دراسة نقدية تحليلية

هنا النقب !!

أ. د. يوسف رزقة

 

شعر : د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

 إلى الورود المتفتحة، والبراعم التي تترقب النهار. إلى تلك القلوب التي أحالت الصحراء فردوسا وجنانا. إليكم يا من صنعتم من القيد أغنية ومن الأسلاك شمس الانتصار.

هنا النقبُ.

هنا موج ولا صخبُ.

هنا الصحراء يا وطني،

هنا بحرٌ بلا ماء على الأشواك ينتحبُ.

ودمع البحر يا وطني،

حصى يجتاحها الغضبُ.

ونحن هنا سُراةٌ في دياجيرٍ،

وليل أصفر يجتاح غربتنا،

وريح الموت تنسكبُ.

وإعصار خريفي يحاصرنا،

 ولا هربُ !

وسخريةٌ من الأسلاك نصنعها مساميراً،

وقهقهةٌ على سُفُنٍ نجمِّعها،

وإن عزَّت، فأعظمنا لها حطبُ.

***

هنا النقبُ.

هنا نارٌ ولا لهبُ.

هنا دَمُنا على قبرٍ سينسكبُ.

لينبتَ من تراب القبر من ذهبوا.

وينمو الورد  جنب الشوكِ...،

والحنُّون يلتهبُ.

ويحلو الموت وسط الصمت يا وطني،

وصمتي صرخةٌ كبرى لها لهبُ !

وكفٌّ تفتح الأبواب في لَهَفٍ...

وتعلو...

في سماءِ المجد تغتربُ.

وتبني ما تهدَّمَ من جوانحنا،

وتنسج من ضياء الشمس أفراحاً،

ونقتربُ.

فما الأسلاكُ؟! ما الأسوار يا وطني؟!

وليل الخوف ينسحبُ.

وريح الموت تضطربُ !

ورغم الضِحكة السكرى ستنتحبُ !

***

هنا النقبُ.

هنا صخبٌ، ولا صخبُ !

هنا لهبٌ ولا لهبُ !

وتأتيني رسائلكم على الآفاق تصطخبُ.

فأتلوها لتسكنني،

ويبقي حرفها جرحا وسكيناً،

وفي قلبي لها لهب.

وأجعلها نسيجاً مع خيوط الشمس تشتعلُ.

لأشرعة يرفرف حولها التعب !

أنصار (3) – صحراء النقب

25 – 5 - 1991

  هنا النقب !!

هنا النقب قصيدة لأديب وأخ طموح، يرنو بعينين متوقدتين نحو أمل يرجو أن يتحقق، ليستظل به أبناء هذا الوطن الحبيب وغيرهم ممن لا يغضبهم أن تزهر دوحة الإسلام أدبا إسلاميا باقيا وملتزما.

والشاعر كمال غنيم يحمل في نفسه هذا الهم، ويسهر ليله متقلبا وبيده قلمه يخط به تجاربه التي تجسد هذا الهم في قصائد من الشعر تتوقد بمداد الواقع: واقع الإنسان الفلسطيني المسلم، الذي يعايش الصراع بأبعاده المتعددة، ولا عجب في ذلك،  وقد تربى في أحضان الإسلام؛ فنبضت حروفه بمعان متحركة، هي جزء من نفسه المتوقدة وتجربته الحية، التي تجعل  من الصمت حركة؛ بل ثورة، ومن المكان الجامد حياة تتدفق، فيتدافع في أنحائه الحق والباطل، الحرية والعبودية، العزة والذلة، والظالم والمظلوم، والقوي والضعيف...

 "هنا النقب"

نعم، هنا النقب، هنا الحياة، هنا الطهر، هنا الثورة والتمرد، هنا الرفض والإباء، "هنا" بهذا التركيز للمعنى، الذي تجسده الظلال الكامنة في لفظ الإشارة المتكرر، ليوقظ الغافلين، هنا سفينة الحياة "الرمز"، نجمع هيكلها من خشب الأبراش، ونصنع مساميرها من أسلاك السجن وأشواكه... فإن عزّ الخشب فأعظمنا له بدل.

 وسخرية من الأسلاك نصنعها مساميرا

وقهقهة على سفن نجمعها

وإن عزت فأعظمنا لها حطب

 وهكذا نحن، ونحن دائما كذلك، إن عزّ الفداء "فأرواحنا للدين الأضاحي"، إن الشاعر ينقلنا بإيجاز سريع وليد نحو قصة سيدنا نوح عليه السلام، وقد صنع من سخرية المستهزئين سفينة الحياة والنجاة، فكان عمله ذلك إثراء للمعنى، وربطا للحاضر بالماضي.

 هنا النقب

هنا موج ولا صخب

هنا الصحراء يا وطني

هنا بحر بلا ماء على الأشواك ينتحب

وهنا يتوحد الشاعر مع وطنه من خلال التضايف "يا وطني"، كما أنه يعطى المكان دلالة رمزية جديدة في المفهوم الشعري، فلا يعود البحر ولا الصحراء رمزا للموت؛ بل رمزا للحرية، التي تنتحب على أسلاك السجن، فيصير "دمع البحر" دمعا للحرية، بل حركة الانتفاضة وحجرها المقدس الثائر.

وفي قوله "ودمع البحر يا وطني حصى يجتاحها الغضب" يزداد هذا المعنى التقابلي في المكان بين إرادة العدو وإرادة السجان تدافعا وتوترا، فيتقابل دم الحياة الكائن في رمز الورد والحنّون الملتهب القاني بنار الحقد العدواني ذات اللهب الخفي:

هنا نار ولهب

هنا دمنا على قبر سينسكب

لينبت من تراب الأرض من ذهبوا

وينمو الورد جنب الشوك والحنون يلتهب

أما الصمت يا وطني -أعني صمت شاعرنا- فإنه صمت الحليم؛ صمت الفكرة المنطلقة نحو التغيير، الصمت الذي يعانق الكف، التي تبني وتقاوم، تنسج من ضياء الشمس أفراحا.

نعم، من ضياء الشمس التي ينسحب أمامها ليل العدو الأصفر، وليل الخوف والاستسلام...

ويحلو الموت وسط الصمت يا وطني

وصمتي صرخة كبرى لها لهب

وكف تفتح الأبواب في لهف

وتعلو في سماء المجد تغترب

 ونقترب معا من النصر والعزة:

ونقترب

فما الأسلاك؟ ما الأسوار يا وطني؟!

 لا شيء مادام صمتنا يعلو، وأكفنا في سماء المجد ترتفع...

هنا النقب

هنا صخب ولا صخب!

هنا لهب ولا لهب!

 صخب وحركة نحو التغيير والأمل... وكما حلق الشاعر في عالم الخيال ليتحفنا بصوره وجمعه المركّز للمتباعد والمتقابل؛ فإنه أيضا أجاد في اختيار لفظه ولغته، التي جاءت عربية فصيحة.

 أما موسيقاه التي جاءت استجابة لمشاعره المتدفقة؛ فقد اعتمدت على تفعيلة بحر الوافر "مفاعلتن" والتي تفاوت تكرارها في القصيدة، فهي تارة أربع تفعيلات، وتارة تفعيلة واحدة، وهذا يتمشى مع الشعر الحر الذي يعتمد على تفاوت النفس الشعري أو العاطفي عند الشاعر.

وفي الختام ليس لنا سوى أن ندعو لشاعرنا بالتوفيق والسداد.