"خطوات في الليل" ورواية السيرة الذاتية الإسلامية (2)

"خطوات في الليل" ورواية السيرة الذاتية الإسلامية (2من4)

د. حلمي محمد القاعود  

محمد الحسناوي

تناولت الحلقة الأولى قضية المكان في رواية "خطوات في الليل" .. للأديب محمد الحسناوي والتي جعلها الأديب في معظم الرواية مصدر ازعاج وقهر، فهي الزنزانة التي دخلها ظلماً..
أما الزمان فيلعُب دوراً مهماً في الرواية، لا يقل عن دور المكان، سواء كان الزمان التاريخي أو الزمان الروائي، كلاهما يبرز مأساة الإنسان في الرواية والواقع، وأعني به الإنسان العربي عموماً، فإذا نظرنا إلى الزمان التاريخي وجدناه شهر يونيو عام 1980م، وتبدأ أحداث الرواية في اليوم الخامس منه، وهذا الشهر له في الذاكرة العربية ذكريات حزينة ومؤلمة، إذ استطاع فيه اليهود الغزاة أن ينزلوا بالعرب والمسلمين هزيمة ساحقة، ويقتطعوا أراضي من ثلاث دول عربية هي مصر والأردن وسورية، فضلاً عن القدس والضفة الغربية والقطاع "بقية فلسطين"، ويفرضوا وجودهم بالقوة العسكرية الفائقة فرضاً شبه نهائي، وعندما تقدم الرواية هذا اليوم (5 يونيو) مقروناً باعتقال الشخصية الرئيسة في الرواية، مع زملاء آخرين، فهذا يعني أن "درس الهزيمة" لم يتم استيعابه بعد، وأن العنصر الأساسي في هذا الدرس وهو فقدان المواطن العربي لحريته وكرامته، لم يتم تصحيحه بعد.

