دراسات في البيئة الجاهلية والشعر الجاهلي (4)

دراسات في البيئة الجاهلية والشعر الجاهلي (4)

مدح الشعراء الجاهليين لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أحمد الجدع

نظم قصي بن كلاب أمور مكة ، وأسلمت مكة لقصي قيادها ، فكان هو سيدها الذي لا ترد له كلمة، وأصبحت قريش بحسن تدبيره سيدة قبائل العرب ، وعندما مات قصي تقاسمت عشر من قبائل قريش المكارم التي ابتدعها ، ومكارم قريش هي الأمور الإدارية التي ساس بها قصي مكة وقبائلها القرشية ومن قدم إلى مكة من قبائل العرب ، وسمَّت قريش هذه المهام مكارم لأنها حازت الشرف بالإشراف عليها،وتحملت تبعاتها وأنفقت عليها من مالها.

وهذه المكارم كانت قبل ظهور الإسلام كما يلي([1]):

1-   السقاية، ومهمتها توفير الماء للقادمين إلى مكة من فجاج الجزيرة العربية للحج ، وقد تولى أمر السقاية بنو هاشم، وقد انتهت سقاية قريش قبل ظهور الإسلام إلى العباس بن عبد المطلب .

2-   العمارة، ويعنون بالعمارة حفظ الآداب العامة بمكة وخاصة في أثناء الحج حيث تتوافد قبائل العرب على مكة، وقد انتهت هذه المكرمة أيضاً إلى العباس بن عبد المطلب قبل ظهور الإسلام.

3-   حلوان النَّفر، فقد كانت قبائل قريش متقاربة في الشرف، كل قبيلة ترى أنها أحق بالقيادة ، ولكنهم إذا حزبتهم الحرب اتخذوا لهم رمزاً من صلحائهم أو من أطفالهم، واقترعوا على ذلك فيما بينهم، وفي حرب الفجار ، وهي الحرب التي سبقت البعثة النبوية، اقترعوا، فخرجت القرعة على العباس بن عبد المطلب وكان آنئذ فتى صغيرا، ولأن الفجار كان آخر حروبهم قبل البعثة فقد كان آخر من حصل على حلوان النَّفر هو العباس بن عبد المطلب.

وهذه ثلاث من مكارم قريش كانت من نصيب بني هاشم، وهذا ما جعل بني هاشم سادة قريش، وإن لم تقر لهم بذلك قبائل قريش صراحة!

4-   العقاب: والعقاب راية قريش الكبرى التي ترفعها في حروبها وتجتمع حولها وتدافع عنها، وقد تولت هذه المكرمة بنو أمية، وكانت العقاب عند أبي سفيان بن حرب قبل ظهور الإسلام.

5-   الرّفادة: وهي إطعام الحجيج، فقد تولت قريش إطعام كل من وفد إلى مكة في موسم الحج، وكانت هذه المكرمة إلى بني نوفل، وكانت قبائل قريش تتساند مع بني نوفل حتى تقوم بالمهمة الجليلة، وآخر من تولى هذه المكرمة من بني نوفل قبل ظهور الإسلام الحارث بن عامر بن نوفل.

6-   اللواء ، وهو علم قريش الذي تخوض به المعارك، وكان اللواء إلى بني عبد الدار، وكان أخر من تولى هذه المكرمة قبل ظهور الإسلام عثمان بن طلحة العبدري.

7-         السدانة: سدانة الكعبة، وهي حفظها ورعايتها ، وانتهت السدانة أيضاً إلى عثمان بن طلحة  العبدري.

8-   الحجابة: وهي ترتيب الدخول إلى الكعبة، وكان من يتولى الحجابة يحمل مفاتيح الكعبة، وكانت الحجابة أيضاً في يد عثمان بن طلحة العبدري.

9-   الندوة:وهي الدار التي يجتمع فيها عقلاء قريش للتداول بأمور مكة الهامة، وكانت الندوة  أيضاً في يد عثمان بن طلحة العبدري.

وهذه مكارم أربع من مكارم قريش كانت في يد بني عبد الدار ، وكان عبد الدار أحب أولاد قصي إليه، وقد ورّثه قصي مكارم قريش كلها، ولكن سائر القبائل القرشية لم تسلم له بها، ثم أصطلحوا على أن يعترفوا له بأربع  منها فقط.

10-  المشورة، كانت قبائل قريش إذا حزبها أمر اجتمعت وتشاورت فيه، فإذا اتفقوا على رأي عرضوه على صاحب الشورى، فإن وافقهم أمضوه ، وإلا رجعوا لرأيه وأخذوا به ، وكانت المشورة لبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وانتهت المشورة إلى يزيد بن زمعة الأسدي .

