عندما حدّث البحرُ خميس!
قصيدة ورأي
عندما حدّث البحرُ خميس!
بقلم: د. كمال أحمد غنيم
نص القصيدة:
رَجَعْتَ لي ، بعد أحزانٍ وآلامِ .
فأشرقَتْ ، من جديدٍ ،
شمسُ أيامي .
وعاد لي مَلَكُ الأشعارِ يُلهمُني
فانسابَ شعريَ ، من وحيٍ وإلهامِ .
والماء عاد إلى مجراه ثانيةً
وطاب جرحُ الهوى ،
من بعد إيلامِ
وصرتُ أنظرُ للدنيا فتُعجِبُني
ماذا أريدُ ؟
وأنتَ الآن قُدَّامي ..!
يكفي وجودُكَ فيها كي يدلَّ على
بديعِ صُنْعٍ ، لخَلاَّقٍ ورسَّامٍ .
يكفي وجودكَ فيها ، كي أحسَّ أنا
بأنني مَلِكٌ ، والكلُّ خُدَّامي ..!
إنْ قلتُ للطيرِ :
يا طيرُ اصدحي ، صَدَحَتْ
وأتْحَفَتْني ، بألحانٍ وأنغامِ .
وإنْ همستُ إلى الأنسامِ : إسرِ ، سَرَتْ
حولي ، كأعذب هبَّاتٍ لأنسامِ .
يا بحرُ ، كنتَ معي في كل ثانيةٍ
وكم رأيتكُ في نومي وأحلامي .
وكم توقعَّتُ أن ألقاكَ قبلُ وقد
صدَّقتُ ما قالهُ ، بالأمسِ ، حُكَّامي .
قالوا : " سنرجعُ " ،
طفلاً كنتُ حينئذٍ
واليومَ قارَبَت الخمسينَ أعوامي .
ما كنتُ أحسَب يوماً أنهم كذبوا
وأنهم ملأوا رأسي بأوهامِ .
وأنهم مَعَ أعدائي عليَّ ، ولا
يستهدفونَ سوى قتلي وإعدامي .
كيف التقينا ؟
ولم أسمعْ هنا أبداً
صهيلَ خيلٍ ،
ولا وقْعاً لأقدامِ . !
ولا رأيتُ جيوشاً حولنا رفعت
أعلامَها ،
أينها ، يا بحرُ ، أعلامي .؟!
لا . لا تقلْ إنَّ لقيانا مصادفةٌ
أو إنَّها رميةٌ ،
كانت بلا رامِ .!
تَعَجَّبَ البحرُ ، ممَّا قلتُهُ وبكى
وقالَ لي :
هذهِ أضغاثُ أحلامِ .!
فقلتُ :
يا عينُ لا تستيقظي أبداً
حتى وإنْ لمْ تُحسي بالكرى ،
نامي .!!
لم يكن اختيار الشاعر خميس لعبارة (وطني معي) حتى تكون عنوان مجموعته الشعرية
الأولى مصادفة، إذ أن الوطن راح يطل برأسه من ثنايا معظم قصائد الشاعر، التي حفلت
بكنوز عاطفية رحبة تتسع للوطن بما فيه من ملاحم عاطفية وبطولية...، وتتسع للكون بما
فيه من امتداد، وكان إطار تلك الكنوز العاطفية المزخرف الجميل إيمان هادئ مطمئن في
كل أحوال الانفعالات التي راودت الشاعر، وعبارة (وطني معي) تحمل أكثر من دلالة،
فالشتات يحلق في آفاقها، والمكابرة تحكم نسيجها، والثقة بوعد إلهي يرنق عبيرها،
و(وجع البعاد) ينبض من ثناياها، فهي تنبض بالحلم والعزاء والمكابرة والإيمان!!
