علي أحمد باكثير في ملحمة عمر (3)

سامية وفاء عمر الأميري

علي أحمد باكثير في

" ملحمة عمر "(3)

 

 

 

علي أحمد باكثير

سامية وفاء عمر بهاء الدين الأميري

أما المشهد الثاني فيصف التل المرتفع خلف ظهور المسلمين، حيث اجتمعت النسوة المجاهدات، يشحذن عزائم المجاهدين للمضي في الزحف.. كل مشغولة بعمل ما.. ونرى تفقد أبي عبيدة لأحوالهن عن طريق زوجته، وتقشفه وزهده في الطعام الذي صنعته له، واكتفاءه بتميرات يقمن صلبه اتباعاً لما رأى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده..

ننتقل إلى رومانوس الذي يكشف لنا عن رغبته في الزواج من خولة بنت الأزور، لحرصه على الزواج بمسلمة قبل استشهاده، وهي تأبى ذلك رغم وساطة زوجة خالد " أم تميم " فيتطوع ضرار ـ أخو خولة ـ بإقناعها بعد امتناع، لأنها كانت ترغب خالد، وتؤمل زواجه..

وبعد أن يصل خالد إلى مبتغاه ويحصر الروم في السهل، يوزع أمراء الكراديس، ويذهب وبعض أصحابه لاستطلاع المكان من جميع نواحيه.. وفي ذلك الوقت يصل رسول باهان إلى أبي عبيدة ويرى تقشفه وورعه، فيعلن إسلامه، يود أن يبقى عند المسلمين يقاتل معهم غير أن خالداً يطلب منه العودة لأن ذلك أفضل في مساعدتهم، فيبلغ خالداً أن باهان يريد قبعته الحمراء وفرسه ليقدمهما هدية لهرقل عند النصر، فيجيبه خالد إلى طلبه، ويقول له:..

" قل له يا جرجة: يقول لك خالد بن الوليد إن كنت حريصاً على إهداء القبعة والفرس إلى هرقل، فأرسلهما إليه في الحال، فإنك لن تعيش حتى تقدمهما إليه ".

وفي المشهد الرابع ننتقل إلى معسكر الروم حيث نرى باهان وحوله قواده وخاصة رجاله يتحادثون.. ونرى انهزام فرموس وقتل كل جنوده من قبل جماعة من المسلمين هاجموهم في الطريق، وأبقوا على قائدهم ليرجع إلى باهان بالقبعة والفرس ويبلغه رسالة خالد:.. قل لقائدك باهان إننا تمكنا من استرداد القبعة والفرس قبل المعركة، فخذهما ثانية وحاول أن تمنعنا من استردادهما مرة أخرى إن استطعت.

ونلاحظ بوضوح كيف أن جرجة ـ الذي أسلم منذ قليل ـ يحاول الإيقاع بين باهان وقوان... وكيف يدخل أبو بشير التنوخي العربي الجاسوس ويخبر باهان بأخبار المسلمين التي اطلع عليها..

أما المشهد الأخير فإنه يكشف لنا وطيس المعركة، وفكر خالد الواعي الشامل لدائرة الحرب من كل جهاتها، حيث يسد على الروم المنفذين الوحيدين اللذين لهما، وهما: وادي الرقاد في الشمال، ووادي العلان في الجنوب، وهكذا يطوقهم من كل جانب، ولا ينسى المسلمات المجاهدات اللواتي يرسل في طلبهن ليؤكد عليهن أن يردوا كل من تسول له نفسه من المسلمين أو الروم، المرور من ناحيتهن... وتبتدىء المعركة بمبارزة قيس بن هبيرة لأحد البطارقة، وتمكن قيس من قتله...

ويبقى لهيب المعركة متأججاً، وكل واحد مستميت في القضاء على عدوه وعندما ييأس الروم من العرب يلجأون إلى رماة الأرمن الذين يصيبون عدداً كبيراً من المسلمين في عيونهم... ويجتمع رأي خالد بعد مشورة صحابته للعمل على استئصالهم ، رغم احتمائهم بالتل الجنوبي الذي تحيط به صفوف العدو، ويتطوع الزبير بن العوام وأخوه عبد الرحمن وضرار لاختراق الصفوف والوصول إلى التل والعودة من الجانب الآخر...

