محمد (صلى الله عليه وسلم) قمر الأناشيد
محمد (صلى الله عليه وسلم) قمر الأناشيد
من فضاء الرؤيا، إلى جماليات التشكيل
الأستاذة الدكتورة بشرى البستاني
كلية الآداب/ جامعة الموصل-العراق
(1)
لعل من المهم القول: إن توسيع أفق الحضور الإسلامي وحركيته الفاعلة في الأدب والفن عموماً بات أمراَ ضرورياً، وذلك من خلال تفعيل البحث في حركة دواله وتطوير جمالياته بمقصدية تعي فعلها، وتعميق الأدوات التي يمكن أن يشتغل بها من خلال تجاوز الخوف والتوجس اللذين يحيطان بطرق التعبير وأشكاله. إن توظيف الشخصيات التراثية الإسلامية يعد اليوم من أهم مصادر تشكيل الرمز في الشعر العربي الإسلامي المعاصر، ففي ظل هذا الرمز تسمو الصور الحسية من كينونتها المادية التاريخية إلى صورة فنية حيث تصبح بؤرة لإشعاعات إيحائية لا تحد، لأن الرمز كيان حسي يثير في الذهن أشياء أخرى غير محسوسة، فهو يبدأ من الواقع التاريخي ويتجاوزه إلى ما وراء ذلك من معان مجردة وتشظيات دلالية وظلال متعددة لأن هذا الاستدعاء الفني له ما يبرره في تجربة الشاعر كونه يتكئ على المفارقة التصويرية واللغوية مسلطاً الشعور الناقد أو الرافض أو المتعاطف مع حركة الحياة المعاصرة..(1).
إن الشعر العراقي منذ النصف الثاني من القرن العشرين وبشكليه العمودي والتفعيلي قد نهض نهوضه الفاعل من خلال احتوائه حركية ونبض التراث الإسلامي، وانفتاحه على نماذج لا تحصى من الرموز الإسلامية بدءاً بالرسل، والأنبياء الكرام والصحابة والقادة والزهاد والمتصوفة وفي أرقى أشكال التعبير آنذاك حيث انفتح الشعر على تقنيات القناع والسرد، وأفاد من حيوية الدراما صراعاً وحواراً وتشكلاً ودعوة دائمة إلى ثورية شاملة تذكي نضاله الدائم من أجل كسر الحدود والقيود والأغلال التي تكبل إنسان هذا العصر في كون الله الشاسع.
(2)
إن إشكالية النوع أو التنافذ الأجناسي في النص الواحد، وفي سياقاته وأشكاله المعاصرة تطرح إشكالية أخرى تتمثل في القراءة لا سيما بعد أن تحولت دائرة الاهتمام من النص والمبدع أو الأديب الناص لتحكم موقفها عند القارئ عبر التحولات النقدية الكبيرة التي انبثقت بعد البنيوية وفي نظريات القراءة والسيمياء والتفكيك حيث صار القارئ هو الذي يحقق وجود النص الأدبي، وبدون قراءته ليس ثمة أدب أو إبداع، وفي حالة موضوع يتصل بفكر أو إيحاءات دينية ستأخذ هذه الإشكالية مداها بسبب النظرة المحافظة التي ظلت تحيط الأدب الذي يرتاد مجال العقيدة الإسلامية والاشتراطات التي حاولت أن تجعل من هذا الأدب نصوصاً لا تتعدى ميدان المواعظ والإرشادات والدوران حول موضوعات ليس الشعر والإبداع مجال تعلمها، لأن على طالبها العودة إلى منابعها الأصلية في القرآن الكريم والحديث والسنة. أما الشعر والقصة والرواية والفنون التشكيلية فإنها بؤر للإيحاء ولا يمكن لهذه البؤر أن تشتغل إلا إذا أعددنا لأمرها عدته: مواهب حقيقية، وأدوات معرفية لازمة، واشتراطات تحتمها اللحظة الثقافية الراهنة المحكومة بضرورة الإطلاع على ثقافات العصر ونوعية إبداعه وضرورة الحوار معه والوقوف أمامه وقفة الثقة وتماسك الذات لا وقفة المنبهر التابع ولا الرافض الخائف المتطير، منطلقين في ذلك كله من أن الشعر ليس مشروعاً خالصاً للجمال قدر كونه مشروع حياة ووجود ومشروع مستقبل لأن الجمال سيكون واقعاً في دائرة الحياة كما هو دوماً، ونبضها الأزلي المتوهج في كوامنها.
