الالتزام في مسرحية "أبو دلامة" لعلي أحمد باكثير
الالتزام في مسرحية "أبو دلامة"
لعلي أحمد باكثير
بقلم: عبد الحكيم الزبيدي
مؤسس ومدير موقع الأديب باكثير على الإنترنت
على غزارة إنتاج علي أحمد باكثير وتنوعه بين الرواية والمسرحية (الشعرية والنثرية) فإن هناك عاملاً مشتركاً وخطاً واحداً لا تخطئه العين الفاحصة، وإن كان يدق في بعض أعماله حتى لا يكاد يبين، ألا وهو الالتزام بالقيم العربية الإسلامية والمثل العليا وحمل هموم أمته المعاصرة سياسياً واجتماعياً. ويكاد باكثير بذلك أن يكون "الكاتب الوحيد الذي التزم بخط معين طوال حياته الأدبية لا يحيد عنه ولا يفرط فيه."([1])
وقد التزم باكثير بهذا الخط حتى وهو يعالج المسرح الأسطوري على نحو ما فعل في مسرحية (سر شهرزاد). ففي تلك المسرحية حلل باكثير شخصية الملك شهريار تحليلاً نفسياً رائعاً قدم تفسيراً مقنعاً لأفعاله الغريبة، إلا أن باكثير – وهو الكاتب الملتزم- أقحم فيها فكرة سياسية تتمثل في تمرد الشعب على الملك شهريار ومحاولة الإطاحة به لفساده وظلمه، مما جعل الدكتور إبراهيم حمادة – في معرض نقده للمسرحية- وبعد امتداحه لتحليل باكثير النفسي لشخصية شهريار يقول: "أما الحشوة السياسية التي فرضها على وقائع الفصل الثاني فهي تبدو مفتعلة ونتاجاً غير شرعي للظروف الأساسية في المسرحية، ولكنها نتاج شرعي لمزاج المؤلف الفني الذي نجد له أصداء قوية واضحة أو خافتة متوارية لأحداث عصره."([2]) ويخلص الدكتور إبراهيم حمادة إلى القول: "إن أهم ما يميز كتابات المرحوم علي أحمد باكثير –كما سبق أن أشرنا- هو صدقه مع ذاته ومع ثقافته ، فقد كان مبدؤه –رحمه الله- واضح القسمات محدد الغاية، ولا يعيبه أبداً التزامه بالدين أو القيم العربية التقليدية فإنه يفضل –في هذا المجال-الكاتب المتعدد الوجوه والأقنعة الذي يصدر عن كل مذهب أو يرتجل ارتجالاً وليس له من ضمير لا ديني ولا إنساني."([3])
وحسب باكثير التزاماً بقضايا أمته السياسية المعاصرة أن كان "أول من أرهص بمأساة فلسطين في مسرحه، وأنه أول من تناول قضية فلسطين في الأدب العربي المعاصر تناولاً فيه من الصدق الفني بقدر ما فيه من التيقظ القومي."([4])
وقد استطاع باكثير ببراعة فائقة أن يبدع فناً ملتزماً راقياً من الناحية الفنية، ولم يؤد التزامه بالقيم الإسلامية وبقضايا أمته المعاصرة إلى أن تطغى التقريرية أوالوعظية المباشرة على إنتاجه، وبذلك تحقق لأعماله شرطا الفن والالتزام. وفي ذلك يقول الدكتور محمد حسن عبدالله: "وإذا حق لي أن أمتدح كاتباً تحقق فيه شرط الفن والالتزام معاً فهو باكثير وربما أحياناً باكثير وحده."([5])
ونتيجة لهذه البراعة الأدبية في التناول يدق على كثير من قراء ودارسي أدب باكثير إدراك مغزى وغاية بعض أعماله الأدبية، وإن كان ذلك لا يقلل من متعتهم الأدبية بالعمل أثناء قراءته أو مشاهدته على المسرح. ومن تلك الأعمال التي عجز الدارسون عن إدراك الغاية منها المسرحية الهزلية (أبو دلامة) التي فازت بجائزة وزارة الشؤون الاجتماعية بمصر سنة 1950م.
