محمديات وليد الأعظمي..

محمديات وليد الأعظمي..

القيم الدعوية والإنسانية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

         الإسلام هو الدين القيم، وقد قال عنه سبحانه وتعالى: {.. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم:30)، وقال تعالى: {إن هذا الدين يهدى للتى هى أقوم} (الإسراء:9  (.

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقدر القيمة الإنسانية ولو كانت فى غير المسلمين، وقد أثنى على حاتم الطائى الجاهلى؛ لأنه كان كريمًا وصالاً للرحم، يحب مكارم الأخلاق، ولذلك أمر بإطلاق ابنته «سفّانة» التى سبيت ضمن أسرى «طيء» وللسبب نفسه نهى المسلمين عن قتل أبى البخترى بن هشام فى بدر(1)

      كما كان (صلى الله عليه وسلم) يحب سماع شعر أمية بن أبى الصلت - وكان كافرًا - لما فيه من حكم، ومعان راقية، ويروى أنه كان يستنشد المسلمين ما يحفظونه من شعره حتى سمع من أحدهم مائة بيت(2)

        فقيمة الشعر فى المنظور الإسلامى ترجع فى المقام الأول إلى ما يحمل من مضامين إنسانية بناءة، تنهض بالأمة، وتقوّم السلوك، وتهذب الذوق، وترسّخ العقيدة، وترقى بالوجدان، وليس معنى ذلك التضحية بالطوابع الجمالية، عاطفة، وتصويرًا، وتعبيرًا فى سبيل المضمون؛ لأنها هى الآلية التى تخلق قابلية المتلقى للمضمون، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة»(3)، وهى كلمة جامعة تضع أيدينا على العناصر الشعرية المتكاملة التى أشرنا إليها.

   الشاعر الرسالي

     والشاعر الرسالى لا يفتعل الالتزام القيمى؛ لأن هذه السمة تعد من المكونات الأساسية فى نسيج شخصيته الفنية، ومن هؤلاء عمر بهاء الدين الأميرى، ويوسف العظم، ونجيب الكيلانى، وجمال فوزى، وإبراهيم عبد الفتاح.

   ومن هؤلاء شاعرنا وليد الأعظمى (رحمه الله)، وقد كتبت عنه من قبل دراستين موجزتين:

الأولى: عن فلسطينياته الشعرية فى مجلة القدس.

والثانية: عن محمدياته الشعرية: المنهج والملامح(4)

      وختمتُ الدراسة الثانية بالكلمات الآتية: «إن محمديات الأعظمى، وإن صدق عليها وصف الشعر التاريخى، تجعل القيم الدعوية والإنسانية عقيدة وخلقًا وسلوكًا وسياسة، أظهر وأقوى ما يشد النظر فى القصيدة، أما الوقائع والأحداث، فتأتى فى المرتبة الثانية.

وبتعبير آخر: لا تساق لذاتها لهدف معرفى، ولكن لاستخلاص دلالاتها القيمية، وقيمتها تقاس بما تعكسه من هذه الدلالات، حتى لو كانت الواقعة صغيرة لا تشغل حيزًا واسعًا فى الزمان والمكان.

وهذا يتسق مع طبيعة شاعرنا الداعية الذى يهمه فى المقام الأول أن ينتصر لدينه، وينشر دعوته، وينهض بأمته ومجتمعه، وما كتبناه فى الدراسة السابقة إنما هى توطئة لاستخلاص القيم الدعوية والإنسانية فى محمديات شاعرنا المسلم وليد الأعظمى(5)

  مفهوم القيم

     والقيم فى المنظور الإسلامى تعنى قائمة الصفات العقلية والخلقية والنفسية والروحية التى يتحلى بها  الإنسان السوى، وهذه القيم تحكمها وتضبطها الوسطية العادلة التى تقوم بعملية توفيق دقيقة جدًا بين «الأعلى» و«الأرضى» وهو توفيق ضرورى لحياة القواعد الأخلاقية، وحيوية الالتزام بها؛ لأنه إذا حدث «انفصام» بين «العلوى» و«الأرضي» أي بين المثال والواقع فقد المثال قيمته العملية، وأصبح الواقع يتخبط بلا مرشد، أو ضابط، فلا الصيغة المجردة كقاعدة عامة، ولا التحليل الدقيق للحالة الخاصة معزولاً كلاهما عن الآخر يكفى لهداية إرادتنا، وإنما هو تركيب «المثل الشامل القادم من أعلى، مع «الواقع» الراهن.

