بعض تقانات السرد القصصي في رواية الرصيف للدكتور محمود الزهار

بعض تقانات السرد القصصي

في رواية الرصيف للدكتور محمود الزهار

  بقلم: الدكتور كمال أحمد غنيم

الدكتور محمود الزهار: طبيب، ورمز سياسي، يعمل في كلية التمريض بالجامعة الإسلامية بغزة، وهو من حي الزيتون بغزة، أمضى طفولته في مدينة الإسماعيلية بمصر، حتى عام 1958، وقد أنهى الثانوية العامة عام 1965، وتخرج من كلية طب جامعة عين شمس بالقاهرة عام 1971، وعاد إلى غزة عام 1972، فعمل في مستشفيات الشفاء وخانيونس حتى عام 1974، ثم حصل على الماجستير في الجراحة العامة من مصر في فبراير 1977، وعاد لعمله في غزة، الذي فُصل منه عام 1982 إثر مواجهات عنيفة مع الاحتلال، وعمل في الجامعة الإسلامية عام 1985.   كتب مجموعة قصص نُشر منها قصة (في أعماق صخرة) التي كتبها عام 1982، وقصة (الرصيف) التي كتبها عام 1985، ونُشرت عام 2002، وكتب سيناريو فيلم (عماد عقل) عام 2000، وذكر أنه يقوم حاليا بإعداد قصة (عز الدين القسام) التاريخية للنشر، كم قام بنشر العديد من الكتب الثقافية والسياسية، وقد تعرض وعائلته للاغتيال من خلال عملية نسف بيته بالكامل في عام 2003.

 

        تتناول قصة (الرصيف) للدكتور محمود الزهار جانباً من مأساة الشعب الفلسطيني، وفضاء القصة هو مرحلة ما بعد عام 1967، وقد كتبها الدكتور محمود الزهار عام 1985، ونشرها عام 2002([1]).

        وتحكي القصة حكاية الشاب الفلسطيني (محمد الفائز) الذي يسير في فضاء القصة من ليبيا؛ مروراً بمحطات مرسي مطروح والإسكندرية والقاهرة؛ وصولاً إلى تل أبيب، وقد وضع في مخيلته هدفاً واحداً، نستطيع أن نستكنه خفاياه من خلال علاقاته العابرة في أرصفة المحطات وفضاء السيارات والقطارات.

        وكأن الكاتب شاء من خلال رحلة بطله الممتدة أن يبلور الأبعاد المختلفة لمأساته، فهو شاب يمزج بين الإنسانية اللامتناهية والحزم الشديد، في توازن ملائكي، يمد يد العون لكل من يراه، أجنبياً كان أو مواطناً من بلده فلسطين، أو فتاة من عمق الأمة العربية، أو حشداً من المسافرين، يترك فيهم بصمة قدسية واضحة، وفي خلفية اللوحة التي يرسمها الكاتب نرى جذور المأساة هناك، لدى عائلته الصغيرة التي تشتت شملها، بين الشهيد والفقيد، والنازح في المنفى البعيد، وذروة الأسى تتمثل في فقد أخته الصغيرة، التي عهدت بها أمه إليه وهو طفل في أثناء الهجرة عام 1948، وفقد الأم لأحد عينيها وهي تحاول العودة لاسترجاعها، والإحساس الثقيل بالمسئولية الجسيمة تجاه ما حدث، والبحث الدءوب عنها على مر السنين، والنتيجة الحتمية لتنامي الرفض تجاه هذه المصائر البشعة لأسرة أو لأمة لا ذنب لها، ولذلك تأتي النهاية حتمية ومبررة من خلال عملية (محمد الفائز) الاستشهادية والبطولية، التي ينفذها في عمق تل أبيب؛ عابراً إليها كل تلك المسافات الشاسعة، و يتخلل ذلك استعراض لجرائم المحتل في عمق الوطن العربي، مثل مذبحة مدرسة بحر البقر والضباط المصريين والسويس.

 

العنوان:

        يجترح الكاتب لقصته عنوان (الرصيف)، مثيراً بذلك أكثر من تساؤل، ومعطياً المتلقي أكثر من أفق للتصور عن ماهية العنوان ومؤداه، ذلك أن المفترض في العنوان تحقيق هوية النص وإقامة الصلة بالمضمون، وتقديم مفتاح تأويلي، يثير في المتلقي هاجس الإمعان في قراءة النص، ويرى البعض أن العنوان ينبغي أن يشوِّش الأفكار، وليس أن يوحّدها؛ ليحقق عنصر التشويق([2])، فالعنوان يجسّد جدلية الصراع بين الرمز والمعنى، فيه يكثف الكاتب فكرته وهدفه، ومن خلاله يعكس أكثر من تصور وهدف، فلا يكاد أن ينحسم الأمر إلا بالانتهاء من قراءة النص كلياً، فهو مثل السؤال الذي يجيب عنه النص إجابة مؤقتة مع ترك المجال مفتوحاً عند المتلقي للإضافة والتأويل، وفق مفهوم التفاعل البنّاء والإيجابي، وبذلك يكون العنوان -بشكل أدق- علامة استفهام ممتدة من العنوان إلى النص، فيها مجال كبير لخلق مرايا ومعانٍ متعددة([3]).

