن يمل من يديه، سوف يسقطه أرضاً، يدعسه بحذائه الحديدي، وعندما يحس بعظام المعلم تتكسر تحت قدميه، سوف يصل إلى ذروته يتركه يزحف إلى باب المكان الذي تتزاحم عنده الكتل اللحمية التي تنفست حتى الاختناق والتي ستسمح للمعلم أولاّ بالدخول متحملين سوطاً على الظهر أو على الرأس أو على الأضلاع".ص154
"أما الحلاقة فغضب لا يغضبه رب اليهود.."ص157
"كنت كل يوم أرى نفسي محشوراً في علبة سردين، مصفوفاً فيه أربعة رؤوس بأربعة رؤوس. عند النوم تفرش العوازل التي هي ربع بطانية مخيط عليها قطعة من قماش الشوادر، لكل منا مساحة بعرض شبر ونصف... سنين وركبتاي مطويتان وظهري مقوس خلال النهار".ص161
يلغي السجن وأساليب التعذيب الوحشية كل الصفات الإنسانية، والأمل في الحياة، ويحطم مشاعر الإنسان، ويجعله يشعر بالدونية: "تمنينا لو كنا خرافاً، بل نملاً أو أي حشرة حقيرة"... "لا لم نكن نحلم بالحرية أو نهاية للحجز، كنا نحلم أن ينسونا".ص161
ونظراً للغياب الطويل للمعتقلين دون أية محاكمة، أو إشهار سبب الاعتقال أو اعتراف السلطات باعتقالهم، فقد حصل أن سجلوا في عداد الموتى... لأنّ السلطات التي اختطفتهم لم تعترف بأنّها تعتقلهم، وبالتالي وجب تسجيلهم موتى في السجلات الرسمية... وبعد تحريرهم يضطر ذووهم إلى إعادة تسجيلهم في دوائر النفوس: "دخلت فطمة تطمئن على نوم أخيها أحمد الذي سيعاد تسجيله حياً بعد توفيته في دائرة النفوس وفي دفاتر المختار المستعجل".ص157
الحياة أرحب من السجن وأقوى من الموت، ولن يوقفها الفساد:
مع استمرار الحياة ينشغل الناس بهمومهم، وينسون قتلاهم وسجناءهم ومنفييهم، على الرغم من هول ما أصابهم... "الحارة تغيرت، فالاغتراب يطبع كل حجر غادر مكانه وبات تحت رحمة رجال أبي شامة".ص128 حتى أحمد الذي قضى زهرة شبابه وأفضل سني حياته في السجن ظلماً وبهتاناً تغير، وأخذ يستنكر مساعدة أخته فطمة لضحايا المأساة "ما هذه العادات؟ إطعام أبي رحمون ولميا وأعمامي، يعني ماذا ينقصهم"؟ بل يريد أن يؤكد ذكورته ويفرض رأيه على أخته التي ضحت بأغلى ما لديها لتصون البيت والحديقة والقضية التي ضحوا في سبيلها، أما أحمد فلم يجد مبرراً لذلك "يجب أن نقطع شجرة النارنج، ونخفف من امتداد النخلة والدالية..".. ويتزوج ويسكن في بيت عروسه ويعامل فطمة بجفاء... وتقوم النسوة بمحاولة يائسة علهن يفزن بمعرفة مصير أبنائهن، فلذات أكبادهن، ولم يحصدن إلاّ الخيبة، وكأنّ لسان الحال يقول لا يسأل لئيم إلاّ عديم: "ذات مساء لملمت النساء فيه الأساور، هدايا صباح أعراسهن و"كردان" أول صبي ولدن، وما تبقى في صررهن من ليرات ذهبية، ارتدين السواد واتجهن باكراً سرباً واحداً إلى قصر أبي شامة ملتصقات ببعضهن بخطوة واحدة وباتجاه واحد، شفاه مرتجفة، جفون محمرة، يحاولن نسيان النقمة واتقان أساليب الرجاء والتذلل، من تقبيل اليد القذرة إلى ترداد قصائد المدائح... انتظرن أمام البوابة الأولى ساعات وأمام الثانية ساعات".ص144 "عندما دخل رجال أبي شامة كان ريق النساء قد جفّ تماماً، فاكتفين بدموع صامتة ثم طردن خائبات".ص145