11-  الأشناق (الديات والمغارم ):- وتشبه هذه المكرمة ما نعرفه اليوم بالقضاء، فكان القائم على هذه المهمة يقضي بالنزاعات التي تقوم بينهم ، وكانت القبائل تحترم قضاءه وتنفذه، وكانت هذه المكرمة لبني تيم، وآخر من  تولاها قبل الإسلام أبو بكر الصديق.

12-  القبة والأعنة، وتشبه ما نعرفه اليوم بمخازن الأسلحة، وأما الأعنة فهي الخيل، وكانت هذه المكرمة لبني مخزوم وكان آخر من تولاها قبل الإسلام خالد بن الوليد.

13-  السفارة، وكانت المهمة التي يتولاها صاحب هذه المكرمة هي فض  النزاعات في السلم والحرب ، وكانت السفارة في بني عديّ، وآخر من تولاها قبل الإسلام عمر بن الخطاب.

14-  الحكومة والأموال المحجرة، وهي الأموال التي حكموا  أن تكون لآلهتهم (وقفاً على آلهتهم) وتصرف هذه الأموال لمن يقوم على خدمة الآلهة ، وكانت هذه المكرمة إلى بني سهم، وآخر من تولاها في الجاهلية الحارث بن قيس السهمي .

15-  الأزلام: وهي السهام المجردة من الريش، وكانوا يستقسمون بها، وكانت هذه المكرمة لبني جمح وأخر من تولاها في الجاهلية: صفوان بن  أمية الجمحي.

من هذا نرى أن مكارم قريش كانت خمس عشرة مكرمة توزعتها عشر قبائل، وهي القبائل التي اعترف لها الناس بالشرف والسيادة ، ولعلنا ندرك من تقسيم هذه المكارم مقام  كل قبيلة في قريش وكانت هناك تحالفات في داخل هذه  القبائل ، ولا نريد أن ندخل في تفاصيلها، ولكن عندما جاء الله بالإسلام انفرد بنو هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وبنو المطلب في مواجهة قبائل قريش الأخرى، وكأن المحالفات الداخلية في الجاهلية قد انفرط عقدها عندما جاء الله بالإسلام، بل إن بعض بني هاشم وبني المطلب انحازوا إلى قبائل قريش وعادوا محمداً ومن وقف إلى جانبه من بني هاشم وبني المطلب مسلمهم وكافرهم، ولعل أبرز هذه المواقف المعادية كان موقف أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم، فقد فارق عشيرته ووقف بصلابة إلى جانب القسم المعادي.

ودارت الحوارات والمناوشات بين بني هاشم وسائر القبائل، وكان هدف القبائل القضاء على الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

وتكالبت القبائل على بني هاشم، وحاصروهم وقاطعوهم ، وعندما رأى أبو طالب ما آل إليه أمر بني هاشم قال قصيدته اللامية المشهورة يفتحر فيها بيني هاشم ويعدد مآثرهم، ثم يذكر مواقف قبائل قريش المعادية، وهو خلال ذلك كله يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصر عل حمايته.

وكانت الأبيات التي مدح بها رسول اللهصلى الله عليه وسلم أجمل أبيات القصيدة وأكثرها إشرافاً، ويظهر من خلالها شدة حبه لابن أخيه محمدصلى الله عليه وسلم.

يقول راداً على طلب قريش أن يجلو  بنو هاشم عن مكة أو أن يسلموا محمداً لهم يقتلونه ([2]):

كذبتم وبيت الله نترك مكة
كذبتم وبيت الله نبزى محمداً
ونسلمه حتى نصرع حوله

 

ونظعن إلا أمركم في بلابل
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
 

ثم يمدح محمداً ويقول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
يلوذبه الهلاك من آل هاشم

 

ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فهم عنده في رحمة وفواضل

ثم يصرح يحبه له وأسباب هذا الحبّ

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد
فمن مثله في الناس أي مؤمَّل
حليم رشيد عادل غير طائش
كريم المساعي، ماجد وابن ماجد

 

وإخوته دأب المحب المواصل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل
يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
له إرث مجد ثابت غير ناصل

ثم يعدد بعض مناقبه فيقول:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب
فأصبح فينا أحمد في أرومة
حدبت بنفسي دونه وحميته

 

لدينا، ولا يعنى بقول الأباطل
تقصر عنها سورة المتطاول
ودافعت عنه بالذرى والكلاكل

والنضر بن الحارث رجل من بني عبد الدار، وهم أصحاب أربع من مكارم قريش: اللواء والحجابة والسدانة والندوة، وقف النضر يعادي الإسلام ، وكان يقعد في حرم الكعبة ويقول لأهلها أنا أحدثكم بأحاديث أفضل مما يحدثكم به محمد، فيجتمع الناس إليه، فيقص عليهم أحاديث الفرس من أمثال رستم وإسفنديار، ويقول للناس إن القرآن من صنع محمد وأنه من أساطير الأولين.