فقد ذكرت الباحثة مديحة عواد سلامة في أطروحة الماجستير التي أعدتها عن مسرح باكثير أن "قارئ المسرحية يفشل إذا حاول التماس المغزى أو الموقف الفكري في ثناياها."([6]) وتضيف جازمة: "فلم يكن همّ الكاتب أن يلقي إلينا بمغزى أخلاقي أو فلسفة معينة قدر ما كان يهمه إضحاكنا ليس إلا."([7]) ولقد شاركها في هذا الرأي الأديب الراحل حسيب كيالي –رحمه الله- عندما رأى أن فوز المسرحية بجائزة وزارة الشؤون الاجتماعية بمصر عام 1950م هو "فوز –في رأينا- يغلب نظرية الفن للفن أو الفن للإمتاع على الفن للفائدة والإمتاع معاً كما نريد للأدب أن يكون."([8]) أما الأستاذ عبدالله الطنطاوي –حفظه الله- فقد تمنى لو لم يكتبها باكثير لأنه لم يجد فيها هدفاً أخلاقياً أو إنسانياً، وأضاف قائلاً: " فليس الإضحاك هدفاً في حد ذاته، ولا ينبغي أن يكون الإضحاك من أجل الإضحاك وحسب، بعيداً عن أي هدف خلقي أو إنساني."([9])
وسأحاول في السطور التالية أن أبين المغزى أو الغاية كما اتضحت لي من خلال قراءتي للمسرحية. ولست أزعم أن ذلك وحده هو ما كان يرمي إليه باكثير، ولكنها محاولة لتلمس هدف باكثير من وراء كتابة هذه المسرحية أرجو أن أكون موفقاً فيها، كما أرجو أن تشحذ الهمم لدراسة أدب باكثير الدراسة التي تعين على فهم مراميه ومقاصده من ورائها.
المغزى في مسرحية (أبو دلامة):
قدم باكثير لهذه المسرحية –كما عودنا في معظم أعماله- بآيات من القرآن الكريم هي قوله تعالى (وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا)([10]) وفي ضوء هذه الآيات الكريمة نستطيع أن نضع أيدينا على أول الخيط نحو الغاية التي أرادها المؤلف. فلقد قابل الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة بين الضحك والبكا من ناحية وبين الموت والحياة من ناحية أخرى، فالضحك مرادف للحياة كما أن البكاء مرادف للموت. وقد أشار الجاحظ إلى هذا المعنى في مقدمة كتابه (البخلاء) بقوله: "ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك وقبيحاً من المُضحك لما قيل للزُهرة والحبرة والحلي والقصر المبني: كأنه يضحك ضحكاً. وقد قال الله جل ذكره (وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) فوضع الضحك بحذاء الموت وإنه لا يضيف إلى نفسه القبيح ولا يمن على خلقه بالنقص".
أبو دلامة العابث:
قسم باكثير مسرحيته إلى أربعة فصول وعشرة مشاهد. في الفصلين الأول والثاني عرض باكثير لأبي دلامة اللاهي العابث الذي يقضي سحابة يومه بين الحانات وبين مجلس الخليفة يسليه بدعاباته ويطرفه بنوادره. وكانت علاقة أبي دلامة بأسرته على شر حال فهو دائم الخلاف مع زوجته وابنه دلامة الذي يقف إلى جانب أمه منكرين على الشيخ أبي دلامة تصابيه ومجونه.
أما علاقة أبي دلامة وأسرته بالخليفة فأبو دلامة لا يعدو أن يكون مضحكاً للخليفة يتسلى بنوادره إذا أكربته هموم السياسة. وقد اتخذت زوجتا الخليفة أبادلامة وزوجته وسيلة للتنافس فيما بينهما، فبينما تنتصر الخيزران لأبي دلامة وتغدق عليه الأعطيات والهدايا، فإن ريطة تنتصر لأم دلامة وتقربها وتعينها على أبي دلامة إذا وصل الأمر إلى مسامع الخليفة. وهكذا ظلت المرأتان تحرضان كلاً من أبي دلامة وزوجته على الآخر لتتسليا بخصامهما وبمكايد كل منهما للآخر. إلا أن دلامة ينجح في أن يصلح بين أبيه وأمه فيتراضيان مبطلين بذلك مكائد زوجتي الخليفة للتحريض بينهما، فتغضبان عليهما وتقطعان عنهما يد العون والمساعدة.
