عناصر القصة القصيرة جداً

عناصر القصة القصيرة جداً

محمد غازي التدمري

تنهض القصة القصيرة جداً على حركتين اثنتين هما:‏
1-
حركة داخلية، تؤسس العلاقات النفسية والانفعالية، وهي تجابه الخارج الذي يشكل المورد الأساس لحركة الفعل المؤسس لموضوع القصة نفسها، والوسيلة إلى ذلك:
العلاقة التبادلية بين مفردات اللغة القائمة على الإيجاز والتكثيف، وبين ماتخزّنه النفس من فعل ورد فعل، ومن خلال تقابل الفعلين:‏
الداخلي والخارجي، أو نفورهما يتشكل محور الحركة في بنية القصة القصيرة جداً.‏

2-حركة خارجية تُشكل تقنيات القصة القصيرة جداً الناجحة، وتعتمد على جملة أنساق تبدأ بالمفارقة وتنتهي بالخاتمة مروراً بالحالة والإحالة. والغريب أن معظم من يكتب القصة القصيرة جداً لا يلتفت إلى هاتين الحركتين، مكتفين بتحقيق مستويين اثنين في بنائية ما يكتبون من قصص قصيرة جداً وهما:‏
1-
مستوى سطحي لا يتعدى حدود السرد العادي، الذي غالباً ما يتماهى مع فن المقالة أو الخاطرة، أو يلامس أطياف القصة القصيرة، مع إصرار أصحابها على أن ما ينتجون هو فن القصة القصيرة جداً عينه، من ذلك ما نقرؤه في أقصوصة بعنوان (أمومة) للقاصة (سعاد القادري): "خجلت أن أذهب إلى أمي في عيدها لأقول لها: كل عام وأنت
بخير، خشية أن أخدش مشاعرها وأذكرها بكوّنها لم تُنجب رغم رحلات العلاج التي رحلت بها بعيداً، وعادت دون أن تحمل في أحشائها أي مخلوق، ولم تمض ساعات من النهار حتى فتح الباب ليطلّ وجهها الجميل، احتضنتني، فتكسرت أضلعي حباً لها، وغسل وجهينا دمعٌ ساخن، لم أكن أدري أَذَرَفَتْه أم أنه من عيني، حين كانت كلمات: كل عام وأنت بخير تتلكأ على شفتي، بينما خرجت من شفتيهما قوية معافاة: كلَّ عام وأنت بخير يا.. ابنتي" (1)‏مثل هذا المستوى من السّرد لا يمكن أن يفرز قصة قصيرة جداً، لأنه لا يملك غير النثرية الخطابية، كما أنها لا تضم أي ركن من أركانها الفنية.‏
2-
مستوى آخر يعمق شغل القصة القصيرة جداً، فتفرض وجودها من خلال ذائقة فنية عالية يتمتع بها القاص الحاذق الذي يندفع وراء الموضوع: الحدث، ويوغل في تلافيفه بقصد كشفه والبحث عن ماهيته.‏
تقول (وفاء خرما) في قصة قصيرة بعنوان (عجز): "مات مقهوراً فقد تمكن طيلة حياته من أن يشتري بأمواله كل ما يشاء، ومن يشاء إلاّ جنازة مهيبة بعدد كبير من المشيعين" (2) إن حركة الداخل والخارج تأتي في هذه القصة القصيرة جداً من وعي جزئيات الفعل على مستوى الداخل النفسي، وحركة النمو الفعلي على مستوى الخارج
وعلى نسق قصصي مشبع بالإيحاء الذي يُشير إلى حالة إدهاشية إنسانية، تنهض بها لغة خاطفة تضغط أفكاراً تحمل أبعادها النفسية بشيء كبير من التوقع والإدهاش، وإذا انطلقنا من مقولة الدكتور [خليل موسى] في مقولته:‏
"
إنّ أي جنس أدبي لا بد أن تتوافر فيه سمتان: التوجه والإثارة [الفعل ورد الفعل] [النص والقارئ] فالتوهج خاصة ناجمة من التجربة الصادقة، والبناء المرصوص المكثف في النص والإثارة، هي ما تتميز به في نفس المتلقي من إعجاب ودهشة ولذة، وأي نص يفتقد أحد هذين العاملين لا نقبله في حقل أي جنس أدبي" (3)‏يمكن أن نقول: إن القصة القصيرة جداً والمتميزة بإبداعٍ وتقانة تنهض على ثلاثة عناصر رئيسة هي:‏
1-
المفارقة، وتعني "في أبسط صورها القصصية: جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية، أو هي تعرّف الشخصية تعرّف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمور متناقضة لوضعها الحقيقي، فالمفارقة هنا درامية، والمفارقة عموماً صيغة بلاغية تعني: قول المرء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح، وفي القصة القصيرة جداً لعبة فنية أو تقنية قصصية لا غاية لها إلاّ الخروج على السّرد، وهو خروج يبعث على الإثارة والتشويق" (4) الذي يتحقق من ثنائية المفارقة التي من الممكن أن تحمل أبعاد التقابل أو التضاد، الرفض أو القبول، الواقعي وغير الواقعي المؤمل أو المتخيل:‏