(3)
صار من الطبيعي القول إن العنوان ليس زائدة لغوية، ولا هو عنصر من عناصر العمل انتزع من سياقاته ليحيل إلى العمل كله، وإن كان كذلك في حالات متعددة، لأن العنوان مرسلة كاملة (2)، تتسم بسمة جدلية هي استقلاليتها في إنتاجيتها الدلالية من جهة، وتفاعلها مع متن العمل الذي وسمته من جهة أخرى، وهذه المقولة تصدق على عنوان ديوان (محمد صلى الله عليه وسلم قمر الأناشيد) للشاعر أمجد محمد سعيد، الذي لم يتبع الطرق المألوفة في وضع عناوين قصائده، وإنما عمد إلى تقسيم الديوان على خمسة وأربعين قسماً ولجأ إلى الترقيم العددي تعويضاً عن غياب العنوان المباشر، لكن هذا الغياب المباشر للعنونة أعطى فرصة لحضور عنونة من نوع جديد أعرب عن نفسه من خلال توصيفات معينة، حيث تؤكد معاينة القصائد خرقاً أسلوبياً فيما يتعلق بعنواناتها، فقد فارق العنوان أسلوب تشكله المعتاد المبني على المفردة أو الجملة ليقوم في الغالب على آيات قرآنية أو أحاديث شريفة أو بيت شعري أو قول مأثور وكالآتي:
1 – 24 عنواناً تشكل من آية قرآنية واحدة.
2 – 3 عنوانات تشكلت من خمس آيات.
3 - 2 عنوانان من آيتين اثنتين.
4 – 1 عنوان واحد من ثلاث آيات.
5 – 1 عنوان واحد من أربع آيات.
6 – 1 عنوان واحد من ست آيات.
7 – 1 عنوان واحد من سبع آيات
8 – 7 عنوانات تشكلت من بعض الآية.
9 – 3 عنوانات تشكلت من أحاديث شريفة.
10 – 1 عنوان واحد تشكل من قول مأثور لورقة بن نوفل.
11 – 1 عنوان واحد تشكل من بيت شعري.
من هنا يمكن تسجيل بعض الملاحظات الرئيسة حول مقاربة العمل:
(1) إن العنوان الرئيسي تشكل من جملة اسمية تتسم بالثبوت والشمول وتبث دلالتها الخاصة بها، والمستقلة علماً لديوان شعري من جهة، والتي تستقي دلالات أخرى من مجمل العنوانين والمضامين المطروحة في المتن بعد القراءة مما يحيل إلى الوشائج النسجية القائمة ما بين العنوان الأساس وبين الدلالات المبثوثة في النص الشعري نزولاً وصعوداً وبالعكس، أما من الجانب التشكيلي فقد فارق العنوان الرئيس عناوين الديوان الأخرى كونه استقل بتشكيل نفسه تشكيلاً معاصراً، ولم يلجأ إلى تشكيلة تراثية خاصة، ولا استعان بآية قرآنية كما فعل في الداخل.
(2) إن النص الشعري المدروس قد كتب حسب معايير الكتابة الشعرية المعاصرة، والتي وظفت كل أنواع الحضور الشعري من تناوب وتداخل واختلاط وتحاور أجناسي فضلاً عن اعتماده الإيقاعات الحديثة في تنظيم الفضاءات وتشكلية الصور، وطريقة البناء الجملي وتكثيف الدوال والتوظيف البلاغي.