وينسجم ذلك مع معظم قصائد الشاعر، ومنها قصيدة (عندما حدثني البحر)، التي يغمض
الشاعر فيها على الوطن بين عينيه في حلم لا يرجو منه فكاكا، لينكشف ذلك عن الوجع
الحقيقي الذي أشرنا له، فنحن نصدق الشاعر كما يصدق نفسه بأن الوطن معه، وأنه يعيش
في حاضره وفي حلمه، فالواقع المؤلم والماضي المؤسف والمستقبل الغامض بوتقة من
الحيرة والألم والقلق، يختلط المعنوي بالمحسوس فيها، مما ينتج تفاعلا عجيبا، يؤكد
أن الوطن هو الغائب الحاضر الذي يشكّل قضية (خميس) ويقضّ مضجعه.
ويفرز الشاعر ذلك الألم والحلم والعشق برقة متناهية، تهز المتلقي، وتنقل إليه
الدهشة التي يستشعرها الشاعر، تلك الدهشة الممزوجة في كثير من قصائده بالسخرية
المرة المتشظية في مفرداته وصوره وتراكيبه.
ومن الواضح أن الشاعر يميل إلى الإتقان وتكثيف القصيدة على الرغم من وضوحها الجميل،
فلا مجال غالبا للعثور على أبيات أو سطور يسهل انتزاعها من جسم القصيدة، هذا ما
نلمسه في أداء الشاعر، وما صرح هو به في مقابلة مع مجلة فلسطين المسلمة، حيث أفاد
أنه يمارس الإبداع الواعي الذي يختبر التجربة وعمقها، ولا يقدم على الاستجابة لها
إلا بعد الإدراك الواعي لتميزها وجدتها، وعندئذ يسجل القصيدة تحت سيل من الإلهام
المتدفق، الذي تتبعه مرحلة تنقيح طويلة، عبّر عنها الشاعر بأيام معدودة، يهذّب
خلالها ويحذف ويضيف ويغير، في شعور واعٍ بالمسؤولية تجاه ما يكتبه.
وأرى أننا نحوم حول القصيدة (عندما حدثني البحر) من بعيد، ولكن هذا التقديم لا بد
منه للوصول إلى شاطئ القصيدة على وعي، لعل عدواه انتقلت إلينا من الشاعر وهو يحدثنا
عن طقوس الكتابة لديه!
ومن الواضح أن الشاعر قد اختار للتعبير عن الوطن معادلا موضوعيا هو البحر، بكل ما
بينهما من خيوط التقاء: تلاطم الأمواج والأحداث، واصطخاب الظروف، وحب الشاعر لهما،
وصعوبة الركوب فيهما، والغور البعيد الذي يحتويه كل منهما، هذا عدا عن أن البحر
نفسه جزء من الوطن ومفردة من مفرداته، ولعل جمال المعادل الموضوعي هنا نابع من تلك
العلاقة الوثيقة بين الطرفين، ولعل القرينة الدالة على قصد المعادل الموضوعي، هي
وجود البحر في معظم أقطار الدنيا، حيث يستطيع الشاعر أن يشبع رغبته في حب البحر
بالذهاب إلى أي طرف من أطرافه في دول الجوار، أو الدول البعيدة المطلة عليه أو على
غيره من البحار، ولكن البحر هنا هو الوطن، ولا شيء يعادل الوطن؟
ويتميز شعر خميس عموما بالأسلوب القصصي، ونلمح ذلك في عنوان القصيدة (عندما حدثني
البحر)، فالعنوان يحكي قصة لها علاقة بزمان ومكان وحدث، والحدث هنا مبتور، يضمر
التشويق، وكأننا سنسأل: (ما الذي حدث عندها؟)، وتتفاوت نسب وجود عناصر القصة من
قصيدة لأخرى، وهنا تبدأ القصيدة بالحوار الخارجي الموجه من الشاعر للبحر:
رجعت
لي، بعد حزن وآلامِ
فأشرقت من جديد،
شمس أيامي.
ويتخلل السرد هذا الحوار، عندما يحكي الشاعر داخل القصيدة عن شعره وجرحه وهواه
ومعنى البحر عنده، كما يظهر السرد في تقديمه للشخصية الأخرى (البحر)، عندما يتقدم
للمشاركة في الحوار، حيث يسرد الشاعر ما ألمّ بالبحر من تعجب وبكاء متفاعل:
تعجب
البحر مما قلته وبكى
وقال لي:
هذه أضغاث أحلامِ.