     فبين المثل الأعلى والواقع، بين المطلق والنسبى يوجد الضمير الإنسانى علاقة توحيد يجب أن يستمر فى التقريب بين هذين الطرفين، بأن يؤكد رابطة ما بينهما فى صورة العمل الذى يولد من اقترانهما السعيد، ويرتدى هذه الصفة المزدوجة التى يمثلها فى وقت ثبات القانون الأزلى، وجدة الإبداع الفنى(6)

       وهذه الواقعية المثالية، أو المثالية الواقعية، ينضاف إليها خصيصة أخرى هى «أنها قيم عملية تطبيقية، بمعني أنها تستمد وجودها وجلالها من ظهورها فى الأعمال والسلوكيات، وهذا يقتضى أن يكون المسلم والداعية بصفة خاصة مثالاً وقدوة للآخرين.

      ويظل المثل الأعلى الذى يجب اتباعه هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصدق الله سبحانه وتعالى إذ قال: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب:21    (.

           ومن فضول القول أن نقرر فى هذا المقام أن «الدعوىّ» مرادف «للإنسان» فالداعية لا يعتنق، ولا يوجه إلا إلى ما هو إنسانى، المهم أن يكون هناك توافق واتساق وتكامل بين مفردات القيم التى يؤمن بها الداعية نظريًا وعمليًا بلا تناقض أو اختلال.

   الإيمان هو المَعين والمنطلق

       وشاعرنا الأعظمى كان شخصية متناسقة الملامح والتوجهات، بمعنى أن أعماله المنظومة، وأعماله المكتوبة كانت انعكاسًا أمينًا صادقًا لنسيج شخصيته فى أبعادها العقلية والنفسية والعَقَدية والخلقية، فالرجل منطلِق من الإيمان العميق برسالته الأدبية، وهو مرتكز على إيمان لا يحد بالله ورسوله، ومبادئ الإسلام وقواعده.

     وهذا الاتساق الإيمانى يعنى أنه لا تنافر - بأية حال - بين الجزئيات المكونة لعطائه الفكرى والأدبى، بل تأخذ كل جزئية منها مكانها الطبيعى فى هذا النسق الممتد.

    فالإيمان هو القيمة الكبرى، والقيمة الأساس التى أكدها وألح عليها الأعظمى مرات متعددة فى محمدياته، ففى قصيدته  "بدر الكبرى" يؤكد أن الإيمان هو مفتاح النصر فى ميدان القتال:

وإنا لمنصورون مادام عندنا

يقين وإيمان يغذيهما صبر

وإيماننا بالله أكبر ناصر

وحجتنا قول الكريم : وما النصر

    والإيمان بمفهومه الشامل العميق إذا كان هو مفتاح النصر فى المعارك، فإن دوره قوى ممتد فى تشكيل نسيج الأمة القوية لتبقى ناهضة قادرة لتدافع عن حقها، وتواجه ظالميها، وتتمسك بهويتها، وفى ذلك يقول شاعرنا فى قصيدته «وحى الإسراء» عن عقيدة الإيمان:

هى سرّ نهضتنا ورمزُ جهادنا

وبها تبلج حقنا وتنورا

لا شيء كالإيمان يرفع أمة

لتقوم تلوى الظالم المتجبرا

لا شيء كالإيمان يدفع غافلاً

عن حقه أو عاجزًا متخدرا(8)

ولتأكيد هذه الحقيقة يستحضر وقائع التاريخ الذى يقرر أنه:

لولا العقيدة ما تقدم خالد

بجيوشه مثل الهزبر مزمجرا

لولا العقيدة ما استبد بطارق

قلب يبز بعزمه الإسكندرا

فمضى يدق الظلم من أركانه

ويخوض من أجل العقيدة أبحرا(9)

منابع الإيمان

   والإيمان بمفهومه الحقيقى المديد ينهل ويعلّ من معينين أساسيين:

الأول: هو القرآن الكريم.

والثانى: هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسنته.

ويعتمد الأعظمى فى حديثه عن القرآن الكريم على منهج المناطقة فى التعريف «الجامع المانع»، فهو ينفى عن القرآن ما يعتقده فيه الجهلة والسفهاء وقصار النظر، ويأخذون أنفسهم بما يعتقدون فى حياتهم العملية، حتى أصبحت هذه المفاهيم الشائهة المختلة هى السائدة المتواترة.