أما فطمة فـ: "تضيق بنسيانهم، تتوق أن يفيقوا على واقعهم الذي يترجح، فيؤرجح مستقبل أطفالهم. لا تكف عن تذكيرهم، حتى باتوا يتهربون في بعض الأحيان من دعواتها، راجين أن تندمج معهم في حفل النسيان الذي يعيشونه في كل المناسبات".ص36 "تتذكر هطول الرصاص عليهم وتساقط الجثث على بعضها. كان حظها جيداً أنّ جثتها الحية لم تتأثر بالماء المغلي الذي سكبه أحد رجال أبي شامة على القتلى كي يتأكد من موتهم... الجثة التي تأوهت من نار الإبريق نالت نصيبها من الرصاص الجديد".ص121
وتصور الكاتبة حالة البؤس التي يعيشها الناس في ذلك المجتمع، وخاصة الأطفال والشباب الذين ترهقهم البطالة، وتدفعهم لممارسة أعمال وضيعة تافهة، تعكس بؤس الوضع الاقتصادي للبلاد... "جيل جديد يكبر دون أن تطاله يد أبي شامة. رغم انهماكهم الحزين في الشغل يبدو على وجوههم الجوع والنعاس. بضائع مختلفة زهيدة الثمن ملأت الأرض القذرة. وضع أحدهم كتلة صوف أمامه كأنّه هربّها من فرشة أمه. يريد بيعها وهو لا يكف عن التثاؤب. صبي آخر يبيع شيئاً صغيراً جداً "فتيلة" قداحة منادياً بصوت حاد على بضاعته غير المرئية... صف من الهواتف الصينية التي تتعطل بعد استخدامها بيومين.."ص60
كل هذه الدلائل تبشر بأنّه "لن يأتي الربيع بعد الآن للحارة "بيلبق"الخريف لحارتك أيتها البستانية".ص124 فالمدينة "عندما حوصرت بالصناعات حاولت بطريقة جد غامضة، ربما مبهمة، ابتكار علاقة بين تصوف الشرق وحيل الغرب. أخذت تناقشين فلسفة الحيل وتبعدين الأشياء عن واقعها لتضميها إليك، أنت من تستطيع أن تحتضن كل المتناقضات في حدس واحد، كشف واحد".ص127
وفرضت على المجتمع أساليب هستيرية جديدة للتعبير عن الطاعة والولاء، والاستسلام لواقع الحال، يصعب على كبار المبدعين تصوير فظاعتها ولامعقوليتها : "في وقت واحد طُرقت الأبواب جميعاً، بصمت وإيماءة واحدة من رجال أبي شامة كان الجميع على الجسر فوق النهر، متجمعين حاملين الرايات والأعلام. قال فارس وهو يهم بالاختفاء عن الأعين كي لا يشارك في هذا التجمع: يحيون ابا شامة، يشكرونه على أنّه قتل أولادهم، هدم بيوتهم ونهب تجارتهم، ها هم يصفقون بحماس لا نظير له، بل بهيستيريا لا يمكن أن يرصدها أهم رجال الفكر والفلسفة في العالم".ص170 وأصرت الجهة المنتصرة بفرض رؤيتها وأسلوبها الخاص في معالجة المأساة؛ "بعد أن رفع الجميع الراية البيضاء، اطمأن أبو شامة إلى أنّ شتيمته لهم أصبحت نشيداً صباحياً يردده الصغار..ص171 أمر رجاله بإعداد جداول معقدة مليئة بالأعمدة والسطور، تصرف بموجبها تعويضات لأهل الضفتين إن اعترفوا أنّ موت الرجال كان من وباء نذير، وأنّ الدفن لم يكن جماعياً على شكل تلال، وإنما كلّ في قبره ووجهه إلى القبلة".ص171 وتجعل الكاتبة بأسلوبها المميز القارئ يعيش مرارة الهوان والضعة التي دفع الإنسان إليه "اختلطت أحاديث النسوة بين من موتت زوجها، ومن موتت ابنها.