كل هذا يدور وخالد يحرس المضيق مع عكرمة، الذي يحتج لأن بني مخزوم لم يسمح لهم بخوض غمرات الجهاد... فيرد عليه خالد بقوله:

"لا تتعجل يا عكرمة، فإني إنما أنتظر لأرمي بكم أنف الجلى.. والله لأكذبن ما زعم عمر..."

وينتدبهم لقتال رماة الأرمن ويخاطبهم ":

.. يا بني مخزوم، والله لو وجدت قوماً أحب إلي منكم لآثرتهم بهذه السهمة دونكم، إلا أن الناس قد سبقوكم إلى الإسلام فاسبقوهم إلى الشهادة، فرب مستميت يهرب منه الموت، ورب هارب من الموت إنما يهرب إليه " .

ويعود الزبير وضرار، ويستشهد عبد الرحمن بن العوام ويبايع عكرمة أربع مئة رجل لاقتحام الصفوف معه ومع قبيلته، ويسير بهم جرجة...

ويمضون في مهمتهم، وخالد يخطط ويرسم ويدبر، وأبو عبيدة يدعو الله بقوله:

" اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء "...

ويخرج خالد مع قيس وابن أبي بكر ليطاردوا خيل العدو، ويهبط الظلام شيئاً فشيئاً ويهبط الضباب، وتهب الريح، التي تذكر المسلمين بريح يوم الخندق، ويستمرون في محاربتهم رغم كل ذلك متكلين على الله...

وهكذا يسترسل باكثير في سرد الوقائع التاريخية، بشكل مفصل دقيق، ولو أننا سرنا مع كل أجزاء الملحمة، لطال مجال البحث.. وإذا نحن اختصرنا، فسنكون بذلك قد طوينا صفحات ناصعة من التاريخ، وغمطنا حق المؤلف في إبراز جهده...

ينتقل بنا أحمد باكثير في جزئه الخامس، إلى أرض الفرس، حيث يقدم لنا " تراب من أرض فارس" ذلك التراب الذي حمله الفرس للمسلمين لإهانتهم به، فكانت الحقيقة أن أكرموهم به، وكأنهم يقولون لهم (امتلكوا أرضنا)، فتفاءل بذلك المسلمون..

وفي الجزء السادس الذي عنوانه " رستم " التقى برستم قائد جيش الفرس قرب القادسية مع قواده، حيث يكون لقاؤه مع عدد من رسل سعد بن أبي وقاص أمير جيش المسلمين، الذين لا تشغلهم هذه المواقف الحربية الدقيقة عن حرصهم العميق على ممارسة ذاتهم المؤمنة وأداء رسالة الإسلام، فيدعونهم إلى اعتناق دين الله...

وتدور رحى معركة القادسية، في الجزء السابع، ومن عنوانه: " أبطال القادسية " نشم رائحة النصر للمسلمين والهزيمة والخذلان للفرس.. وفي هذه المعركة التي يلجأ الفرس فيها إلى الفيلة، التي تروع الخيل وتردهم، استطاع المسلمون بذكائهم، وبما وهبهم الله من بعد بصر وبصيرة أن يتغلبوا حتى على الفيلة، بقتل الفيل الكبير الذي تتبعه بقية القطيع، كما يستهدفون عيونهم بالرماية.

وفي القادسية تقع قصة أبي محجن الثقفي حيث يسجنه الأمير سعد لشربه الخمر رغم نهيه وإقامة الحد عليه، فيشق عليه أن يحرم من شرف الجهاد لإعلاء كلمة الله، ويتلطف في رجاء ملح زوجة سعد لتفك له قيوده.. فيستطيع المشاركة في الحرب ويخوضها بالفعل متلثماً ويبدي أعاجيب البطولة حتى إذا هدأ وطيس المعركة، رجع ليسلم يديه إلى القيد في سجنه...

