"خطوات في الليل" ورواية السيرة الذاتية الإسلامية (3)
"خطوات في الليل" ورواية السيرة الذاتية الإسلامية (3من4)
د. حلمي محمد القاعود
|
محمد الحسناوي |
"تناولت الحلقة الثانية قضية الزمان في رواية
"خطوات في الليل" للأديب محمد الحسناوي سواء الزمان التاريخي أو الروائي، فكلاهما
أظهر مأساة الإنسان في الرواية والواقع"، وفي هذه الحلقة نتناول أسلوب الكاتب في
رسم شخصياته:
فالراوي يرسم الشخصية الروائية من الداخل بعمق واستفاضة، يطلعنا على أعماقها
العنيفة المضطربة، وعلى أحلامها الوردية الجميلة، يحدثنا عما تفكر فيه بصوت عال،
وعما يشغلها عموماً، وفي الوقت نفسه يقدم لنا ملامحها من الخارج "بعض الشخصيات"
ويصفها وصفاً دقيقاً يركز على أبرز تفاصيلها، انظر إليه يصف شخصية "همام الحجيلات"
الحارس الذي دخل السجن ليقضي عقوبة نظير غيابه يوماً في الإجازة: "وجده أمامه
متكوماً على فراشه كما يتكوم فيل عجوز: أنف أفطس على بطيخة سوداء، على جوالق تبن أو
لفت، يرتج كرشه المنفوخ ارتجاجات متناسقة مع كل نحنحة أو سعلة، أما يداه ورجلاه،
فلا تكاد تميزها لولا كثرة استعانته بها للتعبير عما يريد، وتمثيلاً للأشياء التي
يتحدث عنها، مما يذكرك بحركات أطراف الدمى على مسرح الأطفال".
وهو وصف لشخصية أقرب إلى الشخصيات الكاريكاتيرية التي تثير الالتفات والانتباه،
وكأن الراوي أراد أن يقدم لنا شخصية مثيرة في ملامحها، توطئة لتفسير سلوكها الذي
سنراه فيما بعد في الزنزانة مع "حسان".
وإذا كان الراوي يقدم لنا الشخصية الكاريكاتيرية، فهو أيضاً يقدم شخصيات غير
مبالية، لا تلتفت إلى الدين أو الأخلاق أو القيم. ومن هذه الشخصيات شخصية "إبراهيم"
السجين الذي لا يعرف النخوة ولا المروءة، كل ما يعنيه "الجنس" و"الجنس" فقط، لا
يغضب من أجل أمه أو زوجه أو بنته، إنه يعيش في عالم حيواني صرف لا تهزه القيمة ولا
تمنعه العقيدة.
وفي هذه السياق تبدو شخصيات الجلادين والمحققين أقرب إلى الشخصيات التي تعمل بعيداً
عن الإحساس الإنساني، بل إن الرواية تقدم نمطاً من البشر، مهمتهم تسويغ التعذيب في
السجون، ومن هؤلاء.. الأطباء الذين تتركز مهمتهم في بيان مدى قدرة احتمال السجين أو
المعتقل لجرعات التعذيب المتتالية، وليس لعلاجه أو تضميد جروحه!.
"في سجون بلادنا أيضاً أطباء، لا لإسعاف المرضى من السجناء، بل لتقدير درجة احتمال
السجين للتعذيب بالتيار الكهربائي أو الضرب بالأدوات الحادة كالبلطة والساطور،
وابتزاز المعلومات، أو تلفيق التهم، وليس هناك ممنوع إلا الموت لا رحمة بالسجين، بل
الخوف من انقطاع مصدر المعلومات غالباً إن مات السجين، وهو في الوقت نفسه سلعة،
يشتريها أهله بالنظر إليها لكل زيارة، أو بالإفراج لقاء فدية ضخمة، وكم سجين مات
تحت التعذيب!".
ومع ذلك، فإن الراوي يجعل إنسانية الحراس، تتجلى في بعض المواقف بوصفهم بشراً
ينفذون أوامر قادتهم، ولكنهم في بعض اللحظات يتعاطفون مع السجناء أحياناً لأسباب
إنسانية بحتة.
سوف يطالع قارئ الرواية كثيراً من الأسماء الحقيقية لشخصيات تعيش في واقع المجتمع،
وأغلب أصحاب هذه الأسماء من المسؤولين الرسميين أو العسكريين أو المفكرين أو
الأدباء أو غيرهم، وهو ما يجعل الرواية كما سبقت الإشارة سيرة ذاتية للكاتب أو أقرب
ما تكون إلى ذلك، وخاصة أن ملامح شخصية البطل أو الشخصية الرئيسة أقرب إلى ملامح
الكاتب في الواقع.