نسي الناس الحارات التي اقتلعت من أصلها، الشباب والأطفال الذين عذبوا وغابوا، وانشغلوا بالفتات".ص172
قال عبد الحكيم كشاش الحمام: على أية حال فقد وزع من التعويضات على أهل الحارة من الجمل أذنه، فيما تقاسم الجمل رجال أبي شامة أنفسهم، دون أن يملئوا استمارة، من يحاسبهم؟ أبو شامة لم يكن لديه وقت لهذه الترهات..
كما أكل أخ لحم أخيه، موتت الأمهات أبناءهن وأزواجهن وإخوتهن، وقبضن التعويض الزهيد الذي رممن به بعض الجدران التي هدمت.. في حين ظلّ في الحارة الكثير من الأرامل اللواتي لم يعرفن إن كن أرامل أو زوجات رجال غائبين إلى أجل غير مسمى.."ص173
صارت المبادئ في مهب الريح، انهارت القيم، ارتاح الجميع، هذا يخفف عنهم الأعباء.."ص174
ترصد الأديبة منهل السراج بعض جوانب تطور الأحداث عند الطرف الآخر، وتتابع بعض تفاصيل رسمه للمستقبل، باعتمادها أسلوب التورية الذي لا مناص منه: "رأت فيما يرى النائم أنّ أبا شامة يمسح على رقبته، ويفاخر أنّ لديه تالوتة جديدة متفكراً باسم لها، سقطت القديمة في غفلة منه.."ص181
كما ترصد تطور الحياة الاجتماعية والسياسية البائسة؛ "شكل أبو سليم الجربوع نقابة سماها "حمار ولا عار" وبدا بتسجيل أسماء من تبقى من الرجال".ص187 ونظراً لعمق المرارة وانسداد الأفق تتجنى البنية السائدة حتى على الطفولة التي زجّت قسراً في مستنقع لا ذنب لها في ولوجه: "أما الأطفال الجدد، وهم حمير بالولادة، (تزيد الكاتبة هنا التجني على الأطفال، وأعتقد أنّها غير موفقة في هذا الوصف، وربما كان أبو العلاء المعري أكثر إنصافاً منها، فحياة الأطفال من جناية الآباء، ولا يمكن أن يكونوا جميعاً مشوهين بالولادة، بل هم يدفعون ثمن قبح وتشوه الحالة التي ولدوا فيها) فإنّ أولى الكلمات التي رددوها هي كلمات نشيد الشتيمة، وعندما وصلوا سن البلوغ هيئت لهم بطاقة الحمار".ص189
ونتيجة للحالة العامة الفاسدة التي فرضت على البلاد والعباد أراد الأهل أن ينشأ أبناؤهم مشوهين، علّ ذلك يشفع لهم ويحميهم من بطش الوحوش "أريد أن يطلع "خويتة" حتى لا يأخذوه مع الذين غابوا".ص221
ولا تنسى الكاتبة أن تبين دخول خط جديد في الحياة، يفرض نفسه في عصر المعلوماتية، ولا تستطيع أكثر المجتمعات تخلفاً تجاهله، وأبرزت ذلك من خلال وصفها حياة أسرة أخت فطمة العصرية.. واهتمامات ابنة أختها لميس بالكومبيوتر والرحلات ومعرفة العالم..