"في وسط الشارع رمى ظلَه‏
على قارعة الطريق أسقط أحلامه‏
في الحديقة طوّق العصافير منتظراً شيئاً ما" (5)‏
هذه القصة القصيرة جداً تضعنا أمام ثنائيات متعددة:‏
الواقعي: وسط الشارع، غير الواقعي: رمي الظل.‏
الواقعي: قارعة الطريق غير الواقعي سقوط الأحلام.‏
الواقعي: الحديقة، العصافير، المؤمل: انتظار شيء ما لذلك كان من أهم صفات المفارقة أن تسعى دائماً إلى تفريغ الذروة، وخلق متضادات.‏
ومن هنا كانت المفارقة العنصر الأهم في بنية القصة القصيرة جداً لأنها الحامل الأهم في تحريك كمون شحنة اللغة باتجاه الفعل الذي يُحرك بدوره أنساق الدلالات بهدف الانتقال من الانفعال إلى الفعل، مشكلاً حركة تصادمية تسعى إلى تعميق إحساس المتلقي بالأشياء المحيطة به، لذلك كان من وظائفها التقنية تشكيل الصدمة  الإدهاشية لا أن توجز حالة ما، قد تكون وجدانية، إنسانية، وطنية اجتماعية، ناقدة، ساخرة، أو تتأمل جزءاً صغيراً في الكون، أو تلتقط موقفاً ما، في تكثيف واختصار شديدين وتأخذ المفارقة أبعادها الإدهاشية من ثنائية الموقف الذي من الممكن أن يكون في لحظاته الأولى مؤثراً ودافعاً، ثم يزداد قوة، وترتفع وتيرة حرارته، وهو ينتقل من حالة فجائية إلى حالة استفزازية نابعة من موقف ما:‏
"
على مقعد متباعدين جلسا‏
سألها: بم تحلم؟‏
-
بهمسٍ دافئ حنون‏
اقتربا أكثر‏
-
سألته بما تفكر‏
-
بليل طويلٍ دافئ‏
-
التصقا‏
زعق حارس الحديقة" (6)
تبدو المفارقة هنا من وضعية الجلوس متباعدين وعلى مقعد واحد ومن طبيعة السؤال المتبادل، وبالتالي من رد فعل الجواب الذي أدى في المرحلة الأولى إلى الاقتراب، وفي الثانية إلى الالتصاق الذي كوّن الحالة الفجائية التي مهدت إلى تلك الخاتمة الإدهاشية المتمثلة بزعيق حارس الحديقة.‏
هذه المستويات من تعددية المفارقة نجدها أيضاً في الأقصوصة التالية:‏
"
استدار وأدار كرسيّه البرام دورات عدة‏
نفخ أوداجه مالئاً الغرفة صياحاً وزعيقاً‏
فجأة.. انكسر الكرسي، وارتمى بين أقدام المراجعين" (7) ثنائية المفارقة نراها في المستوى الأول المرتسمة على مدارات فعل المدير وحركته على الكرسي البرام. ثم تأتي المفاجأة من الكرسي الذي رمى صاحبه المتعجرف، وأين؟ بين أقدام المراجعين حيث أوصلت القص إلى وضع غير متوقع، والمهم في ذلك أن الحركة والانتقال من حالة إلى أخرى ليست تناوبية كما في القصة السابقة، وإنما حركة إيمائية درامية بدأت بحركة الكرسي وانتهت بالسقوط الصدمة، هذا ما يصل بنا إلى أنّ "المفارقة هي بصورة ما معطى نتيجة لتوفر بعض الأمور من فعل التضاد، والثنائيات اللغوية، المفارقة خلاصة موازنة ومقارنة بين حالتين يقدّمهما الكاتب من تضاد واختلاف يُلفتان النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلناً، بل يمكن أن يُستشف من النص، وهذه الثنائيات في صورة ما معطى لغوي، حمل دلالات في الموقف والمضمون، ولذا فإنّ مثل هذه الثنائيات قد تُضحكنا من جهة، لكنها تنغرز في جدران أرواحنا تحريضاً من جهة أخرى.‏
المفارقة تزيد إحساسنا بالأمر، إنها تُسهم في تعميق فهمنا للأمور وإيصالها بطريقة إيحائية أجدى من الطريقة المباشرة، وبما أنها خلاصة ومعطى فإنها تتكئ على كثير من الأدوات والرموز التي تشارك في تشكيل بنيتها، ولا يمكن إدراكها تماماً إلا من خلال النصوص فهي (تختفي كلما اقترب المرء منها) إذاً في تقنية ناتجة عن عناصر، لكنها تقنية تكثيفية تُسهم مثل غيرها من التقنيات (بأسلوبها الخاص) في قول الموضوعات الجزئية بطريقة تكثيفية فنية وهي بتعبير [دي. سي. ميويل] "فن قول شيء ما دون أن يُقال من قبل" (8)
2-
العنصر الثاني: الحالة: ليست الحالة في القصة القصيرة جداً حدثاً أو لقطة، يوغل القاص في تفصيل مسرودها على أركان الحكاية أو الرواية التي نفترض الحدث معماراً لسرد وقائع الحالة: الموضوع. الحدث وما يمكن إفرازه من حالات خاصة أو عامة، فهي بمعنى آخر ليست حالة استرخاء فكري أو أسلوبي، لأنها ليست وضعاً توصيفياً لفكرة القصة، إنها تجسيد لذلك كله، لأنه يُخمِّد الاحتمالات المنظمة للعلاقات السائدة في بنى القصة القصيرة جداً، فهي حالة وعي في ذات المبدع الذي يملك قوة الرؤية، ورهافة السمع، ودقة الملاحظة، مما يُسهم في نقل الحالة إلى المتلقي وهي تمهّد للمفاجأة عن طريق الخاتمة، الحامل لعنصري الإدهاش والاستفزاز فهي حالة تبكيت لمواجع النفس الإنسانية.‏
في قصة قصيرة جداً بعنوان (مثلي) للقاص الدكتور أحمد زياد محبك نقرأ: "استيقظ مغضباً، أجمل مزهرية في بيتنا وقعت على الأرض وانكسرت، أوقعتها القطة، وأحمل العصا، أجري في إثرها وأنا ألعن وأشتم.‏