(3) يطرح النص المدروس قضية نقدية مهمة هي قضية التناص مع الفكر الديني والنصوص الإسلامية، ويتنوع التناص عبر تشكيلات الديوان فمرة يأتي تناصاً حرفياً مع الآية – العنوان، ومرة يفارق العنوان ليتناص مع آيات أخرى من سورة مغايرة لسورة العنوان، إذ يعمد النص إلى تحويل واضح في الاتجاه وزاوية الرؤية مما يبعده عن المحاكاة التي تقرب مدى الدلالة، وتجعل إنتاجها في متناول القراءة الاعتيادية لأن قصدية التوجه العقائدي لا تعطي الفرصة الكافية للنص كي يفيد من عمليتي (التشرب والتحويل) اللذين ترى فيهما الناقدة جوليا كرستيفا جوهر التناص، مما يدفع النصوص إلى أن تتشكل مشحونة بالعقيدة، مشبعة بتوجهاتها، ومفصحة عن إعجاب كبير بقدرتها الفاعلة في إحداث عملية تحول كبرى على المستويين الفردي والجماعي مما يدفع محمولها القيمي غلى البث بعمق والتأثير المباشر لأنه يلمس الجوانب البالغة الحساسية في النفس الإنسانية. فالقصيدة الخامسة والثلاثون عنوانها الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات، وهي آية تبث قيم المساواة والعدل والتكافؤ الإنساني المطلق، لأنه يصدر عن عدل السماء المطلق، ويأتي الشعر ليتجرأ على صوغ هذه القيم صياغة شعرية، وحينها تكون مهمته مزدوجة، لأن الشعر الذي تشكله لغة خاصة، لغة مستقلة قائمة بذاتها لن يكون له أبداً أن يتفرغ لأداء وظائف جمالية بحتة، لأن الشعر الجاد كان وما يزال ذا مهمة أساسية توازي وظيفته الجمالية وتشغل بها ومعها في آن واحد، وأن النص الحيوي يظل قادراً على التحرر من أسر المشروع العقائدي ولا سيما حين تكون تلك العقيدة بالأصل مشروعاً حقيقياً لحرية إنسانية جادة وبعيدة عن طوق المصادر الخاصة وقيود التخطيط الذي يشد الإنسان إلى مظلات سلطوية تبعده عن عقيدة تسييده في الأرض.
(4) إن الرؤية الشعرية تتحرك عبر النص كله برؤية وروح الإسلام الشمولية من خلال سمة تواشجية تكاملية ما بين الفكر والشعور وبين العقيدة والانفصال حيث تتوهج هذه الرؤية لتنشر ظلالها الشفيفة من بداية الدعوة حتى النصر المؤيد بالانتشار ومواصلة الزحف نحو تحقيق تحرر الإنسان في خلاصه من الخضوع لسلطة المتعدد والتوجه نحو البارئ الواحد، إذ ينجلي الطريق عن وضوح يؤسس لمستقبل إنساني قائم على التوازن والصفاء والإنعتاق من شتى أنواع الهيمنة والقسر.
(4)
ينفتح الديوان على آيتين هما: "بسم الله الرحمن الرحيم" التي يرجح أنها آية من سورة الفاتحة، والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه الكريم في أول ما نزل من القرآن: "اقرأ باسم ربك...." ذلك الأدب الذي يتفق وقاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله"هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن وصفه بالرحمن الرحيم يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها، وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن (3)، فالبداية باسم الله الذي أوجد كل شيء أمر يوحي بالقوة والعظمة والجبروت، لكن هذا الجبروت سيؤول إلى طمأنة الإنسان حالما يقترن بكل معاني الرحمة ويستغرق حالاتها حيث تتقرر حقيقة العلاقة بين الله وعباده..(4)"
وفي الآية الثانية.. "ن، والقلم وما يسطرون.." إشارة لأمور عدة منها:
1 – النون في أبسط دلالاته واحد من حروف العربية، والقسم بالجزء إرادة للكل، وهو هنا إشارة إلى اللسان العربي "بوصفه لسان الإسلام ووعاء أمجاد الأمة العربية ونشاطها الخلاق.."(5).
2 – تمجيد الكتابة والقلم الذي هو آلتها وأداتها لما لهما من دور في تسجيل مجد الإنسانية عبر سعيها المثابر في بناء حضارتها. إن إجلال دور القلم والكتابة إنما هو إجلال للجهد الإنساني في سعيه الإبداعي والعلمي والعملي وحفاظ على هذا الجهد من الضياع والعبث والإهمال والنسيان كي يصل ذلك الخزين إلى الأجيال من خلال تواصل خلاق يصل الماضي بالحاضر كما يصل هذين الزمنين بالمستقبل من أجل إحلال التوازن ليس في الشخصية الإنسانية على مستوى الفرد فحسب بل وعلى مستوى الأمم والشعوب كذلك.