كان النضر يقوم بدور إعلامي قذر، وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم لا يتساهل مع الإعلاميين المعادين للإسلام، فلما وقعت معركة بدر، وقع النضر في الأسر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يقتله ، فقتله في مكان يقال له الأُثيل بالقرب من المدينة.

وكانت ابنته قتيلة بنت النضر امرأة حازمة ذات رأي وجمال ، فحزنت لمقتل أبيها، وأنشأت في مقتلة قصيدة عاتبت فيها رسول الله على قتله ومدحته (مدحت رسول اللهصلى الله عليه وسلم).

وعندما استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قصيدتها رق لها وقال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لوهبته لها،ويقال أيضاً: أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قد تأثر ببلاغة قتيلة في شعرها، وأنه أمر بأن لا يقتل قرشي صبراً بعد النضر.

وقال أبو الفرج الأصفهاني بعد أن روى قصيدة قتيلة : " إن شعر قتيلة أكرم شعر موتور وأعفه، وأكمله وأحلمه".

وجعلت قتيلة قصيدتها في جزأين، الأول منها بكت فيه أباها بكاء حاراً مؤثراً، فهي تقول([3]):

يا راكباً إن الأثيل مظنة
أبلغ به ميتاً بأنَّ تحيةً
مني إليك، وعبرةً مسفوحةً
هل يسمعن النضر إن ناديته
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
قسراً يقاد إلى المنية متعباً

 

من صبح خامسة، وأنت موفق
ما إن تزال بها الركائب تخفق
جادت بوابلها، وأخرى تخنق
بل كيف يسمع ميت أو ينطق
لله أرحام هناك تمزق
رسف المقيد وهو عان موثق

وجعلت الجزء الثاني في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وعتابه:

أمحمد، ولأنت نجل نجيبةٍ
ما كان ضرك لو مننت ، وربما
فالنضر أقرب من أصبت وسيلةً
لو كنت قابل فديةٍ لفديتهُ

 

في قومها، والفحل فحلٌ معرق
من الفتى وهو المغيظ المحنق
وأحقهم إن كان عتقٌ يعتق
بأعزِّ ما يفدى به من تنفق

هذه قتيلة الشاعرة التي قتل أبوها كافرا، وكانت هي لا تزال على كفرها تمدح رسول اللهصلى الله عليه وسلم رغم أنه قتل أباها، ذلك لأنها كانت تعلم شدة عداء أبيها للإسلام ورسول الإسلام، وكانت تعلم أن أباها خرج إلى بدر شاهراً سيفه بعد أن كان قد شهر لسانه في حربهم.

ولعلنا نذكر من تاريخ قريش أن بني عبد الدار وهم قوم النضر كانوا قد حازوا  مكارم قريش كلها بوصية قصي لابنه عبد الدار، ولكن بني عبد مناف وعلى رأسهم بنو هاشم لم يسلموا لهم بالوصية ، وانتزعوا منهم مكارم قريش ولم يبقوا لهم منها إلا أربعاً.

وأبو عزة الجمحي، وهو عمرو بن عبد بن عثمان بن وهيب بن حذافة بن جمح، وكانت لبني جمح إحدى مكارم قريش، وهي الأزلام، وكانت قريش تستقسم بها،وكان بنو جمح آخر قبائل قريش العشر منزلة ،  ومع ذلك كان فيهم سادة وأشراف.

وكان بنو جمح قد أوعبوا مع قريش لحرب المسلمين في بدر، وفي بدر قتل عدد من ساداتهم ، منهم أمية بن خلف الذي كان المسلمون يقولون له: رأس الكفر، لشدته في عدائه للمسلمين ، وهو الذي كان يعذب بلالاً في بطحاء مكة، كما قُتل ابنه علي بن أمية.

وكان ممن أسر في بدر أبو عزة الجمحي، فلما مثل بين يدي رسول اللهصلى الله عليه وسلم - شكى له فقرا، وطلب منه أن يمن عليه، قال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال ، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليّ، فمن عليه، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا، فقال أبو عزة يمدح رسول اللهصلى الله عليه وسلم([4]).