وفيها ينكشف سر شيرين إذ يموت الجالينوس، وتكتشف بين ثيابه إحدى رسائل الجاسوسة التي كانت تبعث بها عن طريقه، فتهرب...

والمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى، الذي يحظى من ابن الخطاب بالعناية الكبرى، بعد أن يكون قد استلم مفاتيح بيت المقدس في أجواء تاريخية تزخر بمواقف عمر العبقرية الفذة، يكون كل ذلك موضوع الجزء الثامن: " مقاليد بيت المقدس " ...

ويتمكن المسلمون من الدخول إلى إيوان كسرى، حيث يجلجل صوت الأذان ويقيمون الصلاة لله،ومن هنا يضع باكثير عنوان جزئه التاسع " صلاة في الإيوان " وفي هذه الأجواء حاز المسلمون ثياب كسرى وتاجه وسواريه وسيفه ومنطقته.. وإنها لمغانم مادية كبيرة، ولكنها لم تكن عند المسلمين تعادل المغانم المعنوية والأمجاد التاريخية التي وفقوا فيها إلى إعلاء كلمة الله...

وفي الجزء العاشر " مكيدة من هرقل ": تزوج هرقل خلافاً لشرعه من ابنة أخته وكان وزره ينفر من صدره، فلما هزم اعتقد أنها عقوبة من الله على جريمته، وبدلاً من أن يتوب، غلبه طبعه الشرير فأظهر لعمر المهادنة وكتب إليه بها، بينما كان في السر يجهز الجيوش لغزو المسلمين من جديد: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (1) " ويبقى خطر آخر يتهدد المسلمين من جهة الغرب، إنه خطر الأطربون في مصر....

وينقلنا الجزء الحادي عشر إلى المدينة المنورة، وهناك يلتقي " عمر وخالد " حيث تظهر أخلاق المؤمن الغيور، وسجايا العربي الأصيل: يستدعي عمر خالداً ليحاسبه على هفوة ارتكبها، فيصارحه خالد بشدة وطأته وثقل ظله على أهله وعلى المسلمين، ولكنهما يؤوبان إلى صفاء الأخوة في الله ، وينطلقان من جديد لمتابعة مسيرة الجهاد لإعلاء كلمته.

ويكشف لنا الجزء الثاني عشر عن " سر المقوقس " : يندم المقوقس على ما قام به من اضطهاد وعذاب للقبط ، ويرغب في التكفير عن ذلك، فيداهن، من جانب، هرقل ملك الروم، بينما يساعد جيش المسلمين سراً من جانب آخر على دخول البلاد، ليحلوا فيها أمن الإسلام وسلامه وعدله.. وفي الوقت الذي يريد فيه أمير الجيش عمرو تبشير أمير المؤمنين بالنصر، تأتيه استغاثة أمير المؤمنين برسالة يقول فيها:

" من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص بمصر، سلام عليك أما بعد، أفتراني هالكاً ومَنْ قِبَلي وتعيش أنت ومَنْ قِبَلك.. فياغوثاه يا غوثاه"...

فيرسل الرسول ليبشره بفتح بابليون ويقول له:

" ... قل له أتاك الغوث، فلبِّثْ لبِّثْ.. لأبعثنَّ إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي ".

ويكون ذلك في الجزء الثالث عشر الذي يحدثنا عن " عام الرمادة الذي أصاب بلاد الجزيرة: وعن مسارعة المسلمين من أقاصي الأرض لنجدة إخوانهم بشكل منقطع النظير، وعن الموقف الحازم الذي كان يقفه عمر في تسيير الأمور وما كان يأخذ به نفسه من شدة حتى كان يستف ورق الشجر، وعلته من ذلك صفرة لازمته حتى الموت..

وتلم بالشام مصيبة أخرى هي الطاعون، فيرجع عن عزمه على دخولها رغم بلوغه مشارف حمص، تمشياً مع القاعدة الصحية التي توصل إليها الطب في العصور الأخيرة، وكان قد نادى بها محمد صلى الله عليه وسلم منذ البداية، يقول عبد الرحمن ابن عوف، سمعت رسول الله صلى يقول:

" إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه " (2).