3 – إن في القسم بالقلم والكتابة نتاجه إعلاءً مباشراً وغير مباشر لشأن اللغة التي يتشكل بها المكتوب وإشارة خفية إلى طاقتها الهائلة على احتواء الزمن الذي ظل الإنسان أسير جريانه وعصيانه على التماسك وظل يسعى إلى تخليده وبعث قدرته الكامنة وحيويته المضمرة من خلال تحويله إلى كتل وتشكلات لغوية يمكن للأجيال بعث الحياة فيها من خلال إشعال كوامنها الثاوية في علامية اللغة في لحظات التواصل الإنساني معها في أي وقت شاءت الأجيال وذلك بتحقق هذا الفعل الخلاق الذي افتتح القرآن العظيم: "اقرأ" وكأن السماء تضمر كل جبروتها ووصاياها وتوجز تحريضها الإنسان على التأمل وفك مغاليق الكون والتفكير بعظمة المخلوق لإدراك قدرة الخالق في هذا الفعل المفعم بجلال المعنى "اقرأ" لكن شرط القراءة أن تكون باسم الله، أن تكون هادفة، واعية مبتداها، عارفة منطلقها ومرساها، والله قد وضع قوانين دينه الكامل في كتابه الشامل وعلى القارئ أن يكون مدركاً إياها. إن غياب المفعول به أمام الفعل المتعدي هنا، يشكل شمولية عجيبة تفتح المقروء على كل شيء ليكون ذلك النص المقروء الغائب من التعدد والشمولية بحيث لا يمكن إدراك مداه، إنه الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما، إنه الكون المخلوق ما فيه وما عليه جميعاً فمشروع القراءة الإسلامي لا يقتصر على النص القرآني حسب، ولا على النصوص المكتوبة لأن النص المكتوب لا يشكل إلا الجزء البيّن الواضح في مشروع القراءة القرآني، أما ما وراء ذلك فإن فيه من الدلالات والرؤى والتشظيات مالا يحصى وفي ذلك تحريك لقيمة وقوى العقل الذي اختص الله به الإنسان من دون مخلوقاته.
إن إجلال الكتابة إذن طرف في معادلة متكاملة تستدعي في طرفها الآخر إجلال القراءة، فالدال يستدعي مدلوله والرموز لا تحقق وجودها إلا باستدعاء دلالتها، وهذه الكتابة التي أجلها القرآن تستدعي.. اقرأ في أول آية قرآنية عطرت الكون وبثت أنوارها في ظلماته واجتاحت دجاه، من هنا يتحقق ذكاء مجموعة "محمد صلى الله عليه وسلم قمر الأناشيد" في هذا الاختيار الدقيق لآية – علامة افتتحت الديوان وكانت مطلعه.
4 – إن في افتتاح الديوان بهذه السورة إشارة واضحة إلى الآية العظيمة التي سرت فيها والتي اختصرت خلق الرسول الكريم وعظمة تهذيبه وسمو الصفات الرفيعة التي شكلت شخصه: وإنك لعلى خلق عظيم، حيث تبلور التوكيد عبر أربع سمات تركيبية هي: الحرف المشبّه بالفعل والمخصص لبث دلالة التوكيد، الضمير المتصل بأنّ (الكاف) الذي يحوي من خلال الخطاب والمواجهة، التوكيد المحمول بلام الابتداء التي تزحلقت نحو الخبر، الوصف من جهة وردوده بصيغة المبالغة (عظيم) من جهة أخرى. إن اجتماع أربع صيغ تأكيدية في جملة واحدة عمل على تبئير معنى خالد في عظمة الحقيقة المحمدية التي تسنى لها أن تبلغ هذا الكمال الإنساني الجدير بخاتم الأنبياء، هذه العظمة التي تستمد روحها من عظمة الرسالة