وتمثل الحوار الرئيس في ثلاثة محاور هي حديث الشاعر للبحر، ورد البحر القصير عليه،
ورد الشاعر عليه في مخاطبة عينه وقد أدرك من كلام البحر أنه في حلم:
فقلت:
يا عين لا تستيقظي أبدا
حتى وإن لم تحسي بالكرى
نامي!!
وقد أجرى الشاعر حوارا داخليا أشبه بالمناجاة بينه وبين مفردات أخرى غير البحر،
مثل: (الطير، والأنسام، والحكام الكاذبين) وتلك المفردات لم تجب الكلام وإن امتثل
بعضها له:
إن
قلت للطير:
يا طير، اصدحي، صدحت
وأتحفتني بألحانٍ وأنغامِ.
وإن همست إلى الأنسام: اسر، سرت
حولي كأعذب هبات لأنسامِ.
وقد أسهمت تلك المناجاة في نسج خيوط الحلم الذي أحسن الشاعر بإقحامنا فيه من أول
القصيدة دون تمهيد، حيث جعلنا نعيش معه ما عاشه، ونستشعر معه صعوبة تصديق ما يجري،
مما يمهد لانكشاف الحقيقة على لسان البحر الحزين، ويؤدي بالتالي إلى الرغبة في
استمرار الحلم واستمرار الشعور الحالم بإمكانية التحرر والعودة واللقاء، وهو حلم
مشروع، والأمر بالنوم هنا ليس أمرا بالتقاعس، وإنما فيه إشعار بمتعة الحلم وتحريض
مضمر على السعي لتحقيقه.
ومن أدوات القصة التي وظفها الشاعر هنا ببساطة متناهية أسلوب الاسترجاع؛ الذي عاد
به الشاعر إلى جذور النكبة ووعود الحكام الكاذبة: (سنرجع!)، وهو استرجاع لمرحلة
الطفولة الحقيقية؛ التي مرت بالشاعر، والطفولة الرمزية للشعب الفلسطيني الذي صدق
بطيبة بالغة وعودا كاذبة!
وكان الاسترجاع هنا موجعاً، تلا استعادة الصورة المشرقة لحياة الشاعر القديمة مع
البحر والطبيعة، وهذا الاسترجاع المؤلم هو الذي مهّد لليقظة والعودة للواقع، لينكشف
الأمر كله عن استباق زمني، إذ أن اللقاء لم يحدث بالفعل، والأمر ما هو إلا حلم،
يستبق الواقع ويتنبأ بالمستقبل المشرق عندما يحدث اللقاء حقيقة مع البحر، عندما
يحدثه الشاعر على أرض الواقع لا على أرض الحلم!
ويعتمد الشاعر في معظم قصائده تقنية المفارقة بمفهومها العميق، فنحن هنا في مفارقة
بين الحلم والواقع، ومفارقة بين ماضيين واقعين بين إشراق ومعاناة. ونوع المفارقة
العامة في النص هنا مفارقة الأحداث، التي تقوم على اطمئنان الشخص لمجريات الأمور،
لكن تطور الأحداث يقلبها رأسا على عقب، حيث يجد ما يكشف خلاف ذلك الاطمئنان وهو ما
حدث للشاعر عندما اطمأن للقائه الحميم بالبحر، ولم يترك له فرصة للكلام على اعتبار
أنه شخص عزيز عليه، يراه بعد فترة طويلة جدا، ويستسلم الشاعر ونحن معه للذكريات
المشتركة مع البحر، وتقفز إلى الذاكرة الذكريات الجميلة أولا، ثم يتطور الأمر
بالحديث تدريجيا عن الذكريات السيئة، وهنا تصل المفارقة ذروتها، وخصوصا أن الشاعر
أعلن عن عدم تصديقه لما يراه، وتلك عادة الناس حقيقةً عند حدوث ما لا يتوقعون حتى
في عالم الواقع لا في عالم الأحلام وحسب، ويستطيع البحر (الشخص الآخر، والعزيز
الغائب) أن يختلس فرصة للكلام، ليؤكد أن ما يحدث هو وهم أو حلم، وعلى الرغم من
انكشاف حقيقة المفارقة، إلا أن الشاعر يبتدع خاتمة حالمة تمتد بالمفارقة بين الواقع
والحلم، حيث يتشبث بثياب الحلم، ويتمنى العودة إليه ليرسم بذلك هوة أكثر اتساعا
وعمقا بين الاثنين!!