" حديث الهرمزان " ـ الجزء الرابع عشر ـ:

تستمر الحرب بين المسلمين والفرس في تستر ويكتب الله النصر لعباده، فيظهر الهرمزان قائد الفرس المهادنة، محتكماً إلى أمير المؤمنين بنفسه، ويسر لشيرين أنه يريد الوصول إلى عمر ليقتله فيأبى عليها إسلامها الذي حافظت عليه بعد هربها وندمها، فتهم بكشف حقيقته، ولكنه يعالجها بضربة على رأسها فيقضي عليها، ويأمر بحملها إلى سدنة بيت النار لتعذيبها حتى تكفر بالإسلام.. وأمام عمر يتظاهر الهرمزان بالإسلام لينجو من الموت، ولكنه يدبر بنفس الوقت مع فيروز ابن بوران خطة لاغتيال عمر رضي الله عنه..

يضيق عمرو بن العاص بحصار الإسكندرية لطول مدته، ولكنه يصبر واثقاً بنصر الله ويتمكن المسلمون بالفعل من الإسكندرية يعاونهم شطا وخاله المقوقس وعندما يستنجز شطا عمراً وعده لغزو تنيسى حيث يوجد رأس الشر أبو طور الذي غرر بالهاموك والد شطا وضمه إلى صفه... فيوافق عمرو، ويعلن شطا إسلامه، ويتولى إمارة جيش تنيسى.. ويتلظى شطا باضطهاد أهله وصد خطيبته الحبيبة أرمانوسة، بسبب إسلامه ـ ومن هنا يأخذ الجزء الخامس عشر عنوانه " شطا وأرمونوسة " ـ ولكنه يثبت حتى يكرمه الله بالشهادة، فيتأثر لذلك والده الهاموك ويعتنق الإسلام بدوره فيجمع دين الله شمل الأسرة بعد شتاتها.

ويحدثنا الجزء السادس عشر " الولاة والرعية " عن بعض سجايا عمر ومزاياه، رضي الله عنه، من عدل وشدة في الحق وانتصار للضعفاء، وهنا تجلجل صحبة الفاروق الخالدة في وجه عامله على مصر في الحادثة المشهورة:

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

وتستمر أحداث التاريخ التي تتألق خلالها الأخلاق السامية والمواقف الرائعة، والبطولات النادرة، فتصل إلى حرب نهاوند التي يرشح الخليفة لقيادتها، عمرو بن العاص، ولكن هذا يقترح أن يقودها سيف الله خالد بن الوليد، فيقبل عمر ذلك، وتطيب به نفس خالد مستبشراً برضى أمير المؤمنين، غير أن قضاء الله يستعجله، فيمرض مرضا ًيقعده عن الجهاد.

وتمضي مؤامرة الخائنين على حياة عمر العظيم، يتولى أمرها عصابة من الأشرار: الهرمزان وجفينة وفيروز وكعب الأحبار، ويبرمون لذلك الحج موعداً، يخبرون به الفرس ليهجموا هجمتهم الكبرى فيشتتوا المسلمين قبل أن يصحوا من هول فجيعتهم من مقتل عمر.. ولكن الله يرد كيدهم في نحورهم..

وفي هذه الأجواء تجري وقائع هذه العجيبة التي هي أشبه بالأحلام أو الأساطير، ولكن علم النفس اليوم يبين لنا قابلية وقوعها: عز على خالد ألا يلقي بثقله مجاهداً في حرب نهاوند، وملك عليه ذلك شعوره ولا شعوره وكل عقله الظاهر والباطن ، حتى إنه لتكشف له ساحة المعركة في نهاوند وهو مسجى على سريره في حمص: اليوم جمعة، والفرس يهجمون، والمسلمون في توثب واحتراب، وقد قارب وقت صلاة الجمعة، فيستقر رأي النعمان بن المقرن المزني قائد جيش المسلمين على أن يؤدوا صلاة الجماعة ثم ينطلقوا في مواجهة العدو، وإذا بخالد يصيح من فراشه:

"هذه أحب ساعة كانت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القتال أن يلقى فيها العدو. أم عدي.. أبغيني القلنسوة.. (فتضعها على رأسه) أيها المسلمون الصبر الصبر.. هذه أخت اليرموك.. اللهب اللهب.. شدوا عليهم تلقاء اللهب.. شدوا عليهم صوبه يتهادوا فيه.. مرحى.. مرحى.. (تند منه صيحة) في.. زلق بي فرسي في الدم.. فزت ورب الكعبة... "

غير أنه ما يكاد يصحو من غشيته حتى يقول:

" نفذوا وصاة أمير المؤمنين. أعطوا الراية بعدي لحذيفة ابن اليمان... "

ولكنه لا يلبث أن يدرك الحقيقة فيقول:

" وابؤساه.. لست أنا الذي زلق به الفرس. لست أنا الذي فاز بالشهادة.. ذلك النعمان بن مقرن.. طوبى لك يا نعمان.. طوبى لك يا نعمان ".......

ولقد صدق ما قاله خالد حتى لكأن النعمان سمعه ساعة حمي الوطيس وهذا ما يقوله بنفسه، وهو يجود بأنفاسه الأخيرة، بعد أن بشره حذيفة بن اليمان بالنصر والفتح...

ويبشر عمر بالنصر فيهلل ويكبر حامداً الله على فضله، ولكن طبيعة الحياة التي لا بد أن تشاب بالأكدار، نغصت عليه وعلى المسلمين فرحتهم باستهتار النعمان ومن معه من جانب، وبموت خالد بن الوليد من جانب آخر.. ولكنهم آبوا إلى أمر الله: إنا لله وإنا إليه راجعون..

وإذا ما وصلنا إلى " القوي الأمين " في الجزء السابع عشر، يتألق أمامنا مزيد من صفات عمر النادرة فهو يتتبع أخبار ولاة الأمصار ويستدعيهم للمحاسبة والتوجيه والتسديد ويقضي شطراً من ليله ونهاره، يسير في أطراف المدينة، ويتفقد أحوال الرعية، ويصلح من شأنها، ويساعد محتاجها، ويعين ضعيفها.. وإنه لا يضيع صغيرة ولا كبيرة من أمر المسلمين إلا ويهتم بها، حتى إنه يرسل الشفاء ابنة عمه لاستقراء أحوال النساء، ومدى صبرهن على بعد أزواجهن ليأمر بألا يغيب رجل في البعوث أطول من تلك السنة..

ويشمل اهتمامه رضي الله عنه مساكين اليهود وأهل الكتاب فيأمر لهم بما يصلح شيخوختهم من الصدقة، ولا يحوجهم إلى التسول والتكفف...

ولا ينسى الحطيئة الذي يهجو الناس فيحبسه، ويكاد يحكم عليه بقطع لسانه، ولكنه يعاهده على الكف، فيطمئن إلى استصلاحه ويعفو عنه... وينتهي بنا المطاف بـ " غروب الشمس " آخر أجزاء الملحمة، يقص علينا فيه استمرار الخونة في تدبير اغتيال عمر، رغم عنايته بهم وإكرامه لهم، ويختارون عيينة بن حصن لأنه عربي لارتكاب الجريمة، ولكن فراسة عمر تكتشف أمره،فيضطرب عيينة ويكشف خبيئة الأمر باكياً تائباً، ويطلب من عمر أن يبعد عنه الأعاجم وأن يتخذ حراساً له، ولكن ابن الخطاب كان مستغرقاً بشئون المسلمين يهيئ في نفسه رحلة يطوف خلالها الأمصار حولاً كاملاً يتفقد أحوالها بنفسه مخافة أن تكون للناس حوائج لا تصل إليه، كما يستأنس بمشورتهم فيمن يخلفه من الصحابة الذين توفي النبي وهو عنهم راض...