التي حملتها وبلغتها: وإنك لعلى خُلق عظيم، مؤكدة أن الحياة إذا فقدت جلال دلالتها هانت وفقدت قيمتها وأسباب تواصلها، وأن الأمر في النهاية ليس بفضائل مفردة تشير إلى الصدق والعدل والأمانة والرحمة وإنما هو منهج متكامل تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية وتقوم عليه فكرة الحياة لتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله، حيث تتمثل الأخلاق الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في (محمد) من خلال ثناء الله عز وجل عليه وإكباره..(6)
وأمام هذا الوصف العظيم يتجرأ النص الشعري على الوقوف أمام هيبة هذه العظمة القرآنية من جهة، والنبوية المحمدية من جهة أخرى لينثال ببحر الكامل حتى كأن لا بحر يستوفي في هذا الكمال والجلال النبوي غير هذا البحر الذي كملت حركاته، واتسقت أسبابه، وانثالت مقاطعه طيعة بهذه اللغة التي تحاول أن تنهل شعريتها من نور الرسالة فضلاً عن جمالية التشكيل(7):
من نور وجهكَ ينهل الحرفُ لـجـلال ذكركَ تنحني لغة خُـلُـقٌ وخَـلْقٌ خلتا بشرٍ يـا حـبة القلب التي تهفو |
|
وأمـام طرفكَ يُسبل الطرفُ ومـعين نبعكَ شهده صِرفُ من قبل آدم خَصَّه الوصفُ وشـفـاعـة ومـحبة تعفو |
إن النص يبث بترجيع صوت (الفاء) كل معاني الابتهال والحنان والعذوبة والتطلع، فالفاء هي الحرف الجذري في الأفعال التي تحمل معاني الصفاء والألفة والاحتواء والرقة، فقد تكرر هذا الحرف سبع مرات في أربعة أبيات إذ تندفع ثلاثة أصوات منه في البيت الأول دفعة واحدة مما يمنح فرصة لرفيف تلك المعاني، كما تكررت كاف الخطاب أربع مرات في صيغة واحدة: وجهك، طرفك، ذكرك، نبعك، مما حقق ضربات صوتية متألقة، فالتصريف الأدائي بصيغة المخاطب يعمل على إذكاء التوهج الإبداعي الذي يتوثب كماً وكيفاً في مخاطبة الممدوح مخاطبة هي أكثر فاعلية في ابتكار الصورة الخيالية، لأن نظام التحاور عندئذ سيكون أبعد تشابكاً بتواشج الأجهزة المختلفة: الشعرية والمرجعية والمفهومية..(8) فضلاً عن الجناسات التي خلقت ترجيعاً صوتياً متجاذباً في أكثر من مكان: خلق وخلق، خلتا، مع ما توفره التجمعات الصوتية من إيقاع، يتضافر كل ذلك مع التوازي التركيبي الذي انبنى عليه البيت الأول مع الشطر الأول من البيت الثاني حيث تشكلت الأشطر من: جار ومجرور أو ظرف + فعل مضارع + فاعل، وبعد أن يؤسس الفعل لاستمرارية جريان الحدث في ينهل، يسبل، تنحني وامتداد توهج الفعل في أعماق المستقبل يعود التركيب ليؤسس الثبوت في منظومة إخبارية ترتكز على استقرار حال ملازم من الوصف في جملتين تتشكلان أفقياً من مبتدأ يميل فيه الخبر إلى التركيب:
معين نبعك ___ شهده صرف
خُلق وخَلق ____ خلتا بشر من قبل آدم خصه الوصف.
ثم يلتفت النص إلى الإنشاء الطلبي المتمثل بالنداء المخضب بشتى أنواع الانفعال الذي يصل فيه الحب مداه إذ يلتحم الدعاء باللهفة بالوجد:
يا حبة القلب التي تهفو..