الحب:
خشيت أن تكبح كاتبة ذات اتجاه إسلامي ـ كما بدا لي من طريقة تناولها لموضوع الرواية ـ جماح الحب، وتغيبه عن روايتها، فتبدو بتراء ناقصة.. لأنّ الرواية كالحياة لا تكتمل ولا تعاش دون حب.. وسرني أن استدركت الكاتبة ذلك ببراعة وسطرت لوحات جميلة صادقة جذابة في حب عمر وفطمة، وقدمت لوحات رومانسية جذابة جميلة، زينتها بعباراتها الحلوة الرقيقة البليغة المعبرة التي تصلح أنّ تصبح أمثالاً تروى: "أحبك أكثر من أمس وأقل من غد".ص44 إلاّ أنّ كأس فطمة مكتوب عليها ألا تمتلأ؛ لقد مات عمر "في آخر مرة وصلت إليه في موعدهما، رأته يتدحرج على الدرج نفسه الذي كانت تصعده كي تلتقيه، يتدحرج بسرعة.. ترك موت عمر صدىً دفيناً كمن في حنايا فطمة، وزاد حياتها بؤساً واكفهراراً وسوداوية "بعد موته لم تعد إلى الدرج مرة ثانية: هذه الأرض لا تستحق بعد الآن النور"ص45 إلاّ أنّ ذلك النور لاح من بين ثنايا التشاؤم مع تفتح براعم وتوجيات حب النصراني فارس والمسلمة فطمة، ولو للحظات صافية صادقة...
ملاحظات عامة:
* الكاتبة متمكنة من اللغة بشكل بارع، لغتها سلسة مطواعة جذلة وبليغة، ندرت في النص الأخطاء النحوية والمطبعية، والتي تشبه الأخطاء التي صادفت بعضها في كتاباتي الأدبية، والتي صححها لي شيخ الأبد في البلاد عبد المعين الملوحي مثل:
ساعتان على الأقل يرافقهم على سحورهم بأناشيده الخاشعة.ص26
يتأرجح: يترجح (وردت في أكثر من مكان وأكثر من صيغة في الرواية)
وجوه فتيات صغيرات جميلات يسحبنهم من أمهاتهم ليغتصبنهم ويقتلنهم. الأصح: (يسحبونهن، ليغتصبوهن، ويقتلوهن).ص115
* قلما يلاحظ تدخل الكاتبة في النص، ولعلّ ذلك يصبح أكثر جلاء عندما يجري الحديث المسهب عن المطبخ وفن تحضير الطعام.. كما نلمس في كلمتي (أخرست الجميع) شيئاً من حضور شخصية الكاتبة في النص "ارتدت ثوبها القديم الذي ترتديه في كل المناسبات.. نالت سرية النساء من موضته القديمة، لكنّها أخرست الجميع".ص170 ويزداد حضور الكاتبة عندما تجعل الشخصية الرئيسية في الرواية (فطمة) تتبنى آراء وأفكار فلسفية لا تنسجم مع بيئتها وتربيتها الأصولية: "الديانات تلتقي، فلا خوف جوهري بينها، الماهية واحدة والصراع كان دائماً على العناوين، كذلك شأن الفلسفات والنظريات، أنا مستعد أن أصمد أمام أرسطو والغزالي وابن رشد أيضاً".ص225 كما يزين الرواية حضور الكاتبة في ثنايا كلمات ولوحات الحب الصادقة، التي تعبر عن إنسان يغمره الحب، ويفيض بالحب الصادق الجميل، تلك الكلمات التي لا يمكن أن ينبعث شذاها إلاّ من (منهل) الحب الصافي...
خاتمة:
كنت قد نوهت إلى بعض المثالب الصغيرة المحدودة التي شابت النص، من وجهة نظري، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية موضوع الرواية، وللإنصاف والموضوعية يجب الاعتراف بأنّه يسجل للكاتبة جرأتها وإقدامها وبراعتها في الخوض في هذا الموضوع، الذي لم يجرأ أن يسبقها إليه، أو يخوض فيه حتى الآن، حسب معلوماتي، كبار أدباء البلاد... إلاّ أنّ هذا الموضوع يحتاج، فضلاً عن الجرأة إلى نظرة نقدية موضوعية مجردة عن الهوى والعاطفة الشخصية، والميول الذاتية... نظرة ومقاربة ترى اللوحة كاملة، وتبين عيوب ونواقص وأخطاء وارتكابات الجميع... للمساهمة في إخماد اللهب الكامن تحت الرماد... إنّ أسلوب التعامل الرسمي الذي لا يعترف بالواقع، كمن يدفن رأسه في الرمل... لن يحل ذلك الموقف المشكلة بل يزيدها تفاقماً، كما أنّه يساهم في نشر الرؤى أحادية الجانب للقضية، ويكرس الخلل في التفكير وفي مناهج البحث لمعالجة ذلك الإرث الثقيل... ذلك الإرث الذي لا بد من معالجته، وسبيل معالجته هو اعتراف كل طرف بالآخر جزءاً مكوناً للنسيج العام للمجتمع، والنقد البناء لتصرفات الطرفين غير السليمة، وإعادة الحقوق للمظلومين والمفقودين والمشردين... في ظل حالة سياسية واجتماعية واقتصادية سليمة متحررة من كل ما يعيق حرية تطورها وتقدمها من قوانين استثنائية طارئة وأحكام عرفية...
