التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة 13

التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(13)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

4- عمق الكتابة الشعرية وتحولاتها الجوهرية

والكتابة عند محمد بنعمارة لا تقف عند حدودها المعروفة ، بل تتجاوزه إلى التخطيط بالحروف وبالدم. لأن الكتابة بالدم سلوك وفي للعلاقة التي تربط الشاعر بشعره.

يقول محمد بنعمارة في تأكيده هذه الصلة وتوضيح علاقته بالكتابة الشعرية التي تنهج هذا الوضع:" إن القرابة بين الدم والشعر متينة وقوية. إذ لا انفصال بين الشاعر ودمه. وما دام الشعر - بهذا المفهوم - هو تأريخ للسيرة الروحية لصاحبه، وهو كشف عن أشواق الشاعر المستترة، ونقل لرؤاه الخاصة ، وتعبير عن مواقفه الوجودية التأملية، التي قد تتعارض مع نظرة المجتمع للإنسان، وعلاقته بذاته من حوله." [1]

إن أول ما يثير الانتباه هو أن بداية هذه التجربة( الكتابة بالدم والحديث عنه شعريا) لم تبدأ  إلا مع ديوان عناقيد وادي الصمت ، حيث الإشارة إلى هذا التوظيف في صورة ارتباط بالعشق غير المرغوب فيه في زمن الجوع، حيث يقلص الشاعر المسافة بينه وبين المتلقي ، وينصت لآلامه كي يعبر عنها بدمه.

يقول في قصيدة ( العشق في زمن الجوع والأحلام العجفاء):

 آتيك على متن الجوع

غمائم .. / وعواصف .. / ورياح ..

"عشق مكتوب بالدم "

ودمي أهدره حكام الواق الواق [2]

فالدم هنا تحول من دلالته العادية إلى دلالة ثانية مرتبطة أشد الارتباط بالتشكيل الصوفي، والعلاقة قائمة بين الشاعر والمتلقي من أجل التضحية المشتركة والانتماء للجانب الروحي. ويصيِّر الشاعر نفسه دم التضحية والكتابة ورمز العطاء المتواصل.

جاء قوله في قصيدة ( أناشيد عائشة الأفغانية ):

ــ يا مدن الغربة والنسيان

أنا دم هذي الأشجار

وذاكرتي

نبتت تحت الأجنحة

لترحل في عربات الموت

أنا دم هذا الزمن

وقطراتي أسكنها الرمل طويلا في أحداقه [3]

والاشتراك لا ينصب على العلاقة الثنائية بين الشاعر والآخر، إنما تصير الذات الشاعرة مزجا لذات الحرف ، وذات الحرف هي الكلمات التي تنسج خيوط النص الشعري، لذلك لا ينفصل الاثنان إلا ليقتربا ويمتزجا.

يقول في قصيدة ( باب الجسد.. حرفك أسرار الدنيا ):

ينبت ريشي تحت الإبطين

فأكتب في أسفل هذا النخل: اسمي – والحاء

وتحتل الأرض حروفي

 ثم تصير دما ممزوجا بدمي [4]

في تناولنا لهذا التجاوز للواقع المألوف، خصصنا العلاقة التي تربط المبدع بالمتلقي من جهة التمتع بالنص الشعري، واستنبات طاقتيهما لبنائه وإنتاجه. هذا الإنتاج يبدأ مع الشاعر الذي يبعث في روحه دما ينبض بدرجات التفكيك، والانسجام مع الزمن الفوضوي.

يقول في قصيدة ( الإيقاع الخامس ):

وهذه الأصوات مني

نايها زمن يطاردني

ويبعث في دمائي صوت ذاك النبض [5]

يتبين من خلال هذا التناظر في بنية النص الشعري عند محمد بنعمارة ، الكيفية التي كان يشتغل بها من أجل إيصال الفكرة، والفكرة ليست هي المقصودة في ذاتها، لكنها وسيلة وخلاص من سلطة الواقع. بمعنى أن الحلول في فكرة معينة وتوشيحها بالكلمة الشعرية ليست سوى تملصٍ من وقائع يعيشها الشاعر ويتمنى الفكاك منها.

وبذلك يختار الشاعر محمد بنعمارة أصعب المسالك التي يكتب بها شعره، لكن هذا الموقف إنما هو تحد للواقع المزري ذاته، ومحاولة التضحية من أجل تحقيق أفق التوقع المناسب.

يقول في قصيدة ( كتاب الألحان):

سيدتي الكلمه …!

يا سيدتي

سيظل مدادي

دم كبدي

سأظل كصوفي

يحمل أشواقه [6]

وهو بهذا لا يتمنى سوى وصول هذا التجلي إلى ذهن المتلقي وقلبه ، ويصبح أفقه شفافا واضح المعالم.

يقول في آخر مقطع من آخر قصيدة ( سأرسم عينيك الدامعتين )، في الديوان الأخير الذي صدر له:

أراك بلادا

تأمر حرفي أن يرسمها

تأمرني

أن أدخل مملكة الشوق

ليهتز المحراب الشعري

ويهتز النخل

ليسقط دم شعري

فوق

زجاج المرآةْ [7]

               

[1] - محمد بنعمارة: الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، ص- 133- 134.

[2] - محمد بنعمارة: عناقيد وادي الصمت، ص- 11.

[3] - محمد بنعمارة: نشيد الغرباء، ص- 56.

[4] - محمد بنعمارة: مملكة الروح، ص- 21.

[5] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 40.

[6] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة، ص- 63.

[7] - نفسه: ص- 102.