وقد تميزت لغة الشاعر بالسهولة، والبساطة المستمدة من لغة فصحى قريبة من أفهام عامة
الناس مثقفين وغير مثقفين، وهي سمة تنسجم مع واقع القصيدة العربية المعاصرة التي
تعيش واقعها، وتتكلم بلسان أبناء عصرها، لا بلسان العصور السابقة، وقد استمد الشاعر
بعض ألفاظه وتراكيبه من المحكي اليومي عند الناس، مثل: (قدّامي، ملك والكل خدامي،
رمية من غير رام...)، وقد نستغرب حصر التركيب الثالث (رمية من غير رام) بين
التراكيب المحكية والمتداولة بين الناس لأنه تركيب تراثي، ولكن الاستغراب يزول إذا
أدركنا أن هذا المحكي شائع بين الناس اليوم، كما شاع في السابق، وهذا يثبت وجهة
نظرنا في استحسان لغة شعراء اليوم المنتمين لعصرهم، لأن لغة العصر ليست منسلخة عن
الماضي، بل هي تطور طبيعي ينسجم مع مكنونات اللغة وإمكاناتها، ويؤكد ذلك لجوء
الشاعر إلى لغة القرآن ولغة القرآن حية في عصرنا والعصور السابقة في عدة إشارات،
منها: (أضغاث أحلام، وحي،...)، وهو يستدعي رموز الجهاد التراثية في التعبيرات:
(صهيل خيل، ووقع أقدام...)، ويكسر المفهوم التراثي الجاهلي عن شياطين الشعر
بتعبيره: (ملَك الأشعار)!
أما إذا جئنا إلى رحاب الموسيقى في قصيدة (عندما حدثني البحر) فككنا رموز التلاحم
بين التراث والمعاصرة، فظاهر القصيدة انتماؤها لشعر التفعيلة الحرّ، القائم على
اختلاف عدد التفعيلات من سطر لآخر، ولم يسهم تكرار القافية في كشف هذا المظهر لأنها
تباعدت شكليا نوعا ما، وتكرارها أمر لا ينفيه شعر التفعيلة، واستحكم بذلك التمويه
الحادث، ولكن القصيدة عمودية صرفة، لا تشوبها شائبة، وهي من البحر البسيط المفعم
بالموسيقى، ويمكننا معاينة القصيدة بعد إسباغ ثوبها الحقيقي عليها كالتالي:
رَجَـعْـتَـ لـيـ ، بـعـد أحزانٍ وآلامِ
فـأشـرقَـتْـ ، من جديدٍ ، شمسُ أيامي
وعـاد لـيـ مَـلَـكُـ الأشـعارِ يُلهمُني
فـانـسـابَـ شـعريَ ، من وحيٍ وإلهامِ
والـمـاء عـاد إلـى مـجـراهـ ثانيةً
وطـابـ جـرحُـ الهوى ، من بعد إيلامِ
وصـرتُـ أنـظـرُ لـلـدنـيـا فتُعجِبُني
مـاذا أريـدُ ؟ وأنـتَـ الآنـ قُدَّامي ..!
يـكـفـيـ وجـودُكَ فيها كي يدلَّ على
بـديـعِـ صُـنْـعٍـ ، لـخَـلاَّقٍ ورسَّامٍ
يـكـفـيـ وجـودكَ فيها ، كي أحسَّ أنا
بـأنـنـيـ مَـلِـكٌـ ، والكلُّ خُدَّامي ..!