أبو دلامة المصلح:
أما في الفصلين الثالث والرابع فيحدث التغيير في حياة أبي دلامة، وذلك إثر وفاة ولده دلامة حيث يجزع عليه أبو دلامة جزعاً شديداً ويحزن حزناً عظيماً. ولكن الخليفة لم يكلف نفسه عناء تقديم العزاء لأبي دلامة في ولده الحبيب إلى نفسه، فيجن جنون أبي دلامة ويغضب من الخليفة ويجد عليه في نفسه. والحوار التالي بين أبي دلامة وزوجته يجلو ذلك بوضوح:
أم دلامة: (بعد صمت قصير) هذا الضحى قد متع يا أبا دلامة، أفلا تقوم الآن فترتدي ثيابك وتذهب إلى أمير المؤمنين فلعلك تجد في مجلسه ما ينسيك بعض همك ويعزيك وتنال لنا شيئاًَ من بره؟
أبو دلامة: (يتنهد) آه يا أم دلامة لقد صرت أكره مجلس المهدي ومن فيه، ولولا افتقاري إلى ما يفيض علي من سيبه لما أريت هؤلاء وجهي، ولا أسمعتهم صوتي، فوالله لا أنسى أبداً أن أحداً منهم لم يجئ لتعزيتي في دلامة!
أم دلامة: ويحك يا زند ! أما تزال تطوي على هذا الوجد ضلوعك؟ أفكنت تطمع أن يجئ أمير المؤمنين لتعزيتك؟
أبو دلامة: بل كان يكفي أن يبعث واحداً من رجال قصره ليواسيني في مصابي
.......
أبو دلامة: ... إنما أبو دلامة عندهم آلة تسلية وإضحاك !
أم دلامة: ويحك يا زند لقد علمت أن هذه منزلتك عندهم من قبل فما عدا مما بدا؟
أبو دلامة: نعم كنت أعلم أن هذه منزلتي عند المهدي، وعند أبيه المنصور قبله، وعمه السفاح قبل ذلك، فكلهم كان يدنيني وينفحني بالمال ليتسلى بنوادري ويضحك من عجري وبجري وكنت راضياً عن ذلك مغتبطاً به، ولكني ما كنت أظن أني من الهوان عليهم بحيث يموت ابني فلا يعزيني منهم أحد ولا يسأل عني في يوم مصابي([11])
هكذا يتفجر الأسى والحزن وخيبة الأمل في نفس أبي دلامة لموقف الخليفة منه. وهذا حوار آخر بين أبي دلامة وصديقه أبي عطاء يؤكد هذا المعنى:
أبو عطاء: ويحك يا أبا دلامة أما تزال واجداً على أمير المؤمنين أن لم يبعث أحداً لتعزيتك؟
أبو دلامة: لن أغفر له هذا التقصير أبداً، أما يعلم أن دلامة عندي خير من ولديه موسى وهرون؟ أيزدريني لأني أسليه وأضحكه؟ ويله، الله يعلم وحده أينا يسخر بصاحبه ويضحك منه!([12])
وهكذا يقرر أبو دلامة في نفسه أمراً. فبعد أن كان يستخدم موهبته الكوميدية في إضحاك الخليفة، متخذاً من شكله وأسرته ومعاناته وسيلة لذلك، إذا بأبي دلامة يصبح صاحب مبدأ ورسالة إصلاحية نقدية يستخدم موهبته الكوميدية وسيلة لها. وقد كانت أعظم فتنة في ذلك الوقت تواجه الخلافة وتكاد تعصف بها، وهي حديث الناس في كل مجلس، هي فتنة الخوارج الذين أعيا الخليفة أمرهم. فماذا كان رأي أبي دلامة في هذه المسألة؟
أبو عطاء: أراك كثير التجني على المهدي يا أبا دلامة، فلعله ما نسي أن يبعث لتعزيتك إلا لما يشغله من أمر هؤلاء الخوارج الذين استشرى خطرهم
الجنيد: نعم قد صار اهتمامه بهم حديث الناس في كل مكان
أبو دلامة: ما أدري والله لم يريد أن يحاربهم وهم مسلمون مثلنا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أفلا يتركهم وشأنهم؟
الجنيد: (بصوت منخفض) صه ! لو سمعك أحد من رجاله تقول هذا ما سلمت من العقوبة
أبو عطاء: نعم ... حذار يا أبا دلامة
أبو دلامة: والله لأقولن هذا لرجاله في القصرولجنوده أيضاً، فما أرى جلهم إلا راغبين عن الخروج لقتال هؤلاء المسلمين !
أبو عطاء: ويلك يا شيخ إياك أن تفعل فوالله ليكونن وبالاً عليك
أبو دلامة: وأنا والله لا أبالي([13])
ولعلنا ندرك مدى جرأة أبي دلامة هذه إذا علمنا أن الخليفة كان يضرب أعناق العلماء الذين يفتون بعدم جواز حرب الخوارج لأنهم مسلمون:
المهدي: ماذا وراءك؟
الحاجب: قد قبض يا أمير المؤمنين على شيخ قاض يخذل الناس عن حرب الخوارج زاعماً لهم أنهم مسلمون لا تجوز محاربتهم.