وتعود شيرين إلى مسرح الملحمة من جديد، فقد حدث أن رغب يزدجرد بحمل كنوزه ليغري بها بعض حلفائه على ضرب المسلمين، ولكن أهل فارس حالوا دون ذلك، فأحس بدنو الهزيمة وهرب قبل أن تصل إليه طلائع جيوش العرب... وتصبح بلاد فارس في سلطان المسلمين وبذلك يصلون إلى محبس شيرين في بيت النار بأصطخر، حيث يعملون على إنقاذها بمساعدة خادم الهرمزان الذي كان قد أمره بسجنها، وقد هداه الله للإسلام... وهكذا يجتمع شملها بزوجها المعنَّى بعد صبر سنوات أربع لقيت خلالها أهوال العذاب، لكن الله ثبت قلبها على الإيمان..

ويفتح الله خراسان للمسلمين، فيشتد غيظ العصابة المتآمرة، ويكاد يأكل قلوبهم، ولاسيما فيروز ابن الخطيئة من رستم وبوران، فيهوي على عمر بخنجره المسموم وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر، ويطعنه طعنتين بليغتين، كما يطعن عدداً من المصلين ثم يقتل نفسه عندما يوقن أنه مأخوذ به..

يفيق عمر من غشيته فيعود إلى الصلاة، ثم يسأل عن قاتله فيعلم أنه فيروز فيستبشر قائلاً:

"الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها لله قط " .

ويستمر في الاهتمام بأمر المسلمين ويمنع أسرته أن تثأر له، ويفكر ملياً فيمن سيخلفه فيرى أن يترك الأمر في يد أصحاب الشورى، ويأمر أبا طلحة الأنصاري أن يقوم مع خمسين من قومه الأنصار على باب أصحاب الشورى ثلاثة أيام حتى يعقدوا العزم على تأمير أحدهم.. وعند ذلك يفرغ ما بقي من دقائق حياته إلى أولاده وزوجاته ومواليه، يطيب نفوسهم وهم يستزيدون من دعائه ورضاه حتى ترجع نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية..

ويكاشف عمر رضي الله عنه وأرضاه ابنه عبد الله بما وقر في نفسه من كيد جفينة والهرمزان وكعب، بتدبير اغتياله، ويوصيه بكتمان ذلك تحاشياً من وقوع فتنة بين عرب المسلمين وأعاجمهم، ولكن عبيد الله بن عمر يشق عليه الأمر ويلج في التحري حتى يدرك كبد الحقيقة، ويقتل الهرمزان وجفينة..

وهنا تظهر صفحة جديدة رائعة فذة من عدل المسلمين وتمسكهم بحدود الله فيؤخذ عبيد الله مغلولاً إلى المحاكمة، ويرى نفر كبير من الصحابة أن يقتل بهما، لعدم قيام الدليل القاطع على تآمرهما، ولأنه باشر قتلهما بنفسه، ويضج نفر آخر من المسلمين، ويشتد عليهم أمر قتل عبيد الله غداة اغتيال أبيه، ويقلبون وجوه الرأي، فيعرض على أولياء المقتولين أن يعفوا ويقبلوا الدية، وعلى هذا ينتهي الأمر.... وما تزال في النفوس شكوك وتساؤلات، ولكن شيرين التي تتصل بها هذه الأنباء، تؤكد التهمة على هرمزان، وينتهي الأمر بزوجته وابنه إلى الاعتراف كذلك، ويظهر عبد الله بن عمر إلى الإقضاء إلى خاصته بمقالة أبيه التي كان يكتمها خوف الفتنة عملاً بوصيته، فتتجلى الحقيقة ساطعة للعيان، وينكشف أمر البغاة الغدرة، ويلعب خلال ذلك كعب الأحبار دور الشرير في تأجيج نار الفتنة، ولكن الله يرد كيده في نحره...

ويختم علي أحمد باكثير ملحمته بقول الله جلَّ وعلا:

[ قاتلهم الله أنى يؤفكون] (3)...

[ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ] (4)..

الهوامش:

(1) سورة (آل عمران) ـ الآية: (54).

(2) ملحمة عمر: الجزء 13 ـ ص: 96.

(3) التوبة:30.

(4) التوبة:32.