إنْ قلتُ للطيرِ : يا طيرُ اصدحي ، صَدَحَتْ
وأتْـحَـفَـتْـنـيـ ، بـألـحـانٍ وأنغامِ
وإنْـ هـمستُ إلى الأنسامِ : إسرِ ، سَرَتْ
حـولـيـ ، كـأعـذبـ هـبَّـاتٍ لأنسامِ
يـا بـحـرُ ، كـنـتَ معي في كل ثانيةٍ
وكـمـ رأيـتـكُـ فـي نومي وأحلامي
وكـمـ تـوقـعَّـتُـ أنـ ألقاكَ قبلُ وقد
صـدَّقـتُـ مـا قـالهُ ، بالأمسِ ، حُكَّامي
قـالـوا : " سنرجعُ " ، طفلاً كنتُ حينئذٍ
والـيـومَـ قـارَبَـتـ الخمسينَ أعوامي
مـا كـنـتُـ أحـسَـب يوماً أنهم كذبوا
وأنـهـمـ مـلأوا رأسـيـ بـأوهـامِ
وأنـهـمـ مَـعَـ أعـدائـي عليَّ ، ولا
يـسـتـهـدفـونَـ سوى قتلي وإعدامي
كـيـفـ الـتـقـينا ؟ ولم أسمعْ هنا أبداً
صـهـيـلَـ خـيـلٍ ، ولا وقْعاً لأقدامِ !
ولا رأيـتُـ جـيـوشـاً حـولنا رفعت
أعـلامَـهـا ، أينها ، يا بحرُ ، أعلامي؟!
لا . لا تـقـلْـ إنَّـ لـقـيـانا مصادفةٌ
أو إنَّـهـا رمـيـةٌ ، كـانـت بلا رامِ !
تَـعَـجَّـبَـ الـبـحرُ ، ممَّا قلتُهُ وبكى
وقـالَـ لـيـ : هـذهِـ أضغاثُ أحلامِ !
فـقـلـتُـ : يـا عـينُ لا تستيقظي أبداً
حـتـى وإنْ لمْ تُحسي بالكرى ، نامي !!
|
لتنكشف بذلك -كما قلنا- الصلة الوثيقة بين واقع شعرنا المعاصر وشكل القصيدة العمودي
الذي حرص الكثيرون على منحه السمة التراثية حباً في هجره والنفور منه، وجمال الأمر
هنا أن القصيدة تقدم دليلا عمليا على إمكانية تشرب الشكل العمودي (التراثي)
لجماليات العصر الفنية وأدواته المبتكرة.
وقد أمعن الشاعر في التزامه العروضي هنا بالشكل العمودي، عندما وحّد القافية وجعلها
الميم المكسورة بإيحاءاتها الصوتية المنسجمة مع عاطفة الشاعر نسبيا إذ أننا ممن لا
يؤمنون بالانسجام الصوتي الكبير بين الشكل الموسيقى وموضوعات القصائد، وجاء الإمعان
في اعتماد الشاعر لمكوّن موسيقي داخلي تراثي جميل، تمثّل في التصريع الموجود في
البيت الأول بين كلمتي: (آلامِ، وأيامي).
أما إذا تحدثنا عن المدرسة الفنية هنا، فإننا نقول إنها جاءت مزيجا ما بين الواقعية
والرومانسية فهي تعالج من حيث الواقعية قضية وطنية عامة من جهة المتلقي وهي قضية
المنفى، أو إن شئت بدقة أكثر قضية فلسطين المعاصرة، ويمارس من طرف خفي التحريض
والتوعية بكشف جوانب المؤامرة ومرارة الواقع، وجمالية الوعد الإلهي بحتمية اللقاء
مع البحر أو الوطن، ولكن ملامح الرومانسية تطل بين ثنايا القصيدة، من خلال جموح
خيال الشاعر، والحزن الممض الذي عالجه، والطبيعة الجميلة التي لجأ إليها، والمشاركة
الوجدانية مع هذه الطبيعة التي تستجيب له، فتصدح الطير إن خاطبها، وتسرى الأنسام إن
أمرها، ويخاطبه البحر، الحزين لفراقه والباكي لبعد الحلم عن الواقع، كما منح الشاعر
عمومية القضية الفلسطينية هنا خصوصية تعبر عن الذات ولا تنسى الآخر...