وتعترضني زوجتي.‏
-
أرجوك، اتركها. انظر إنها حامل مثلي" (9)‏
ربما تبدو الحالة عادية من منظور مسرود القصة الذي وضعنا أمام صورة الرجل وهو يطارد القطة لذنب اقترفته، بيد أنها ومن خلال قراءة متأنية نلاحظ أنها في بنائية النص تخرج عن إيقاع المسرود اللغوي لتعمق وضعها في بنية القصة وقد بدا ذلك من:‏
1-
طبيعة الاستيقاظ.‏
2-
المزهرية التي كسرتها القطة.‏
3-
الوضع النفسي الداخلي المتسم بالغضب والثورة. الجري بقصد الانتقام.‏
4-
موقف الزوجة الإنساني، الذي يُحيلنا إلى المفاجأة التي تمهد للخاتمة
الإدهاشية (انظر إنها حامل مثلي) ومن هنا فإن الحالة هنا ليست سرداً مباشراً إنما تجسّد حالة من حالات التفتت الانزياحي للنص من وضع الغضب إلى العطف وذلك على مستوى المعايشة للحدث في الخارج، وعلى مستوى المعاناة الداخلية لكل من الرجل والمرأة، ولذلك كان من أهم ما تتميز عناصر الحالة ضغطها في لحظات مكثفة
ودفقات متوالية أهم وظيفة لها تعرية الواقع والكشف عن سلبياته.‏