لقد أجادت الأديبة المبدعة منهل السراج في تقديم رواية هامة جذابة تؤرخ لمأساة كانت سباقة في طرقها في مدينة غالية على قلوبنا جميعاً، مزجت فيها الذاتي بالموضوعي العام، وترافق فيها الحزن مع الأمل والحب وصدق العاطفة والتصوير، وكان للهموم الاجتماعية مكانة مميزة فيها، زينتها بلوحات فلكلورية من تلك المدينة ونهرها العاصي، وبعض حاراتها وعادات أهلها، وأنواع الطعام، وأساليب تعامل تجارها وأهلها فيما بينهم ومع الغرباء عنها... كما وثقت حالات فريدة من معاناة السجناء السياسيين، في صور صادقة تجعل القارئ يعيشها بكل مشاعره وحواسه، حتى يخال نفسه أنّه يعيشها ويكتوي بلهيبها، أو يشاهد لوحات فنية مرسومة بريشة فنانة قديرة، أو مخرجة سينمائية بارعة... الكاتبة تجيد فن القص وكتابة الرواية الحديثة، وتمتلك أدواته بامتياز. لغتها حساسة جميلة قريبة من الشعر، ورواية "كما ينبغي لنهر" للأديبة منهل السراج جديرة أن ترسم في لوحات، وأن تمثل في أفلام سينمائية وتلفزيونية، ويمكنها إن دونت أسماء أبطالها الحقيقيين أن تتحول إلى رواية وثائقية وتوثيقية من الدرجة الأولى. والكاتبة جديرة بأن تشكر على مبادرتها الوطنية، وأن تكافئ من بني شعبها ووطنها، التي بينت الرواية أنّها مفعمة بحبهم، وحقدهم على الفساد والقبح والظلم، وأقل ما يمكن أن تقابل به هو الحب والرعاية والدعوة لتقديم المزيد من اللوحات الجميلة لتزداد حياتنا حباً وصدقاً وجمالاً...
تعقيب الأديبة الروائية منهل السراج على قراءة الرواية أعلاه:
أولاً.. أشكرك جزيل الشكر على هذا الجهد الكبير الذي بذلته في تحليل ما قرأت ولو قرأ الجميع بهذا الشكل لكنا بألف خير.
ربما علي أن أوضح أنني أكتب أيها الصديق كي أستنطق ما جرى وليس تسجيل ما جرى، فالواقع جميل حين نكتبه فناً وليس جميلاً حين نتناوله بالتوثيق والتسجيل.
سوف أحاول شرح بعض ما أوردته وأظن أن فيه لبساً أو سوء فهم ربما بسبب اختلاط الزمنين أحياناً أو شكل تناول الشخوص والأمكنة والأحداث. ولكن علينا أن نتفق أولاً أن هذه رواية وليست وثيقة تاريخية، رواية وليست عملاً هدفه الترويج لفكر ما، أو موقف سياسي ما، أو تفريغ حالة شعورية ما.
سأحاول أن أبين بعض ما أوردت وليس الكل لأن هذا يحتاج جهداً ووقتاً. مع أن ما كتبته يحرض بقوة، لكني آسفة فمشاغلي في هذه الفترة كثيرة. لذلك سأكتفي ببعض الإشارات، آملة أن أوفق في تقريب وتفسير بعض ما التبس عليك.