وفي كل الأحوال، فإن الشخصية الروائية في رواية "خطوات في الليل" تبدو حية متحركة
فاعلة، بعيدة عن الجمود والنمطية، مليئة بتموجات الإنسان في علوها وهبوطها
واستقامتها وتراجعها، وقوتها وضعفها.
لغة الرواية عالية، ولا غرو، فمؤلفها شاعر له في ميدان الشعر نصيب كبير، وهو يتوسل
إلى بناء الرواية بوسائل عديدة، تأتي على رأسها اللغة وصفاً وحواراً وتضميناً
ومفارقة، وحلماً والتفاتاً وتذكراً واستدعاء وغير ذلك، وسوف نقف عند بعض هذه
الوسائل لنتعرف ملامح اللغة في الرواية.
قدرة الكاتب على تطويع اللغة، تظهر من خلال الوصف، في تتبعه لأدق التفاصيل سواء في
حكي الأحداث أو رسم الشخصيات أو تقديم المكان، إنها لغة سهلة وراقية في الوقت نفسه،
قد تستعير بعض الصياغات الشعبية في جمل نادرة، ولكنها بصفة عامة تمتلك الشحنة
الشعرية التي ترقى بالتعبير، وتشد القارئ إلى المعنى الذي يريد الكاتب توصيله... بل
إن بعض مواضع الوصف تتسامى إلى درجة الشعر، ولنقرأ هذا التأمل أو الاستدعاء الذي
جاء على لسان "حسان" وهو يعبر الحدود هارباً إلى البلد المجاور:
"... هل هي مصادفة أن يتماثل لون التراب الأحمر ولون دمائي النافرة؟، وهل هي مصادفة
أيضاً أن تعضني أشواك بلادي، وأنا أحاول هجرانها والابتعاد عنها؟ إن الصخور نفسها
تكاد تصدمني وأنا أترنح بين جدرانها وأخاديدها.
يا أشواك بلادي، يا صخور بلادي، لن أخرج من جلدي، لن أغير دمي، من صلابتك التي قهرت
العواصف والغزاة ينبعث أملي بقوة شعبي، من ثباتك تتجدد أمنياتي بثبات تاريخي وخلود
قيمي.
إن حبيبات دمى النافرة في هذا الصباح الجميل لتؤكد الأخوة بيننا، وتشعرني بعمق
الصلة الكونية فضلاً عن صلة المواطنة والسكن والجوار، فهل يعق الجار جاره، وهل
يفارق الإلف أهله وأحباءه؟! لكن ما العمل إذا كان المراد أن تسلّم هذه الأرض
المباركة للأعداء، وأن تمحى معالم العقيدة والتاريخ، وأن تستأصل شأفة من يقف في وجه
هذه المخططات الجهنمية الملفعة بأقنعة خادعة لا يعرف ما وراءها إلا القليلون، وإن
كان الشعب يحسّ بمقدماتها وبانعكاساتها.
يا أشواك بلادي، يا أزهار بلادي، لأجلك ولأجل أطفال بلادي أجرّ نفسي جراً بعيداً
عنك على أمل العودة العاجلة إليك... كان الأولى لي أن أقضي عمري في التغني بجمالك،
وإنشاد الأشعار لأطفالك... لكن ما العمل إذا صودرت أشعاري، وأحصيت أنفاسي، وكتب
عليّ أن أكسر القلم، وأن أفطم المشاعر، وأن أبحث عن سبيل آخر لإسعادك وحمايتك، وأن
أتعلم حروفاً أخرى لا أحسنها، مثل اعتزال الأهل والغربة عن الأوطان؟...إلخ".
وقدرة الكاتب على تطويع اللغة تتيح له تقديم الأشخاص والأحداث والمشاعر والأماكن
بصورة دقيقة، وسبقت الإشارة إلى وصف بعض الشخصيات، ونقدم نموذجاً لوصف المكان، حيث
يصف المساجد التركية في رحلة الغربة أو الهروب التي قام بها مع صديقه "عابد".
"لعل أمتع ما شاهداه في تلك الرحلة الشاقة منظر المساجد على الطراز العثماني: مآذن
عالية رشيقة القوام، قباب صقيلة أقواسها مدوّرة بإحكام ودقة متناهية، واللون
السماوي يضفي على المآذن والقباب والجدران سحراً خاصاً من الصفاء، والجلال،
والامتداد غير النهائي".