ينفى الأعظمى عن القرآن هذه المفاهيم بشدة فيقول:

ما أنزل القرآن كى يتلى على

قبر تمدد فيه ميْت لا يعى

ما أنزل القرآن كيما تقتنَى

منه التمائم فى صدور الرضّع

هذى القشور فلا تقيموا حجة

منها على إسلامنا للمدعي(10)

أما المهمة الحقيقية للقرآن فقد أوجزها الشاعر فى قوله:

ما أنزل القرآن إلا منهجًا

للناس يهدف للنعيم الممرع

تستنبط الأحكام من آياته

ويكون للتشريع أفضل مرجع(11)

ويقول كذلك:

قرآننا مشعل يهدى إلى سبل

من حاد عن نهجها لاشك خسرانَ

قد ارتضيناه حكمًا لا نبدله

ما دام ينبض فينا منه شريان(12)

وهذا الإيمان القوى العميق الصادق بكتاب الله يدفع الشاعر إلى أن يشد فى قوة على هؤلاء الذين يستبدلون بالقرآن القوانين الوضعية، وهى من صنع البشر، وخصوصًا الملاحدة، فيقول من قصيدة  "يوم محمد ":

أنستخلف القرآن يا قوم عن هوى

بدستور ظلم من صناعة ملحد

أنبغى بديلا عنه وهو منزل

من الله لم يترك مجالا لمعتد

فيا قوم خلوا النوم عنكم وسارعوا

إلى الله فى ظل النبى محمد(13)

   شخصية الرسول وسنته

     والمعين الثانى الذى يسترفده إيمان الشاعر هو شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) الرحمة المهداة، والقدوة، والأسوة، وقد سئلت عنه السيدة عائشة (رضى الله عنها) فقالت: «كان خلقه القرآن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه»(14)

   لذلك كان حبه من حب الله، وهو مقدم على الأهل والولد والمال، وكل مظاهر الحياة، مصداقًا لقوله تعالى {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين} (التوبة:24  (.

   وعاش الأعظمى يفيض قلبه بحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما يشى شعره، من ذلك ما نراه وهو يناجى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بوجدان متوهج فى الأبيات الآتية:

رسول الهدى إنا اتخذناك مرشدا

شمائلك الغراء والخلق الطهر

نبايعكم ألا حياة لخائن

تمكن من أعماق نيته الغدر

نبايعكم أن لا حياة لظالم

يحيط به طيش ويدفعه كبر

نبايعكم أن لا حياة لمعتد

بغير الأذى لا يستقيم له أمر

نبايعكم أن لا حياة لملحد

حقير عديم الأصل منشؤه العهر(15)

   ومن هذه المناجيات التى تنم على حب عميق واعتزاز صادق بشخصيته (صلى الله عليه وسلم) ما نراه فى الأبيات التى صدّر بها قصيدته «سيوف محمد» إذ يقول:

رسول العلا والفضل والخير والهدى

لكل سطور المجد اسمك مبتدا

ولى فى معانيك الحسان تأمل

سمعت به قلبى يقول  "محمدا "

ويهتز للذكرى حنينا وحرقة

فيهتاجه الشوق الذى جاوز المدى

ويغمره فيض من الوجد سابغ

يضوع به قلبى أريجًا موردا(16)

ويرى فى ذكرى ميلاده ربيعًا للأرواح والقلوب، يحرك فى النفس أنبل مشاعرها، ويطلقها من إسار المادية الأرضية الصمّاء:

ويبعثها حرةً لا تضيقُ

بكبد العواذل واللوم

ويرفعها من حضيض التراب

إلى الأفق الأرحب الأكرم

ويغمرها بحنان السماء

ويمنحها هيبة المسلم

فتشرق فى القلب أنواره

وينبض بالحمد للمنعم

وحب الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتبجيله وتمثله، ومعايشة ذكراه يغمر النفس بالطمأنينة والأمن والسكينة والسلام، كما نرى فى مطلع قصيدته  ""صدى البردة":

للمصطفى فى نفوس الخلق تبجيل

وهيبة زانها ذكر وتهليل

نحس بالأمن فى ترديد سيرته

والقلب بالهم أو بالغم مشغول

وبالسكينة تغشانا وتغمرنا

ملائك الله بالنعمى وجبريل

وتطمئن قلوب مسها نصب

فطاب منها إلى الرحمن تبتيل(18)

   القيم العملية

     ولكن هذا الجانب الشعورى - حبًا وتقديرًا واعتزازًا - يفقد قيمته إذا لم يأخذ صاحبه نفسه بمقتضيات هذا الحب، وخلاصتها: اتباع منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى خلقه وسلوكه وأقواله وأفعاله.