بالنسبة للمقطع الذي أصف فيه الفتيات اللواتي أحرقن علم بلادهن وتقصدت فيه وفي غيره من المقاطع حتى تلك التي تتحدث عن ممارسات أبو شامة، أن أترك الأمر في حقل التساؤل. ليس لأن الأمر غير مفهوم حين حدث، ولكن للضرورة الفنية والجمالية. فتيات مدرسة كلهن تحت السابعة عشرة لماذا يفعلن هذا؟ ربما يكون جوابك: عليك أن تقولي إنهن مدفوعات من قبل نذير. ولكن لايمكن أن يدفعن لحرق علم البلاد. هو علم البلاد وليس راية (أبوشامة) مثلاً. لكن أردت القول إنهن متعبات مشوشات غير واعيات لما فعلنه. وهذا دأبي من أول الرواية حتى آخرها. أن معظم شخوصها بريئة إنسانياً ومخطئة في الواقع. أحرقن علم البلاد الذي ربما أنه الرمز الذي، رغم قدسيته، يتسبب بصراع طويل وخطير. أو أنهن أحرقنه لأنه يمثل لديهن الانضباط والنظام الصباحي الذي يعني صياح المدربة أو الموجهة. ولتسأل طالبات الثانوي وما كان يعني لهن الصف الصباحي..
أما في قولك أن تعاطفي مع جهة ما أكثر من الجهة الأخرى فأظنه غير صحيح لأن فطمة منذ البداية وهي التي تروي ومن خلالها تتداعى الأحداث الماضية والحاضرة، كانت ساخطة على عمها نذير وتقول إنها لا تتمنى عودته رداً على بعض قريباتها اللواتي مازلن ينتظرنه. لا أستطيع تبيان هذا برقم الصفحة لأن الرواية بنسخة الشارقة ليست لدي مطبوعة على الكمبيوتر كي أتمكن من العثور على المقطع وأبينه لك. أعتمد على الذاكرة رغم صعوبة ذلك فأنا لم أقرأ العمل منذ أربعة سنين.
قلت إني مثلت جهة نذير وكأنها جماعة لم تقترف ذنباً أو خطأ. لكن و من خلال بحثك الدؤوب في الرواية تذكر شخصية نذير الذي تذكرته فطمة وتذكرت الكثير من ممارساته، التخريب الذي تسبب فيه والهروب ناجياً بابنه وزوجته تاركاً أهله لمصيرهم. أقول من خلال بحثك تجيب نفسك. ثم الحكاية هكذا، يعني قول الأب إن ما فعله أبو شامة أكبر بكثير من تلك الدوافع يوضح الوضع كله. وما جرى بعد هروب نذير لم يكن بين جماعة نذير وأبو شامة. بل كان بين صبيان اندفعوا بسكاكين البيت لينالوا الجنة وبين جيش جرار بعدد كاملة من الطائرات إلى الدبابات والرشاشات. هذه هي الرواية ولكن إن أراد القارئ أن يرويها بنفسه فلا مانع لدي، أما عني أنا فهذه هي حكايتي. واستخدامي كلمة الصبيان أكبر دليل على التغرير الذي وقعوا فيه. هم ليسوا مجاهدين. إن أطلقوا على أنفسهم هذه الصفة، فلأنهم ابتغوا الجنة في اندفاعهم. ومن عاد منهم عاد باكياً لأن ربه لم يسانده في مواجهة جيش أبو شامة. لاحظ هذه السذاجة. في الواقع لو رويت غير هذا فلن أكون صادقة الصدق الفني اللازم لبناء الرواية. لأن الرواية ليست محلاً للترويج لحزب ما أو إسقاط آخر. بعض من القراء كان مأخذهم أني لم أدن أبو شامة كما ينبغي. وأني بالغت في إدانة نذير، إذ صوّرته بهذا الشر وهذا اللؤم.