والملاحظ على الأبيات قلة اللجوء إلى التشكيلات البلاغية، ذلك أن الرؤية الشعرية هي التي أخذت دورها في التعبير عن نفسها بعمق وحرارة، مما دفع تلك التشكيلات إلى الانحسار. إن هذه القصيدة وما معها من موازيات نصية تثبت بؤرها الدلالية عبر الديوان كله، فليس من نص في الديوان يمكن الإشارة إليه على أنه البؤرة الدلالية، وليس من تمهيد أو تصعيد للموضوع، لأن نصوص المجموعة كلها تشكل بؤراً دلالية بوصفها صيغاً متعددة لمولد بنيوي واحد، فالديوان كله تنويع لبنية واحدة..(9) وهذا ما يوجب الاهتمام بكل بنى النص على أنها بؤر تتضافر مع بعضها لإنتاج الدلالة العامة والكشف عن وظائفها، ولأن كل وحدة في النص تحتل مكانها الدقيق والمناسب الذي لا يمكن تذويبه في الكل النصي..(10) من هنا كان التدرج في قراءة القصائد كلها قراءة متأنية هو الكاشف عن بعض دلالة شخصية الرسول القائد في عظمة الأمانة التي تحملها وبلغها في صبر ومكابدة، وفي مؤازرة السماء وفتحها، وهكذا انسابت النصوص عبر الديوان11)
تصعد القوافل
كان واحدتها خيط مترب
من ثوب مرمي
على حبل الأزمنة الغبراء
ثم تنزل القوافل
من بيت إبراهيم الذي ببكة
إلى جنوب اليقظة
حيث تشكل طين الولادة العربية
وحيث بدأ نحت السيول
على ذاكرة التاريخ..
هكذا تتخذ الدوال مسيرة جديدة إذ تفارق قوانينها المعجمية إذ تشكل القافلة عبر الصوغ الشعري الجديد خيطاً مترباً من ثوب مرمي على حبل ينتمي إلى أزمنة غبراء إشارة إلى الرتابة ومفارقة الحركية في زمن فارق صوت السماء وحيوية فعلها، ثم تنزل القوافل إلى حيث يصير لليقظة جهات، وكان اليقظة فضاء للنور يدفع القوافل إلى جنوبه حيث الحضور العربي يتهيأ للمسير بالدعوة الجديدة، مستحوذاً على ذاكرة التاريخ هذه المرة، حيث تستمد قصيدة النثر طاقتها من تكثيف اللغة وتركيزها وقدرتها على الإيحاء، ومن تفعيل تلك القدرة في اتجاهات مختلفة.
وتنهض قصيدة التفعيلة بالتعبير عن ظمأ يجتاح كل شيء، ووجد يتضرع للوصال بحثاً عن سقيا وبلوغاً لمراد12)
أيها النبض في حليب القلوب
أيها الكحل في جفون الدروب
أيها الرؤية التي تلهم الوقت
والمسافات.. عمقاً
أوقف/ عند سياج حروفي/ فرسان المعنى
أوقف تحت الظل بنافذتي
خيلاً من أي سماء
ترفع أشعاري
حتى سجادة جبهتك البيضاء
يا سرّ جنان الألفاظ
املأ إبريق غنائي
من ينبوع الرؤية والرؤيا
املأ جرة أيامي
من نهر يديك
وهكذا يصير للقلوب حليب، وللحليب نبض، ويصير للدروب جفون هو منها الكحل، حيث الرؤية التي تلهم وتثري وتفتح أبواب المجهول، وإذ ينتهي أسلوب النداء المتضرع يبدأ الدعاء بالطلب من خلال أفعال الأمر التي تترى في المقطوعة: أوقف، أوقف، إملأ، إملأ، اجعل حيث يشكل الصوغ الشعري إبريقاً للغناء وجرة للأيام وحضور الفعل (املأ) تعبير عن فراغ الأوعية، وفراغ الأوعية تعبير عن الظمأ، هذا الظمأ الذي تشكل به النص ومن أجله بحثاً عن ينبوع اليقين الذي حفز الشعر والشاعر على التوق والبحث عن فرسان المعنى حيث تكمن حركية الكشف عن ظلال المدلولات والسعي من أجل فك أسر الدلالة وإيحاءاتها، لكن الشاعر لا يلبث أن يستجيب لنداءات تراثه الخطابي الثاوي في مخزونه الشعري، والكامن في لغة موجهة وصوت يعلو، وقافية تنساب، وروي يمتلك القدرة، على خلق إيقاعات واثبة، وتتضافر اللغة الخطابية في أكثر من صيغة في الطلب: أمر ونهي ونداء ونصائح وترغيب(13):
ارجع إلى بيتك
يا سراقة
واعقل حديث الروح والوجدان
فالكون قد استفاقا
لا ترتج الفضة والياقوت