فكان من الطبيعى أن نرى الأعظمى يعطى اهتمامًا خاصًا فى شعره، لقائمة القيم النبوية العملية التى أصبحت مجتمعاتنا فى أشد الاحتياج إليها فى وقتنا الحاضر.

        ويثنى الأعظمى على الإخوان الذين نزل بهم أشد العذاب على يد طاغية مصر، أو فرعون العصر الحديث، وذنبهم أنهم لم يعترفوا إلا بزعامة الرسول (صلى الله عليه وسلم) , ولم يختاروا دربًا غير دربه، إننا نراه يتوجه بالحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائلاً:

جنودك يا رسول الله كادت

قيود الظلم تأسرهم جميعًا

لقد صبروا على البلوى وبرّوا

وهم يتحملون أذى مريعًا

فما هتفوا لغيرك من زعيم

ولم يتقبلوا نهجًا وضيعًا

ولا عرفوا سوى الإسلام رأيا

ولا أبدوا لطاغية خضوعا

  وهذا الفصيل من المؤمنين كان وما زال شعارهم : الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، وكان الشاعر- وهو واحد منهم- يردد مفردات هذا الشعار فى قصائد متعددة(20 (.

    ولأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الزعيم , وهو الأسوة والقدوة، نرى الشاعر يعرض كثيرًا من الأعمال التى أداها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , وحقق بها - فى واقع الحياة - أرقى القيم الاجتماعية والخلقية والنفسية كمحاربة الفساد والبغى والعدوان، ودعوته إلى الوحدة، ونبذ الخلاف والحقد، وتوجيه المسلمين إلى درب الحق الذى يقود إلى العزة والمعالى، وما أشد احتياج الأمة الإسلامية فى وقتنا الحاضر أن تأخذ بها بصدق ويقين، يقول الشاعر فى قصيدته « "يوم النبى" :

نصحت لنا وأنت أب نصوح

وذللت الصعاب لنا ومنا

ووحدت القلوب على معان

وأهداف سمت قدرًا وشأنا

وحاربت الفساد بكل ربع

وبارحت البغاة تذوب حزنا

وكنت نهيتَ عن كل اختلاف

تكون ثماره حقدا وضغنا

وأوضحت السبيل إلى المعالى

لترقى، لا نحس أذى وأينا(21)

    ويبرز الشاعر قيمة إنسانية كبرى، وهى المساواة بين البشر، وجعل الأعمال هى معيار التفاضل، لا الجن، ولا المال، ولا الحسب، ولا النسب.

  وقد جاء فى الأثر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خطب أهل مكة يوم فتحها، فقال: «أيها الناس: لقد أذهب الله عنكم عبِّيِّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقى كريم على الله، وفاجر شقى هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، ثم تلا قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (الحجرات:13) يقول الأعظمى فى قصيدته "ربيع النبى".

وأدعوا الأنام لمنهاجكمْ

ومنهاجكم غاية المغنم

وروح السلام لكل الأنامِ

فلا عربىّ ولا أعجمِى

خلت بدعة الجاهلين الجفاة

وولت مع الباطل المرغم

ومات التفاخر والكبرياء

فكل البرية من آدم

وحل التفاضل بالصالحات

محل التعاظم بالأعظم

فما أبرم الله لم ينتقض

وما نقض الله لم يبرم(22 (

   الإسلام هو الحل

      وما عرضناه سابقًا - وهو قطوف من محمديات الشاعر - يؤكد إيمانه اليقينى المكين بأن «الإسلام هو الحل»، الإسلام بمفهومه الشامل كدين ودولة، ومصحف وسيف، وعقيدة وعلم، وعزة وجهاد، وقيادة وسياسة، أى كمنهج مستقيم للحياة الحرة الكريمة.