من مبلغ عني الرسول محمداً
وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة
فإنك من حاربته لمحارب

 

بأنك حق، والمليك حميد
عليك من الله العظيم شهيد
لها درجات سهلة وصعود
شقيٌّ ومن سالمته لسعيد

ثم إن أبا عزة  هذا نقض العهد، واشترك في معركة أحد ، وأُسر فيها، فطلب  من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه ثانية، فقال له رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "لا أدعك تمسح عارضيك وتقول: خدعت محمداً مرتين".

ثم أمر به فضربت عنقه، وقيل إن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال له يومئذ :"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".

هؤلاء ثلاثة من قريش، عاشوا في الجاهلية، وعندما جاء الله بالإسلام لم يسلموا، وبقي اثنان منهم على عنادهم إلى أن قتلوا ، أما قتيلة فقد قالوا إنها أسلمت ،وثلاثتهم مدحوا رسول اللهصلى الله عليه وسلم

%     %     %

وأمية بن أبي الصلت الثقفي، وثقيف ثانية القبائل العربية مكانة بعد قريش ، فقد كان فيها سيادة وفيها غنى ، وكانت أقرب القبائل إلى قريش.

وكان أمية دائب البحث في الأديان، وكان قد علم أن رسولاً سوف يبعث من العرب، فكان يطمع أن يكونه.

كل هذا كان له أثره الواضح في شعر أمية، وخاصة ما كان متصلاً بالمعتقدات الدينية التي استقاها من زياراته المتكررة لرهبان الشام واليمن  مع اطلاعه الواسع على الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، كان أمية ابن أحد سادات ثقيف ، وكانت أمه قرشية، فهو إذن في وشائج مع قريش، وقريش أخواله، فأمه رقية بنت عبد الشمس أخت ربيعة بن عبد شمس ، وقتلى بدر من بني عبد شمس عتبة بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة ابنا خاله.

الأخبار حول أمية فيها بعض الغموض ، فقد كان من المفهوم أن يسارع أمية إلى الإسلام عند مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان من المفهوم أيضاً  إن لا يثنيه شيء عن الإسلام وهو الذي أفنى عمره في البحث عنه وفي انتظاره.

ولكن الرواية تقول إنه كان غائباً عن الطائف ومكة، ولعله كان في الشام باحثاً عن الدين الحق، ولعله أطال الغياب كثيراً، فإن الرواية تقول إنه عندما عاد من سفره وعلم بالإسلام مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إليه ليسلم ، وكان ذلك بعد بدر، فلما علمت قريش بذلك قالت له: أتعلم من في قليب بدر؟ إنهم أبناء خالك : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وأخوه شيبة ، فصده ذلك عن الإسلام وانقلب يرثي هؤلاء ويأسى لمقتلهم

وقيل في نكوصه عن الإسلام غير ذلك، فقد قالوا إنه حسد محمداً أن يكون رسولاً: ذلك لأنه كان يطمع في الرسالة ففاتته.

ولكنه في فترة ما فكر في الإسلام ومدح رسول الله  صلى الله عليه وسلم([5])

لك الحمد والمنُّ رب العباد
ودن دين ربك حتى اليقين
محمداً أرسله بالهدى
عطاء من الله أعطيته
لقد علموا أنه خيرهم
يعيبون ما قال لما دعا
به وهو يدعو بصدق الحديث
أطيعوا الرسول عباد لإله
تنجون من ظلمات العذاب
دعانا النبي به خاتم
نبي هدى صادق طيب
ودفع الضعيف وأكل اليتيم
به ختم الله من قبله
يموت كما مات من قد مضى
مع الأنبيا في جنان الخلود
وقدس فينا بحب الصلاة
كتاباً من الله نقرا به
وإني أدين لكم أنه

 

أنت المليك وأنت الحكم
واجتنبنَّ الهوى والضجم
فعاش غنياً ولم يهتضم
وخص به الله أهل الحرم
وفي بيتهم ذي الندى والكرم
وقد فرج الله إحدى البهم
إلى الله من قبل زيع القدم
تنجون من شر يوم ألم
ومن حر نار على من ظلم
فمن لم يجبه أسر الندم
رحيم رؤوف بوصل الرحم
ونهك الحدود فكل حرم
ومن بعده من نبي ختم
يرد إلى الله باري النسم
هم أهلها غير حل القسم
جميعاً وعلم خط القلم
فمن يعتريه فقدماً أثم
سينجزكم ربكم ما زعم

وأخيرا فإن ممن مدح رسول اللههصلى الله عليه وسلم من شعراء الجاهلية  ولم يسلم الأعشى ميمون بن قيس من بني بكر بل وائل ، ولد في بلدة منفوحة على جانب وادي العرض أحد أودية اليمامة.