وتتجلى عملية تطويع اللغة في إجراء الحوار الروائي، حيث تبدو سلسة سهلة، ولكن في
غير ابتذال أو ترهل، إنها تعبّر عن مستوى الشخصية في إطار التركيب المحكم المناسب
لهذا المستوى، قد يكون الحوار مقتضباً "خاصة عند التحقيقات الشرطية" أو فضفاضاً عند
مناقشة المسائل الفكرية أو الموضوعات الأدبية والتاريخية، ولكنه في كل الأحوال، إلى
حد كبير، يمثل الحالة أو الموقف الروائي خير تمثيل، ويمكن القول إن الحوار أساس من
أسس بناء الرواية في معظم صفحاتها، فالأشخاص يستخدمون الحوار في أثناء التحقيقات أو
عند التفاهم وخاصة في رحلة الفرار أو الهرب من الوطن التي أُجبروا عليها، أو فيما
بين السجناء لقضاء الوقت والتعرف على بعضهم البعض أو مناقشة الأفكار عامة.
عندما استغرقت التأملات أفكار "مجاهد"... وراح يفكر في أحواله وأحوال الوطن ويلقي
بعض أشعاره، عاد إلى صاحبه في الزنزانة شبه معتذر عن انصرافه عنه، فقال له الآخر:
أبداً أبداً.. خذ حريتك.
هل بقيت لنا حرية؟
يضحكان.
أعني فيما يتعلق بي.
شكراً.
صدقني كنت معك على الخط، وبودي لو أعرف معاني بعض الكلمات الغريبة.
مصفق بالعار. المهاد.. فضول؟
مثلاً... مثلاً.
ألست تحمل شهادة جامعية؟
نعم... لكن اختصاص تجارة واقتصاد، وهذا لم يمنعني من استيعاب الجو العام، والتأثر
بتجربة الشاعر، وبطريقتك في الإنشاد، وأخشى أن تقول لي... إلخ".
وكما نرى في هذا المقطع، فإن الحوار يبدو أقرب إلى لغة الحياة اليومية، ولكنه
متماسك، وفصيح وبعيد عن الترهل والاستطراد، وهو يكشف لنا الهم الذي يسيطر على
السجناء وهو فقدان "الحرية" كما يشير إلى طبيعتهم، ويكشف عن مستوياتهم الثقافية،
ويوضح فيما بعد بعض القضايا الأخرى التي تتولد من خلال الحوار.
وفي التحقيقات التي تجريها الشرطة مع المعتقلين الهاربين من بلدهم إلى البلد
المجاور الذي تنتمي إليه هذه الشرطة نجد حواراً روائياً يقوم على الأسئلة المقتضبة
والأجوبة الموجزة التي يسعى صاحبها إلى الكشف عن مأساته أو مأساة شعبه، وفي الوقت
ذاته يسعى إلى عدم توريط نفسه في إجابة قد تفضي إلى ما لا تحمد عقباه.
قال المحقق:
نعود إلى السؤال الذي بقي بلا جواب.
أي سؤال؟!
تحفز حسان استعداداً وإشفاقاً.
لماذا تركت عملك؟
قلت لكم: تركت عملي نتيجة الأوضاع المضطربة في البلد.
وما علاقتك بهذا الاضطراب؟
مواطن غير آمن على نفسه نتيجة ما يرى ويسمع ما يحدث حوله.
بصراحة كل هذا لا يكفي إذا لم تكن لك علاقة ما.
تسمح أن أروي لكم نكتة...".
ويلاحظ أن الحوار هنا الذي يمتد بصور أخرى على طول الفصل يمثل معركة ذكاء بين
طرفين، كل منهما يحاول أن يهزم الآخر، المحقق يسعى للحصول على المعلومات والإيقاع
بالمعتقل، والآخر يجد ويكدح ذهنياً لعدم تمكينه من ذلك، وفي الوقت نفسه يطرح قضيته
أو قضية بلاده أمام المحقق لعله يستطيع أن يلفته إلى ما يعانيه أشقاؤه في البلد
الآخر، ويكسب تعاطفه والوقوف إلى جانبه.
لقد وظفت الرواية الحوار للكشف عن المظالم والممارسات المنافية للإنسانية ضد الشعب
وضد نخبته الواعية، وهي ممارسات لم يفلت منها المواطنون العاديون وسجلتها الرواية
على امتداد صفحاتها بصور متعددة وناجحة.
يتبع