وقد جمع الشاعر فى قصيدة واحدة بين الثلاثية الجليلة النبيلة: الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والقرآن الكريم، والإسلام الحنيف، وهى قصيدة بعنوان «دستور» نظمها سنة 1955، وفيها يقول:

إنا لنهتف والرسول زعيمنا

وكتاب ربي عندنا دستور

يا قوم لو عدنا إلى قرآننا

لم يبق فينا عاطل وفقير

من حيث لا ظلم ولا بغى ولا

خمر، فكيف يعربد السكير؟

من يبغ ظلمًا فيه يلق جزاءه

لا آمر يعفَى ولا مأمورُ

أنعم بدستور السماء وحكمه

إذ إنه للمعدمين نصير

والله أعلم بالعباد وشأنهم

ولكل شيء عنده تقدير

علم. هدى. نور به وسياسة

فالدين حق والسياسة زور

أنى لنا بالجمع بين كليهما

والفرق بين الوجهتين كبير؟

فأجبتهم بصراحة: ما ضر لو

ساس الأنام مهذب وغيور؟(23)

       وكأنى بالشاعر قد نظم المقولة المشهورة لابن القيم: «إن تقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة، كتقسيم غيرهم الدين شريعة وحقيقة، وتقسيم الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها»(24)

   من التخلي إلى التصدي والتحدي

         إن القيم التى استخلصناها من محمديات الأعظمى تكشف عن تضاريسه العقدية والروحية والفكرية والخلقية، وقد عرفنا من قبل أن أعماله المنظومة والمكتوبة كانت انعكاسًا أمينًا صادقًا لنسيج شخصيته، وجوانيته بكل أبعادها.

     ولكن لا يكفى أن يتحلى الأديب الرسالى بهذه القيم فى صورتها الساكنة أو «الاستاتيكية»، بل يجب أن يكون لها حضورها الحركى «الدينامى»، ويمكن تصورها فى هذه الثلاثية: التحلى أى الاتصاف الذاتى، الأمر، أى توجيه الآخرين إلى أخذ أنفسهم بهذه القيم، النهى، أى مطالبة الآخرين بالتنزه والترفع عن كل فاحش ومنكر، والتخلى عن كل ما يناقض هذه القيم.

والآيات والأحاديث التى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أكثر من أن تحصى.

     ومن البدهيات أن كل أمر صريح يحمل نهيًا ضمنيًا، فالأمر الصريح بالصدق مثلاً، يحمل نهيًا ضمنيًا عن الكذب، والنهى الصريح عن الظلم يعد أمرًا ضمنيًا بالعدل؛ لذلك تحدث الإمام أبو حامد الغزالى عن الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر كأنهما شيء واحد، أو قيمة واحدة، وذلك فى قوله: «إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو القطب الأعظم فى الدين، وهو المهم الذى ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد»(25)

وفى «المحمديات» نرى الأعظمى - إيمانًا منه بالإسلام بمفهومه الشمولى - ينكر فى شدة المبادئ والقوانين الوضعية، ومادية الحضارة الغربية، ويحمل فى قوة على من يخدعون بها(26)، وفى هذا الفلك يدور قوله:

إسلامنا كالطود يضرب فى السما

صعدا فما يجدى نقيق الضفدع؟

كالبحر ليس له حدود تنتهى

أنعافُهَ، ونعود للمستنقع؟

ما كان فى الإسلام من رجعية

ليقوم ينعته بها غر دعى(27)

ويحمل الشاعر فى شدة على الذين يتهمون الإسلام بالرجعية والتخلف من العلمانيين والملاحدة، والمفتونين بحضارة الغرب، مع أنها غارقة فى المفاسد والسقوط والتهتك والتناقض، واختلال المعايير.

وفى هذه الحملة يقول فى قصيدته «"روح وريحان":

ومسخرين يرون دين محمد

رجعية وبضاعة لا تنفق

خسئوا. فما عرف الحقيقة ملحد

ميْت الضمير، ولا جبان أحمق

كالببغاء يقول ما يروى له

جهلاً يقلد غيره ويزوق

مُتقلب حسب الظروف فمؤمن

يومًا ويومًا كافر متزندق

لا يستقر على قرار طبعه

ومتى استقر مدى الحياة الزئبق؟

طلعوا على الدنيا بأخزى فكرة

شوهاء ينكرها الحجى والمنطق

هدامة بأصولها وفروعها

تشقى الأنام بما تريد وترهق

فالحر فيما ترتئى متحلل

من كل شيء بالهدى يتعلق

أما الشريف فقد علمتم أمره

منهم وهل عرف الكرامة أخرق؟

والسلم فى لغة الوحوش مجازر

فيها دماء ذوى المروءة تهرق(28)

