دوائر فلسطينية وعربية
قصيدة ورأي
دوائر فلسطينية وعربية
قصيدة "ماذا تبقى؟!" لياسر عزام في دائرة النقد
بقلم: د. كمال أحمد غنيم
نص القصيدة:
السؤال الأول
ملأ الصدور وفاض حتى غصّ حلقي بالسؤالْ
والذل يعصر من عيون الناس أدمعها الثقال
والهمّ ينصلني، وقد كسر الضلوع على النصال
والناس أجداث ولا أرواح فيها.. كالخيالْ
وسؤالي المجروح تاه وعزّ -يا قلمي- المقالْ
هذا سؤالي أولاً:
..ماذا تبقّى في الرجال من الرجال؟
السؤال الثاني
يا قدس إني لم أبعْ، قد أثقلت جسدي الجراحْ
ما هنت لكنْ ران هُونٌ، فوق جرحي، واستراحْ
حكامنا باعوا البلاد وأهلها، باعوا الكفاحْ
ملأووا السجون وقيّدوا أحرارها، عَزّ السراح
يا قدس ما لي حيلة، إن الهوى فينا أطاحْ
وأنا هنا، وَهَناً هنا، والصمت يكسره النواح
وسؤالنا ملء الجراحْ..
ماذا تبقى في السلاح من السلاحْ؟
السؤال الثالث
تمضي السنون، يغيب قرنٌ آفلٌ، تُطوى السماء
ويُزفّ زهرُ الأرض للأعداء في ليل الفناء
ويغيب صبح الكون في عنف الظلام، ولا ضياءْ
والسافرات الكاسيات العاريات ولا رداءْ
يفخرن في عيش البهائم في الصحاري والعراء
ووجوههن جماد صخر،
لا احمرار ولا صفاء ولا حياءْ
أنا لست أدري ما جرى،
ماذا تبقى في النساء من النساء؟
السؤال الرابع
بلغ الزمان مداه وامتشق الحياة من المكانْ
وأقضّ أسباب الوجود وهزّ أركان الأمانْ
بلغ الزبى سيلُ الذنوب، وليس في الدنيا أذان
والناس يفتنها الظلام، وخمرةٌ بين الحسان
قم.. خلف بابك طارقٌ، إن القيامة خطوتان
أنذرْ، وعِظْ هذا المدى..
ماذا تبقّى في الزمان من الزمانْ؟
الرأي
تعالج قصيدة (ماذا تبقى؟) للأخ ياسر عزام هموم الإنسان العربي المسلم المعاصر، فهي تنتقل من وجع إلى وجع، وتسافر من دوائر ألم إلى دائرة عذاب، والأسئلة الملحة هنا أسئلة جارحة، تلتصق بذوات المسئولين (المقصود بالمسئولين هنا: من تطرح عليهم الأسئلة) بشكل موجع مستفز يستنهض الهمم ويجلد الذوات.
وقد شكل لهذه الأسئلة دوائر يظنها الناظر من بعيد منفصلة، ويحلق كل منها في فلك، ودوائر المعادلة تتناول بداية الرجال الذين استناموا واستمرأوا الذل، ثم تنتقل المعادلة إلى السلاح الذي يعاني من الصدأ، وقد كُبل أصحابه الأحرار، وسيطر على نبضه الحكام، وتشكل الدائرة الثالثة نقلة بعيدة تدين النساء اللواتي انخرطن في المؤامرة بشكل سلبي، لم يبالِ الرجال، ولا تأمل سجن السلاح، وكنّ أداة من أدوات ضياع الأجيال بتفاهة الفكر وسطحية العيش وتبلد المشاعر.
وأما الدائرة الرابعة والأخيرة فقد لجأت إلى محاكمة العصر الغارق في (سيل الذنوب) و(سيل الغفلة)، وكأني بهذه الدائرة تحاول أن تضع النقاط الثلاثة الدالة على الحذف المتبوعة بكلمة (إلىآخره)، والتي تمثل واقع النتائج المترتبة على الدوائر الثلاث الأولى، فالأمر قد تجاوز الحد، ووصلت الأمور إلى الضعف الكبير الذي تغيب فيه الحياة وتُنتزع وينكسر الأمن وينتشر الظلام.