والنياقا
بل ارتج الجنة
وانهل شهدها الرقراقا
وابن بذكر الله بيتاً
عطراً، عملاقا
والملاحظ أن القصيدة لا تتناص مع العنوان وحده، وإنما تغادره لتشكل تناصات خارجية مع آيات أخرى من القرآن:
إن الشآم كلها واليمن السعيد
والعراقا
ملك يديك مطراً دفاقا
الله يسقيك من الكوثر
كأساً طيباً دهاقا
فالنص لا يستجيب دوماً لسلطة العنوان وموجهاته المباشرة، وإنما يخلق معها أحياناً علاقات خفية تسير بموازاتها جنباً إلى جنب، وفي ذلك تعميق لحس المفارقة الذي يقود إلى التماثل في النهاية، فإذ يكون العنوان من سورة المجادلة: "كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز" يأتي الشعر ليناجي دلالة الآية من بعيد محركاً أدواته الجمالية(14):
حين مشت به الناقة المأمورة
مشت رفقته الزنابق
وأحاطت به الغزلان الوردية
ورفرفت فوق رأسه الطيور
حين مشى
مشت معه الغيوم
والنجوم،
وأغصان الشجر
ومستضعفو الأرض
حيث يستمد النص جماليته من الانتقاء الجمالي للمفردات التي مشت مؤازرة للمسيرة: الزنابق، الغزلان الوردية، الطيور، الغيوم، النجوم، أغصان الشجر، وإذ نستكمل لوحة المسير ومشهد الشروع بالهجرة جماليتها المستمدة من عناصر الطبيعة: ألواناً وعبيراً وظلالاً وحركية يأتي الإنسان ليتوج المشهد بـ: (مستضعفو الأرض) إذ تضفي القيمة الإنسانية الرفيعة على المنظر فاعلية الانتماء للحرية والخلاص، ولقد عاشت تلك الحرية شرف التحقق حتى تحولت الأسماء إلى علامات تؤشر إمكانية الانعتاق فصار بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب إشارات ذلك التحول الهائل من واقع مظلم إلى فجر جديد قاد عملية التحول(15):
بلال، سلمان وصهيب
رموز وإشارات
لنجوم الميلاد
إن الضوء يعم العالم،
إن الأيام،
ستمتد
إلى جزر وإلى عصر
إن الدم أحمر
في كل الأجساد..
إن الألوان، الأشكال
الأبعاد
وهم أرضي،
فالكل عباد
إن التناص هنا مع الآية الكريمة:
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
لا يطول غير المضمون العام حتى تتحول فكرة الآية إلى إشارة يلتفظها النص ليفجرها إلى فكر عديدة تتمركز في جمل إخبارية تتشكل في مجموعة وحدات دلالية صغرى تتضافر لتصنع وحدة كبرى متماسكة هي نص القصيدة، ولأن ما تعلن عنه تلك الوحدات الصغيرة كان يمثل قوانين ثابتة في إسلام تتعلق بما يخص المبادئ المهمة بالحرية والمساواة فإن الجمل تشكلت بصيغ الجمل الإسمية التي تعلن عن ثبوت واستقرار الأمر، إن النص لا يحتوي إلا على فعلين فقط وردا بصيغة المضارع المستمر.. (تعم، ستمتد) حيث ينطلق الفعل (يعم) إشارة، حركية على شمولية النور وعدم اختصاصه ببقعة معينة من الأرض، ولذلك فهو سيندفع عبر الزمن في سين الاستقبال المتصلة بالمضارع (يعبر) ليبث قوانينه الجديدة: الغريبة والأليفة معاً عبر أصقاع العالم كله.
وتواصل القيم الإسلامية امتدادها في الديوان مؤكدة البؤر المهمة التي ارتكزت عليها الدعوة في سيرها نحو الهدف.. الجهاد والصبر وسعة الأفق والحكمة والحلم، فالقصيدة الثانية والثلاثون ستكون مخصصة لمسجد الرسول، مسجد المسلمين، والمسجد في الإسلام علامة تتشفى لتحيل إلى دلالات في غاية الأهمية أولها العبادة، وليس آخرها العلم والوحدة والشورى والدعوة إلى التوحد وصنع المتماسك، إنه مكان الأمكنة وبؤرة المعنى العقائدي الذي يرتكز عليه المغزى الجامع لمنظمة القيم الفاعلة التي حركت إنسان تلك الأمة حول الرسول القائد والموحد وصانع خير أمة أخرجت للناس.