والجهاد من قيم الإسلام الكبرى، شرعه الله سبحانه وتعالى لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ورد الظلم، ونشر العدل، لذلك يرى الشاعر أنه السبيل الوحيد لاسترداد الحق السليب، وتتعدد حملاته الشعواء على دعاة التهاون والاستسلام، هؤلاء الذين:

تدور أعينهم من خوفهم فزعا

كأن أعينهم عن حقهم حول

فى كل مؤتمر تبدو مبادرة

فيها لشباننا الأبطال تخذيل

يقررون، ويحتجون لاهية

قلوبهم، فهى أدوار وتمثيل

لاينبسون بحرف فيه بارقة

من الصمود ليستقوى بها الجيل

يخشون «بوشا» ولا يخشون خالقهم

وهالهم من حشود الغرب تهويل

يهرولون ليرضى «بوش» سيدهم

عنهم، ويشكرهم «موشى» و«رابيل»

يصافحون البغاة الظالمين عسى

يكون ثمة للأعتاب تقبيل

وذلة أرهقتهم من تخاذلهم

وخسة وانكسارات وتوسيل(29)

وعلى هؤلاء الحكام المفرطين تبلغ الثورة والغضب من الشاعر أقصى مدى فيقول:

هم الأسود على أبناء أمتهم

وعند «شارون» أقزام مهازيل

قد انكشفتم ، بدت سوآتكم علنا

للناظرين، ولم تجْدِ السراويل

تلوثت بالونى والذل سمعتكم

فالروح واهنة والعزم مفلول

مياه دجلة لا تكفى تطهركم

ولا الفرات ينقيكم ولا النيل(30)

      وبعد هذه المسيرة نذكر القارئ بأن الشاعر (رحمه الله) كان حريصًا على تأييد «القيمة» بالوقائع التاريخية، وأن معالجته للمواقف والمعارك الإسلامية لم تكن من قبيل العرض التسجيلى الأفقى، على نحو ما فعل الشاعر أحمد محرم فى ديوانه مجد الإسلام، ولكن كان هدفه الأول اعتصار ما فيها من قيم عقدية ونفسية وخلقية واجتماعية.

كما أنه كان دائمًا يربط معروضاته بقضايا الأمة الإسلامية، وما أحوج الأدباء الدعاة للتزود بهذه القيم وسلوك هذا المنهج، ليؤدوا رسالتهم التى وقفوا أنفسهم ووقتهم لأدائها.

رحم الله وليد الأعظمى، وألحقنا به فى الصالحين.

         

المـراجع

  1. سيرة ابن هشام القسم الأول 629، تحقيق مصطفى السقا وآخرون، مصطفى الحلبى، القاهرة ط2.

  2. صحيح مسلم كتاب الشعر.

  3. صحيح البخارى كتاب الأدب.

  4. مجلة الرسالة القاهرية العدد 14.

  5. ديوان: وليد الأعظمى 53.

  6. دكتور محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق فى القرآن 126، ط1، بيرت 1973.

  7. الديوان 142.

  8. الديوان 244.

  9. الديوان 244.

  10. من قصيدة ليلة القرآن: الديوان 185.

  11. الديوان 185.

  12. انظر ص8 من تقديم عبد الله العقيل للديوان.

  13. الديوان 200.

  14. الشفا للقاضى عياض 1/207. تحقيق: أمين قرة وآخرين: مؤسسة علوم القرآن - دمشق (د.ت(.

  15. الديوان 141.

  16. الديوان 285.

  17. من قصيدة: ربيع النبى 220.

  18. الديوان 438.

  19. من قصيدة: إمام الأنبياء، الديوان 340.

  20. انظر قصيدة: يا رسول الجهاد. الديوان 321 - 325.

  21. الديوان 349. (والأين: التعب والمشقة )

  22. ا22الديوان 221.

23الديوان 58.

24إعلام الموقعين 4/375 لابن القيم، دار الجيل - بيروت (د.ت).

25إحياء علوم الدين 7/1186، دار الشعب القاهرة (د.ت).

26انظر قصيدة: إمام الأنبياء، وخصوصًا 340 - 341.

27الديوان: 185.

28الديوان 251.

29قصيدة: صدى البردة 439.0

30 الديوان: 440.