والقارئ للرواية يجد أن أحداثها تمتد منذ ليلة الخامس من يونيو 1980م، حتى مساء الجمعة 29 أغسطس 1980م، حوالي ست وثمانين ليلة بالضبط، تمت داخل الزنازين، وإن كان الراوي عن طريق التذكر أو الاستدعاء أو المونولوج يعود بنا إلى الخلف ليروي لنا تاريخ الشخصيات منذ الطفولة والنشأة حتى لحظة الحكي، فنراهم خارج السجون، ونتعرف على خطوط حياتهم العريضة، وتاريخهم الوظيفي والاجتماعي.
الزمن الروائي إذاً محدود في ست وثمانين ليلة، ولكنه يمتد ويتسع ويكبر ليتوازى مع حياة الشخصيات من خلال وسائل البناء الفني التي سبقت الإشارة إليها مع غيرها، وسوف نلاحظ أن الراوي يجعل عناوين فصوله قائمة على حركة الزمان، فهذا الفصل يمضي في ليلة الخامس من يونيو، والفصل الذي يليه يجري في النهار الأول منه، والفصل الثالث يحدث في الليلة الثانية... وهكذا يصير الليل والنهار، دون تحديد ساعات علامة مهمة في حركة الأحداث لأن السجين عادة يفتقد القدرة على التحديد الدقيق للوقت بالساعة والدقيقة، اللهم إلا نزلاء السجون من المجرمين العاديين "غير السياسيين" الذين تتوافر لديهم هذه الإمكانية بوسائل خاصة غير مشروعة.
ويوفر تناول الزمان في الرواية فرصة للراوي كي يقيم العديد من المفارقات، وخاصة فيما يتعلق بالزمن التاريخي، فمثلاً نجد "حسان" وهو شخصية رئيسة يتذكر أن فراشه الإسفنجي على ضيقه أكثر طراوة من فراش السجن العسكري الذي نام عليه عام 1967م، ولكن الذي أدهشه أن يكون اعتقاله الجديد في صباح اليوم الخامس من حزيران "يونيو"، وأن الإفراج عنه في بلده كان بعد هزيمة حزيران المشهورة بأيام قليلة.
"... إذا كان الإفراج عن مئات المعتقلين... آنذاك نتيجة الهزيمة العسكرية المنكرة للنظام، فما سر توقيت اعتقالنا هاهنا...؟"، ثم يضيف: "هل هناك تواطؤ مع نظام...؟ أم هل هناك حرب جديدة تستدعي اعتقال المعارضة خلافاً للعدو اليهودي الذي يلغي الخلافات الداخلية لمواجهة الحروب الخارجية؟".
ويظل ذهن حسان مشغولاً بالمقارنة والتحليل، بين ما كان وبين ما هو كائن أو يمكن أن يكون، متجاوزاً اللحظة الزمنية التي يعيشها داخل الزنزانة، وسوف نرى الإلحاح على مرحلة 1967م في أكثر من موضع في الرواية، والسبب في ذلك واضح، حيث كانت مرحلة من أسوأ المراحل التي مرت بها الأمة على امتداد تاريخها الطويل.
ولا شك أن الراوي برع في استغلال المواسم الزمنية لصنع المفارقة بين حال السجناء وهم في الزنازين وبين أحوالهم وهم أحرار في المجتمع يفرحون ويمرحون ويعيشون البهجة مع أقاربهم وذويهم، انظر مثلاً ما سجله الراوي في الليلة السادسة والستين، وهي ليلة عيد الفطر المبارك، حيث تعم البهجة الناس، ويلبسون الجديد، ويتزاورون ويستمتعون بالنزهات ولقاء الأقارب والأصحاب في الوقت الذي يجلس فيه مع رفيق الزنزانة في صمت كئيب وحبس مريع!
ولنقرأ كيف يقدم الراوي ليلة العيد ووقعها على السجناء:
"عند منتصف الليل تناهى إلى مسامع السجناء أصوات مدافع العيد، كانوا يتوقعون الإعلان عن حلول موعد العيد، وعن طريق طلقات المدافع.. لكنما سماعهم الطلقات أكسب الشعور يقيناً، وأكسب اليقين مشاعر أخرى، لم يكن السجن في يوم ما مقبولاً لدى النفس البشرية، لكن بعض الشر أهون من بعض، السجن في رمضان أخف وطأة من السجن في الأيام العادية، والسجن في...".
"تلك كانت تأملات حسان وعبدالوهاب وجميل وعبدالحكيم وإبراهيم.. ما إن سمعوا مدفع العيد حتى سكنهم شعور جديد، وانقلبت تأملاتهم إلى انفجار شلالات من الذكرى وانكسارها على جدران السجن الصخري".
"أقل ما في العيد خروج من الذات إلى الآخرين، الأقارب يتزاورون، الأب يستقبل الأبناء، الأبناء يقبلون يد الأم والجد، والجيران يتبادلون التهاني، المسافرون يرجعون، الأطفال يسرحون بالأثواب الجديدة، ونقود العيدية، الأراجيح.. الولائم.. كل هذا وأكثر في أيام العيد... لكن أي عيد؟! وهل للسجناء عيد!؟".
وتستمر التأملات كما يسميها الراوي لتذيب القلب دموعاً وآلاماً، وخاصة حين يربط العيد بالأسرة التي تنتظر، والوطن الذي يئن تحت القيود والأصفاد، والصراع الذي يدور في نفس "الشخصية الروائية" حول علاقتها بالوطن ودفع الثمن نتيجة الاهتمام بشؤونه، وهل تستمر في هذا الاهتمام أم تتوقف؟ فهناك كثيرون لا يأبهون بالوطن، ولا بشؤونه ولا بما يحدث له أوفيه...
(3)