ويلعب التكثيف الذي يعد واحداً من سمات الشعرية المهمة دوراً في بلورة المعنى الإسلامي وفي عقد صلات جديدة بين الدوال ومدلولاتها، فالنص السادس والثلاثون يتحدث عن المعارك الإسلامية هكذا(16):
بدر، مفتاح من ذهب
أحد، ندم
الخندق، قنطرة
وحنين، لهب
وتبوك، ستارة
إذ يختص خبر (بدر) بوصف يشكله شبه الجملة من الجار والمجرور لما لمعركة بدر وانتصار المسلمين فيها من أهمية بالغة في حياة الدعوة، بينما تعتمد الأخبار الأخرى عل مفردة واحدة يتسع فضاؤها الدلالي حتى لا يكاد يحد، مما يؤكد دور المفردة وبلاغتها في التشكيل الشعري، ذلك الدور الذي يفصح عن قدرة تصويرية خاطفة تكمن فيها طاقة مدهشة على إنتاج الدلالة، كما يلعب السرد وامتداد اللحظة الوصفية والقطع والفضاء الطباعي مما لا مجال للتفصيل فيه دوراً مهماً في ذلك.
ويحرص الديوان على مجانسة النهاية للبداية إذ تأتي القصيدة الأخيرة نصاً عمودياً من أربعة أبيات كالأولى، ومن بحر الكامل كذلك، هذا البحر الذي يعد حضوره في البدء والختام علامة سيمائية على كمال الدعوة وتمام نعمتها، وكمال وجلال الرسول الكريم الذي بشر وأنذر وكابد (17):
يـا سـيـدي بلغت أعظم وجعلت من أنوارها خيل الهدى ورفـعـت أعـلام المحبة عالياً وصبرت صبر الوالدين سماحة |
رؤية
|
في الكون، كنت رسولها المختارا بـيضاء تسري في الربى أقمارا وحـجبت عن نسم القلوب النارا وسـقـيـت أمتك التقى أنهارا |
وهكذا يتحقق التواشج ما بين الوظائف العقائدية من جهة والمعرفية والجمالية من جهة ثانية، وبهذا التحقق المتوازن يكون الفن قد أفصح عن مهمته الخطيرة حينما يقدم رؤاه بأبهى خطاب، وينكشف للقراءة الجادة بأجمل وأرصن الأدوات حيث لا تتقدم وظيفة لتخسر أخرى، بل يتلاحم النص رؤية وتشكيلاً مستجيبة وظائفه لدواعي بعضها من خلال هيمنة التجربة الفنية المقتدرة، ونفاذ سلطتها في التحكم بشبكة العلاقات وبث روح الفن الحميم في القول الشعري الذي تروم.
الهوامش:
(1) ينظر: أبعاد توظيف الشخصية التراثية في الشعر المعاصر، صابر عبد الدايم، مجلة المشكاة، 29/1998: 85.
(2) ينظر: العنوان وسيميو طيقاً، الاتصال الأدبي، د. محمد فكري الجزار: 35، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
(3)(4) ينظر: في ظلال القرآن، سيد قطب: 13 – 14، دار إحياء التراث العربي، بيروت/ ط5، 1967.
(5) من الغزو الثقافي إلى تحرير الثقافة، مؤيد عزيز: 4
(6) ينظر: في ظلال القرآن: 8/ 223.
(7) محمد (صلى الله عليه وسلم) قمر الأناشيد، أمجد محمد سعيد: 5، طباعة، مكتب السعد، 2000
(8) ينظر: النقد والحداثة، د. عبد السلام المسدي: 89، دار العهد الجديدة، تونس ط2، 1989
(9) ينظر: سميوطيقا الشعر دلالة القصيدة، ميكائيل ريفايتر، ترجمة فريال غزوال ضمن كتاب أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميو طيقا، إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، شركة دار اليأس العصرية، القاهرة ط2، 1986.
(10) ينظر: علم النص، جوليا كرستيفا، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة عبد الجليل ناظم: دار توبقال، الدار البيضاء ط1، 1991.
(11) محمد (صلى الله عليه وسلم) قمر الأناشيد: 18، طباعة مكتب السعد، 2000
(12 – 13 – 14- 15- 16 -17) المصدر نفسه: 7- 8، 61، 65، 74، 76، 93.