أما عن تصورك أنني سقت في الرواية أفكاراً ممزوجة بالأسطورة حين أوردت أسباب هجوم أبو شامة وهو من خلال فطمة. تعال نجرب أن نقرأ بتجرد عن التاريخ. علي أن أجعل المشهد متكاملاً في مكان افتراضي وأوضح أسباب هجوم هذا الشخص على هذه الحارات بهذا العنف وهذا الإجرام: قتل وسرقة وهدم واغتصاب. هجوم بهذا الشكل مؤكد ناجم عن شخص مملوء بالحقد. وأسباب هذا الحقد يجب أن تكون قريبة وتدخل في تفاصيل صغيرة تكون سبباً مباشراً يدفعه للهجوم كأن إحساسه بالغبن لأن قريبته تشتغل خادمة في بيت نذير وعمه الساذج الذي كان يتعرض لسخرية أخوة نذير التجار الماكرون كل هذا دفعه لفعل هذا.. أؤكد هنا أن الضرورة الفنية تحتم تناول الموضوع بهذا الشكل. ومع ذلك فإن شخصية أبو فطمة وهو الأكثر اعتدالاً سكت أمام هذه الافتراضات لأنه اعتبرها واهية واكتفى بالقول إن الهجوم كان أكبر بما لا يقاس. وهذا القول الأساسي للحكاية..
ما أوردته حول أسباب هجوم أبو شامة كان لحرصي على إنصاف كل الأطراف بأن أتفهم الجرائم التي يمكن أن يرتكبها ابن آدم وأسبابه.
أما عن رأيك بأن أقوم بسرد أسباب سياسية متكاملة ومقنعة، فظني أن الرواية لا تحتمل هذا.. لا تحتمل أن أورد الأسباب الخارجية والداخلية وأشرح تشابك مصالح الأطراف وتنافرها. ما أسعى إليه في الرواية أبعد ما يكون عن هكذا خطاب. وهذا المجتمع الذي خضت فيه مجتمع متخلف ومملوء بالمتناقضات التي لا تقوم إلا على أساس عاطفي والاعتراف بهذه التناقضات يفتح الجروح نعم.. لكنه بظني يساعد على شفائها. أما أن نتجاهل الأحقاد التي ملأت كثيراً من النفوس فإن فعلنا سيشبه ما تفعله النعامة. نغطي وجوهنا عما يحدث ونمضي في واد آخر حالمين أو متوهمين أننا نواكب العصر.
مازالت تعتمل في النفوس أحاسيس الظلم والقهر وهذه النفوس تمثل أكبر شريحة من المجتمع.
وصفت الجبلين اللذين يحدان المدينة من الجهتين بالقرنين اللذين أمسك أبو شامة المدينة منهما وفي الرواية العديد من هذه الصور. إذا قرأت أقوال البلدانيين( الرحالة) في مدينة حماه فستجد هذا الوصف عن الجبلين اللذين تقع بينهما.
أما عن الحالة النفسية للكاتبة فأنا لا أجد باباً له فيما ذكرت، حتى فطمة التي تتذكر وتروي لم تكن حاقدة أبداً أم أنك تريد مني أن أنطق عبد الحكيم كشاش الحمام بلغة مثقفة هادئة. هكذا يتحدث كشاش الحمام وهذه هي لغته وهكذا يفكر وأظن أننا حين ننجح في إنطاقه بلغته الخاصة نعمق الرواية أكثر ونزيد من جمالياتها.
لاحظ أن هذا الشخص أيضاً لم يكن حاقداً كان جباناً بنظر أمه يعني الجدة لكنه بحبه للطيور نجا من الموت وظل يتناسى الأحداث لأنه يريد الحياة وهذا لا يدينه، برأيي على العكس..
علي أن أشير لأمر ربما أيضاً التبس عليك بسبب اختلاط الزمنين، وهو أن فطمة عاشت الحب مع رفيق الدرج الذي قتل بسبب الصراع الدائر ورفيق الدرج ليس هو نفسه الحاج عمر.. الحاج عمر جار لها كان يحبها دون أن تبادله هذا بغير عواطف الجارة التي تقدمها للجميع: المؤذن ولميا وصاحب المكتبة أبو العاص. ربما من كانت تعتبره الأقرب لها هو النحات..
أشكرك مرة أخرى واقبل نقاشي لمادتك الجميلة وإن كان قصيراً.
مودتي
منهل السراج