ملامح الشخصية الروائية الرئيسة في رواية "خطوات في الليل" تكاد تكون متشابهة، فهي شخصية تملك اليقين الإيماني، وتسلك السلوك الإسلامي في تعاملها مع الله والناس، وهي تفخر بهذا السلوك وتزهو، ومع أن المحن التي تعانيها هذه الشخصية سواء كانت "حسان أو عبدالوهاب أو جميل أو عبدالحكيم أو إبراهيم" تبدو عاتية وعاصفة ومزلزلة، إلا أنها تتمسك بعقيدتها، وتسعى إلى الهرب أو المنفى، وتحرص على الاستمرار في طريق الإيمان والمقاومة، وهي بالطبع، ليست شخصية مثالية تماماً، أو شخصية "السوبرمان" الذي ينتصر ويتغلب ويتفوق دائماً، إنها شخصية بشرية، فيها نواحي القوة وجوانب الضعف، تصدق غالباً وتكذب في بعض الأحيان، تعيش باليقين في معظم الأحوال، ويعتريها وهن الشك والتردد في أحيان أخرى، ولكنها بصفة عامة تواصل الطريق ولا تتراجع، فهي تشعر بهزيمة الأمة والوطن، وتدفعها العقيدة للكفاح أو الجهاد من أجل التغلب على هذه الهزيمة وتجاوزها، ولكنها تتعرض للعقاب من جانب الحكومة "الوطنية" وتدخل السجن مرة بعد مرة، ولكنها لم تتراجع.
حسان الربيعي، الشخصية الأساس، وله أشباه متعددون في الرواية، نزيل الزنزانة رقم "13" اسمه الحركي "حامد أبوالفضل" في التنظيم الذي ينتمي إليه، حين يدركه الفجر وهو مرهق داخل الزنزانة، يسعى لأداء الصلاة قبل فوات الأوان، يركز في صلاته على استحضار خشوع القلب. ثم يتلو أوراده كاملة بعد الصلاة، ومنها هذا المقطع الذي يتلوه بهدوء وإمعان وتدبر!.
"اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللهم رابطتها، وأدم ودّها، واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك، وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمتها على الشهادة في سبيلك...".
هذا السلوك الإسلامي الذي يتمثل في الخشوع في العبادة والحرص على الدعاء، والسعي إلى الشهادة، لا يهمل بقية العبادات من حج وصوم وزكاة، فضلاً عن السلوك الطيب الهادئ الوديع مع الآخرين ومحاولة جذبهم إلى صف الإسلام وقيمه، ودعوتهم إليه عن طريق القدوة والنموذج، والإعلاء من شأن السيرة المستقيمة لديه ولدى الآخرين، وهي المتمثلة في الجرأة في قول الحق، ومحاربة الظلم، وعملاء النظام الظالم والدفاع عن الوطن بكل الإمكانات.
هذه الشخصية مع وضوحها واستقامتها لا تهنأ بالعيش الكريم الآمن "أصبحت أعيش في زمن غريب يسرح فيه اللصوص وتجار المخدرات، ويبتنون القصور، ويمتلكون السيارات الفخمة، ويُلاحق مثل هؤلاء الذين يرفضون الانغماس في الغش والنفاق والسلب والنهب".
الراوي يكشف تفاصيل حياة الشخصية الروائية بصفة عامة، وكما سبقت الإشارة، فإنه يضيئها تاريخياً وإنسانياً واجتماعياً عن طريق التذكر والاسترجاع والمونولوج وغيرها من وسائل البناء الفني، وأحياناً تدفعه هذه الإضاءة إلى استطرادات تبدو مقحمة على البناء الروائي، وإن كان بإمكانه أن يوظف هذه الاستطرادات بوسائل أخرى في مواضع أخرى، ومن الأدلة على ذلك أنه في الموضع السابق الذي يقارن فيه بين الوطني المخلص، واللصوص الكبار، يستطرد في تأملاته إلى التفكير في اختلاف الناس واقتتالهم وسبب ذلك، مع أن لديهم جمالاً وخيرات كثيرة وأرضاً واسعة، ثم تلوح له قضية فلسطين واحتلال الصهاينة لها وطرد أهلها منها، فلم يصدق أو يقبل أن يكون مطروداً من أرضه أو مهاجراً... إلخ.
وهذا الاستطراد على كل حال، يكشف لنا عن شخصية صلبة، ثابتة في حبها لبلدها ووطنها:
"يا أشواك بلادي، يا صخور بلادي، لن أخرج من جلدي، لن أغيّر دمي، من صلابتك التي قهرت العواصف والغزاة ينبعث أملي بقوة شعبي، من ثباتك تتجدد أمنياتي بثبات تاريخي وخلود قيمي".
شخصية حسان الملتزمة إسلامياً، ليست جامدة ولا خشنة، بل هي شخصية مثقفة ثقافة رفيعة، فوعيها بالإسلام وفكره وتراثه وتاريخه ساطع للغاية، وتعدى حدود الثقافة الإسلامية إلى الثقافة الإنسانية عامة، فهو يذكر لنا رواية تشيكوف "الغرفة رقم 6" وآرثر ميللر "ظلام في النهار" وشعراء آخرين أجانب، وهو بعد ذلك كله شاعر ينظم الشعر الموروث "شعر الشطرين" وشعر التفعيلة، فضلاً عن محفوظاته الغزيرة من الشعر القديم، ثم هو ناقد أدبي له مقالات وكتب وآراء نقدية يشير إلى بعضها في ثنايا الرواية، ولكن هذه الثقافة التي يحملها حسان، المدرس بإحدى مدارس بلاده، لم تشفع له عند النظام الذي سجنه قبل 1967م، واضطره مؤخراً إلى الهرب والوقوع في قبضة الشرطة والمحققين والسجن في البلد المجاور لبلده.
يقلق شخصية "حسان" الإخلاص لله في معركة الابتلاء والسجن والمعاناة. هو بشر، ويضعف أحياناً، وتضطرب مشاعره، ولكنه يعالج هذا الضعف والاضطراب بتأمل الآيات القرآنية، والتوبة، والتمسك بالصبر والصلاة، والاقتناع بالتكاليف الصعبة التي تقتضيها مقاومة الظلم، ولكنه لا يلزم غيره بهذه التكاليف، إنه ليس شجاعاً وليس جباناً، ولكنه يتساءل: ما العمل؟ الإجابة لديه كما نفهمها هي: وقف الانهيار والتمسك بالصبر والصلاة.

يتبع