وعلى الرغم من أن هذه الدوائر الاستفهامية القاسية قد تسللت إلى المتلقي بهدوء إلا أنها حملت عواطف متفجرة وآلاما مكبوتة، وكانت أسئلتها الختامية المستفزة مهذبة قياسا إلى البواعث التي انطلقت منها!
ولعل الأخ ياسر وهو ينتقل إلى دائرة النساء أحب أن يربط أطراف المعادلة ببعضها، فالهزيمة لا تعني غياب الرجال والسلاح بقدر ما تعني السير على منهاج حياة منحرف، والنصر لا تصنعه مجرد بندقية أو أسلحة غير صدئة، بقدر ما تصنعه مفردات الحياة الصغيرة وسيرها على محجة بيضاء لا انحراف فيها.
أما أطراف المعادلة الأخرى (السلاح والزمان) فهي في نظري أشبه هنا بالأطراف الثانوية إلى جانب الأطراف الرئيسة المتمثلة في جناحي الكون (الرجال والنساء) وهذه الأطراف نائبة عن أطراف أخرى كثيرة لم تحضر في المعادلة أو الشحنة الشعورية المكتظة بها على الرغم من ذلك! ولا تعني ثانويتها عدم أهميتها فهي تشكل الأطر التي تنتمي إليها الأطراف الرئيسة تلك الأطر التي لا تستغني عنها.
***
وأما عن جدلية التشاؤم والتفاؤل هنا، فهي حاضرة بقوة، وعلى الرغم من طغيان (التشاؤم) فإن الأخ ياسر يلقي التفاؤل في ملعب المتلقي، الذي قد تستفزه الأسئلة، فيقول: (لا!) أو (نعم!)، وتتفاعل لديه المشكلة، أو هكذا نتوقع!
كما أن هذه الأسئلة الملحة يقع لظاها على كاهل العاملين وغير العاملين فيقرأها الرجال الرجال، الحاملين أرواحهم على أكفهم، والنساء الملتزمات بالمحجة البيضاء، ويقرأها المتخاذلون والمتساقطات والحكام، فهل ظلم ياسر الطرف الإيجابي في المعادلة؟ هل حالنا بالفعل قاتم كما صوره هنا، أليس من رجال شرفاء ونساء ملتزمات وسلاح يفعل الأعاجيب؟
الإجابة هي: بلى! ولكن إجابة أولئك الإيجابيين التي أتخيلها هنا: تلك أسئلتنا، والشاعر عبر عنا، فنحن في المعركة وحدنا، وما زالت المعركة غير محسومة، وكثير من الناس في غفلة عنا وعنها، ولسان حالنا يصرخ بتلك الأسئلة، فهل توجعهم أسئلتنا؟
***
أما على صعيد الصورة والخيال، فقد عبرت الصور الجزئية عن واقع المأساة: (غص حلقي بالسؤال، سؤالي المجروح، ران هُون فوق جرحي، ويزف زهر الأرض للأعداء، سيل الذنوب...)، أما الصورة الكلية فقد انتمت إلى الصورة الدائرية التي تكتمل فيها كل مقطوعة للتعبير عن الفكرة العامة والعاطفة الأم في القصيدة، فكل مقطوعة تمثل صورة متكاملة دالة على مضمون القصيدة وتأتي المقطوعة الأخرى لتحدث إيقاعا آخرا يدور في الفلك ذاته، وقد أسهم في تحقيق الصورة الدائرية المضمون المولّد عن المضمون العام، والقافية التي تنوعت لكنها حافظت على ألف المد قبل الروي في كل الدوائر، والاستفهام الموجع الذي اتبع النمط ذاته.
والقصيدة تذكرنا بطلاسم إيليا أبو ماضي من حيث الشكل، وأما من حيث المضمون، فقد تقاطعت القصيدتان في مجال التشاؤم، لكن شتان بين تشاؤم جاذب إلى الغور المخيف، وتشاؤم جاذب إلى السماء!