البلاغة والدرس النقدي

البلاغة والدرس النقدي


رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

 لا أزعم ان البلاغة بصفتها العامة حظ عربي فريد، لا تنازعها فيه لغة من اللغات ، فلكل نسق تعبيري في لغة من اللغات سمات بلاغية تدخل فيها الاستعارات والتشبيهات وما سواهما، من فنون تشبه السجع وِالتجنيس ، غير ان الذايقة البلاغية في اللغة العربية لها خصوصية من حيث بناء المفردة ،وبناء الجملة يجعل للدرس الباغي خصوصية من حيث انتماؤه للغة ذات خصائص مميزة.

زمن حق الدرس البلاغي عندنا ان يتناول في سياقاته العربية بعيدا عن منطق اليونان وغيرهم، ولا حاجة لاتهام العرب بضيق الأفق حينما قصَّر المترجمون الاوائل في ترجمة التخييل وربطوه بالتشبيه ، ولا استطيع أن أسير مع من زعم أن في ذلك القصور دليلا على جمود العقلية العربية ، واقتصارها على المحسوس الممكن دون البعيد المتخيل .

بل أرد ذلك إلى طبيعة التفكير الديني عند الفئتين؛ فالذين عبدوا الهة بشرا من دون الله، دخلت الاسطورة والخيال في منطق تفكيرهم؛ فكان النص الأدبي الصق بهذه القيم التخيلية.

أما العرب فهم إما جاهليون عبدوا أصناما، وقد شبهوها بمخلوقات بشرية مجسمة، أو عبدوا الها واحدا بضوابط تمنع التشبيه، فكانت حاجتهم الى الاسطورة اقل.

وقد تحدثنا فيما مضى عن قيمة الدرس البلاغي في تشكيل الرؤية النقدية القديمة ، خدمة للنص القراني،والحقيقة أن تناول النص من خلال المعطيات البلاغية يفتح للناقد بابين اثنين: باب الشكل الجمالي للتعبير البياني القائم على جدلية النظم التي اتسم بها الخطاب القراني البليغ في رؤية عبدالقادر، تناول النص باعتباره وحدات بيانية لا نصا مكتمل المزايا ، ولذا تنولت وحدات النص باعتبارها معزوفات جمالية ذات علاقة بطبيعة التفكير البياني للعرب ن الذي يقسم النص الى وحدات بيانية تتعامل مع وحدة النص كجملة بلاغية ، فالنشبيه في معظمه جمل اسمية ربطت بكاف التشبيه او ما ينوب منابها وذاك في متثل قولك : محمد كالاسد وكذا الاستارة ن بل يبقى التصور مشابها حينما نتجاوز التشبيه البسيط لندخل في التمثيل او التشبيه المركب او الاستعارة ن ولكن الجمال لا يقع في العبارة البيانية من حيث هي جملة نحوية، بل من حيث احتفاظها بمعطيات تخيلية فيها اعمال فكر وتامل ، ومحاولة اقناع عقلي او ذوقي لحمل الخطاب الى حيث يراد له منتهاه ؛ كذا في مثل قووله تعالى مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض ، او قول رسوله الناس كابل المائة لا تجد فيهم راحلة . فالجمال هنا يتاتى من جملة الاعتبارات الفنية التي تضافرت لحمل الخطاب البياني من عالم التخيل في التشكيل الى عالم الحقيقة في الدلالة المنطقية في الاحتجاج .

وهنا يقع الصدق في التمثيل البياني ، ويصبح الكذب البياني في بعض اعتباراته الجمالية صدقا يوزازي القيمة الخلقية لمفهوم الصدق .

الدرس البلاغي جعل تركيز المتابعة النقدية على البيت باعتباره جملة فنية قائمة بذاتها ، اذ اشترط القدماء في البيت ان تستفرع فيه الحاجات النفسية والنحوية ـ الا ما كان من قبيل السرد او العطف كما في قول من قالل :

ولمّا قضَينا مِن مِنى كلَّ حاجةٍ

ومسَّحَ بالأركانِ مَن هوَ ماسحُ

أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا

وسالتْ بأعناقِ المَطِيِّ الأباطحُ

فالجمال في هذه الابيات ليست اكتمال النص بقدر ما هو اكنكال الدفقة البيانية الايقاعية التي استجابت لقرحة الشاعر فتعانقت الالفاظ مع المعاني مشكلة لوحة فنية غنية.

ولا نتحدث هنا عن نظرية موت المؤلف وان سمح المنهج البياني الذي يركز على اللفظ او النظم بها لاصدار حكم ، ذلك ان المتابعة النقدية وان كانت منصبة على القيمة الفنية الا انها لمك تعلن انها بصدد اصدار حكم ، كالاحكام الصادرة عن النقد التحليلي او الدراسات الاسلوبية الحديثة ، في الدرس البلاغي بذور للدراسات الاسلاوبية لكنها لا تشكل منهجا كليا ذلك ان مفردات النقد القديم اوسع من ان تنحصر في البلاغة وان شكلت البلاغة اساسا لها.