المهدي: (غاضباً) ويل له إن فعل ! قل للربيع بن يونس لينظر في أمره فإن ثبت ذلك على الرجل فليضرب عنقه. ([14])
. ويذهب أبو دلامة إلى قصر الخليفة ويتخذ من الزي الغريب الذي فرضه الخليفة –بإشارة من وزيره الربيع بن يونس- على جنوده ومن يغشى قصره أن يلبسه وسيلة للتندر. وحين يصل الأمر إلى مسامع الخليفة يضحك من تندر أبي دلامة ويأمر بإبطال ذلك الزي الغريب. إلا أن الخليفة يغضب غضباً شديداً حين يعلم أن أبا دلامة يخذل الجند عن قتال الخوارج بحجة أنهم مسلمون. ويصرح أبو دلامة برأيه هذا أمام الخليفة، فيأمر الخليفة بإرساله مع الجيش الخارج لقتال الخوارج ويوصي قائد الجيش بأن يدفع به في الصف الأول من المقاتلة.
وهكذا يخرج أبو دلامة مع الجيش للقتال، ولكنه ينجح بدعابته وروحه الفكهة في أن يستميل أحد شجعان الخوارج إلى جانب الخليفة بعد أن يمنيه بعفو الخليفة وأمانه، وأن يكافئه بما هو أهل له. ويقتنع الفارس وينسحب بخمسين من الفرسان إلى جانب جيش الخليفة بعد أن أخذ أبو دلامة لهم الأمان من القائد. وهكذا رجحت كفة جيش الخليفة وانهزم الخوارج وقضي على فتنتهم.
وبذلك تحول أبو دلامة من ماجن يضحك الخليفة بنوادره ليتصيد دراهمه، إلى صاحب رسالة يتفاعل مع هموم أمته ويستخدم مواهبه الكوميدية في نقد الأخطاء السياسية وحل المشكلات السياسية والاجتماعية المستعصية. وتنتهي المسرحية بعودة الصفاء بين أبي دلامة وزوجته أم دلامة من ناحية وبين زوجتي الخليفة من ناحية أخرى، وذلك بعد حيلة طريفة دبرها أبو دلامة ونفذها مع زوجته.
بعد هذا الاستعراض السريع للمسرحية، لا أجدني بحاجة إلى القول أن باكثير أراد أن يؤكد على أن الضحك نعمة من نعم الله عز وجل وآية من آياته، فعلى الإنسان أن يتخذ منه وسيلة للنقد الهادف والإصلاح السياسي والاجتماعي لا وسيلة للهو والمجون واستهلاك الوقت. فهل يحق لنا بعد هذا كله أن نقول أن مسرحية (أبو دلامة) كانت "تغلب نظرية الفن للفن والفن للإمتاع على الفن للفائدة والإمتاع معاً"؟
أرجو أن أكون قد وفقت في عرض وجهة نظري حول هذا الموضوع وأن أكون مصيباً فيها.
هوامش:
[1] - د. نجيب الكيلاني: حول المسرح الإسلامي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1407 هـ-1987م، ص 75
[2] - د. إبراهيم حمادة: شهريار فوق سطح الصفح الساخن، مجلة المسرح، العدد (70) فبراير 1970م ص 17
[3] - المرجع السابق
[4] - عبداللطيف الجدع وحسني أدهم جرار: شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، مؤسسة الرسالة، الجزء التاسع، الطبعة الأولى، 1403هـ-1983م
[5] - د. محمد حسن عبدالله: حوار حول الأدب الإسلامي، مجلة المجتمع، العدد (821) السنة (8)، 20 شوال 1407هـ - 1987،ص(39)
[6] - مديحة عواد سلامة: مسرح علي أحمد باكثير، دراسة نقدية، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي، جامعة القاهرة 1980م، مطبوعة على الاستانسل، ص (32)
[7] - المرجع السابق
[8] - حسيب كيالي: مشكلة ما تزال قائمة، الاتحاد الثقافي، 10 مارس 1992م
[9] - عبدالله محمود الطنطاوي: فلسطين واليهود في مسرح علي أحمد باكثير، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، 1997، ص 23
[10] - سورة النجم الآيات 42 حتى 44
[11] علي أحمد باكثير: أبو دلامة، مكتبة مصر، دون تاريخ، ص ص 91 - 93
[12] - المرجع السابق، ص 96
[13] - المرجع السابق، ص ص 97 و98
[14] - المرجع السابق، ص 101