في قصة بعنوان (ميراث) للقاصة "ابتسام شاكوش" نقرأ:‏
"
صحا جدي بعد سنوات من موته، قام يتفقد ميراثه، وينظر ما حلّ به، ولما وقف على الحقيقة، انتحر على الفور"(10)‏   إن الحالة في مثل هذه القصة المكثفة والمضغوطة تتوازى في مسرودها مع اللغوي الاقتصادي، وضغط الفعل الذي أنهض صاحب الميراث ليتفقد ميراثه الذي لم يجده مما دفعه إلى الانتحار فهي فعل تجسيدي مؤطر لحركة تنامي فعل الحدث الموضوع دون أن تفقد صلتها بالزمان أو المكان، فهي البارقة التي تشع من لغة مكثفة قادرة على
تجميد الاحتمالات في احتمال واحد.‏
"
أرادها جسداً بلا روح‏
أرادته عقلاً دون اسم‏
عند حافة السرير، اختلفا، ثم افترقا" (11)‏ الحالة هنا وضعية تبدّت من خلال رغبة كل منهما بالآخر، مشكلة مفارقة متناقضة شكلت حركة الفعل الأخير اختلفا ثم افترقا إذاً: إنّ الحالة عامل وظيفي في بنائية قصة قصيرة جداً ناجحة ومتألقة، ومن تماسك عناصرها تتشكل كمعادل موضوعي للإحساس لا الإحساس نفسه.‏
3-
العنصر الثالث: الخاتمة: وتشكل في القصة القصيرة جداً الغاية والهدف، ولذلك فهي تختلف عن أساليب الخاتمة في القصة القصيرة التي من الممكن أن تكون واضحة، أو مرمزة، أو مفتوحة على احتمالات كثيرة، أما في القصة القصيرة جداً فإن الخاتمة فيها ليست وليدة السرد، أو إحدى مفرزاته، كما أنها ليست معنية بالمضمون الذي من الممكن أن يفرض خاتمة ما، بل هي‍ الحامل الأقوى لعناصر القصة القصيرة جداً، فهي قفزة من داخل النص المتحفز إلى خارجه الإدهاشي والاستفزازي فهي "مجلى النص في داله ومدلوله ويتوشج كلاهما دون أن يحاول أحدهما تعويم الآخر، أو الإساءة إليه أو تقزيمه" (12).‏
في قصة قصيرة جداً بعنوان (هروب) نقرأ:‏
"
تحرّك المعلم بعصاه الغليظة‏
رمى الطالب كتبه والتجأ إلى لوحة‏
كُتب عليها.. مدرسة" (13)‏
في هذه القصة نلاحظ كيف تتجسد المفارقة في وضع المعلم الحامل للعصا الغليظة، والحالة التي تمثل هروب الطالب من عصا المعلم، هذا الهروب قهر للخاتمة التي تُظهر مكان اللجوء الذي لم يكن غير لوحة كتب عليها مدرسة مشكلاً حالة إدهاشية متحفزة تضغط أبعادها مع قيم المدرسة التربوية.‏
مثل هذا القص القائم على عناصر المفارقة فالحالة والإحالة إلى خاتمة إدهاشية نراها في قصة بعنوان (سؤال)‏
"
هي تُحبني؟‏
انهمر المطر غزيراً‏
وانطلقا في طريقين مختلفين" (14)‏
إن الأركان والعناصر المتوفرة في هذه القصة القصيرة جداً لعبت دوراً كبيراً في تكوين جمالياتها، في الوقت الذي تؤكد فيه على أن القصة القصيرة جداً شغل إبداعي بصفات خاصة وميزات محددة جداً هذا ما يصل بنا إلى أن الخاتمة في القصة القصيرة جداً، وضع مصيري في الفكر والسلوك والإحساس توفر شيئاً كثيراً من التوهج الذي
ينتقل إلى المتلقي حالة إدهاش تحرّك رغبة ما للسؤال والتساؤل والتحليل والتركيب، وهنا تكمن أهمية الخاتمة وقيمتها التي من المفروض ألا تمر مرور الكرام دون أن تخلق أثراً يدفع إلى الحركة والمعرفة والمثاقفة.‏

        

الهوامش:

(1)-سعاد القادري. المدار الأخير. نينوى للدراسات دمشق 2003 ص: 17.‏
(2)-
وفاء خرما. الأجنحة المتكسرة لـ س. وع. دار الحقائق 1999 ص: 97.‏
(3)-
د. خليل موسى جريدة البعث. العدد 8460 تاريخ 1 /11/ 2002.‏
(4)-
محمد محيي الدين مينو: فن القصة القصيرة منشورات دبي 2000 ص: 45.‏
(5)-
محمد غازي التدمري: جريدة العروبة. حمص. العدد: 11543 تاريخ 12 –8 –2003.‏
(6) –(7)-
المصدر السابق.‏
(8)-
د. أحمد جاسم الحسين. القصة القصيرة جداً ص: 44.‏
(9)-
د. أحمد زياد محبك. لأنك معي. دار شمأل 2000 ص: 32.‏
(10)-
من مجموعة بروق. إعداد د: يوسف حطيني ص: 15.
(11)-
محمد غازي التدمري: جريدة العروبة. حمص العدد: 11574 تاريخ 25 /9/ 2003.
(12)-
د. أحمد جاسم الحسين. القصة القصيرة جداً ص: 41.
(13)-
محمد غازي التدمري. جريدة العروبة. حمص العدد 11579 تاريخ 25 /9/ 2003.
(14)-
المصدر السابق.‏