والأعشى من أشهر شعراء الجاهلية، وهو واحد من شعراء المعلقات، وشعراء المعلقات هم المقدمون من شعراء الجاهلية.

وكان الأعش مغرماً بالخمر، وممن وصفها وأجاد وصفها حتى إنك لتعده من المدمنين ، فقد روي أنه وبعد أن طعن في السن وعلم بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلمم أنشأ قصيدة في مدحه، وشدّ الرحال إلى رسول الله ليسلم ، وكان ذلك بعد صلح الحديبية .

وعندما علمت قريش بذلك اعترضت طريقه واستضافته بمكة، وحتى تصرفه عن الإسلام أخذت تعدد له ما حرمه كالزنا والربا، فلم يبال بذلك، ولكنه عندما علم بأن الإسلام يحرم الخمرة نكص على عقبيه وعاد أدراجه إلى اليمامة ولم يسلم.

والقصيدة مشهورة، تداولتها كتب الأدب قديماً ولا زالت تتداولها حتى اليوم، وفيها يقول ([6]):

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما
ولكن أرى الدهر الذي هو خاتر
شباب وشيب وافتقار وثروة
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
وابتذل العيس المراقيل تغتلي
فإن تسألي عنى فيا رب سائل
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فأما إذ ما أدلجت فترى لها
وفيها إذا ما هجرت عجرفية
أجدت برجليها نجاء وراجعت
فآليت لا أرثي لها من كلالة
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
نبى يرى مالا ترون وذكره
له صدقات ما تغب ونائل
أجدك لم تسمع وصاة محمدٍ
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى
ندمت على أن لا تكون كمثله

 

وعادك ما عاد السليم المسهدا
تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
فلله هذا الدهر كيف ترددا
وليداً وكهلاً حين شبت وأمردا
مسافة ما بين النجير فصرخدا
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
فإن لها في أهل يثرب موعدا
رقيبين جدياً لا يغيب وفرقدا
إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
يداها خنافاً لينا غير أحردا
ولا من حفى حتى تزور محمدا
تريحي وتلقي من فواضله يدا
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
نبى الإله حين أوصى وأشهدا
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا

وبعد فإن القارئ لقصائد الفترة الانتقالية من الجاهلية إلى الإسلام يستطيع أن يلم ببعض من بيئة الجاهلية التي أشرق عليها الإسلام ليبدد ظلامها، ولكن نفراً من الجاهلييين ترددوا في الإسلام وإن كانوا قد أعجبوا بالرسول ومدحوه، ولا نجد من بين الذين مدحوه وهم على جاهليتهم ثم أسلموا سوى قتيلة بنت النضر، ولعلنا أن نكون جديرين بأن نكبر هذه الشاعرة التي رغم أن أباها قتل صبراً بعد أن وقع أسيراً  في معركة بدر قد تجاوزت هذه المحنة وهداها تفكيرها إلى الإسلام فأسلمت.

ارتباط الشعر الجاهلي بالبيئة الجاهلية لا انفكاك له، فالذي يريد أن يفهم الجاهلية والجاهليين لا بد له أن يعبر إلى ذلك من خلال الشعر الجاهلي، وهذا ما نفعله في أبحاثنا عن البيئة الجاهلية من خلال الشعر الجاهلي.

               

([1]) قبائل قريش العشر التي توارثت الشرف بمكة ، أحمد الجدع ، طبعة الأولى ،2000م.

([2]) السيرة النبوية ، أبو الفداء إسماعيل بن كثير ، المجلد الأول ، ص 486 وما بعدها، الناشر دار المعرفة بيروت1391 هـ -1971 .

([3]) السيرة النبوية لابن  هشام ، دار الخير – بيروت ، الطبعة الأولى 1417هـ -1976، ج3 صفحة 36-37 .

وانظر أيضاً "المعلقات النسائية " أشهر قصائد النساء في الشعر العربي ، اختيار وشرح أحمد الجدع ، دار الضياء للنشر والتوزيع  ، الطبعة الأولى 417هـ-  1997م ص 47- 54.

([4]) السيرة النبوية لابن  هشام ، دار الخير – بيروت ، الطبعة الأولى 1417هـ -1976، ج2صفحة 228-229، وانظر أيضاً خزانة الأدب ، عبد القادر بن عمر البغدادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الجزء الأول ، ص 252- 253 .

([5]) شرح ديوان أمية بن أبي الصلت ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، ص 70-71.

([6]) ديوان الأعشى الكبير ، (ميمون بن قيس ) ، شرح وتعليق دكتور محمد محمد حسين  ، دار النهضة العربية – بيروت 1974، ص 185- 187.