        ويمكن للمتلقي بسهولة أن يلاحظ تسلل عنوان (الرصيف) إلى ثنايا القصة، فبداية أحداث القصة تدور في رصيف محطة القطارات، والشخصية الثانية في القصة يلتقيها البطل على رصيف الشارع، وتتعطل السيارة على الرصيف مرتين، وينقضي الفصلان الرابع والخامس على الرصيف ليلاً ونهاراً، وتقرر الفتاة الذهاب معه إلى أي مكان، حتى وإن عاد يجلس على طين الرصيف، وفي لحظة معرفة الشهادة، تكون صورة محمد ودمه على رصيف شارع من شوارع وطنه، وبعد لحظة المعرفة تخاف الفتاة من مصيرها على رصيف الأحزان، بل إن سقوطها مغمى عليها يكون على الرصيف المعشوشب تحت الشجرة التي أحبتها في الجامعة، كما أن صدى خبر الشهادة يتردد عند الشخصيات الأخرى على أرصفة متفاوتة: على رصيف الشارع عند المقهى، وفي رصيف الشارع عند خندق متقدم في المعركة، وعلى رصيف الجامعة([4]).

        ويتشظى معنى العنوان في أحداث القصة، لنرى الرصيف الحقيقي ممتداً وماثلاً من البداية إلى النهاية، لكن الكاتب باختياره هذا العنوان (الرصيف) المرتبط بالمكان ينسجم مع رؤية بعض النقاد في ارتباط عناوين المكان بسيادة الإحساس بالغربة عن الذات والمكان([5])، فمحمد الفائز بطل قصته يفتقد المكان الآمن (الوطن)، ويفتقد ما يرتبط به من (استقرار أسري)، ولذلك عاش في فضاء النص على رصيف السفر والهجرة، وبقي (المكان: الحلم) مفقوداً من ذلك الفضاء إلا في لحظة الالتحام البهي، التي لم تكن إلا دماء الشهادة على رصيف الوطن.

        ومن مضامين العنوان المتعددة كون الرصيف رصيف معاناة الشعب الفلسطيني، فهو شعب يسافر ويرتحل ولا يستقر، وهو على رصيف السفر حقيقة، وعلى رصيف  الدنيا معنوياً، يقول محمد: "على الأرصفة تجدنا"([6])، ومن معاني الرصيف التحول عند الشخصيات الأخرى، فالجميع يتحولون إلى الخير، وتأتي شهادة محمد الفائز لتعزز هذا التحول، فكأن الشخصيات كلها تسافر وتجلس على الرصيف؛ انتظارا للتحول القادم، فأرصفة القصة فيها دفع قوي نحو الخير بكافة السبل، والصلاة على رصيف القطار تحول جماهيري سبق العملية، وإنقاذ المرأة الأجنبية على رصيف  المحطة حثٌ خفي على تحول التصور الغربي تجاه القضية دون الاكتراث كثيراً بذلك، ومن معاني الرصيف: الرحلة إلى الله بكدح غريب، تتوِّجه الشهادة، فالرصيف مكان التحول إلى الجنة والنصر في الدنيا والآخرة.

        ولم تكن تلك المعاني بعيدة عن وجدان الكاتب؛ وهو يقول بمرارة على لسان محمد الفائز: "إن الملايين- ومنذ سنين- يعيشون على الرصيف، بعضهم على رصيف الشارع، وغيرهم على رصيف الحياة، وغيرهم على رصيف التاريخ، الحياة اليوم هي على الرصيف، لكن هذا الكون يحتاج إلى من يعيد خطاه إلى الطريق، الناس اليوم يحتاجون إلى حياة جديدة، العالم اليوم ضاق بالملايين من الفقراء والبؤساء، العالم اليوم يريد من يصفعه على وجهه، حتى يفيق من غيبوبة الخمر والمخدرات كل أنواع المخدرات..."([7]).

 

البداية:

        وقد رأى بعض النقاد أن بداية القصة تلخص العمل وتشي بما سيأتي دون الصد عن التعامل مع باقي القصة، كما أنها تضع المتلقي في السياق، لتثير فيه بمجرد قراءتها التساؤل عما سيكون فيما بعد([8])، والحقيقة أن بداية قصة (الرصيف) لا تلخص العمل، ولا تستبق الأحداث، ولا تتنبأ أو توحي بما سيكون، لكنها تضع المتلقي في السياق، وتطرح في وجدانه أكثر من سؤال، بل إنها تراوغه في تقديم صورة متوهمة لحقيقة بطل القصة من خلال وجهة نظر إحدى الشخصيات الثانوية "سيدة بدينة في منتصف العمر"، ليكون ذلك التصور هو أول التصورات عن لغز بطل القصة، الذي نتعرف عليه من خلال علاقاته بالشخصيات؛ التي يمر بها في رحلة سفره، فمنها الإيجابي، ومنها السلبي على قلته، لكن الأحداث تثبت إيجابية محمد لهذه الشخصيات جميعها ولو بعد حين([9]).

        وتجسِّد البداية من خلال تصور السيدة البدينة حالةً من السكون والاستقرار على مستوى السرد، هذا السكون الذي يتجه نحو حيوية الحدث وتفاصيله وتداخلاته، فهي تبرز أهمية البطل، وتشدنا للتعرف عليه من خلال البداية بفعل ماضٍ يكرس مشهداً حاضراً؛ الزمن موجود فيه والمكان والمتحدث (الراوي)، وكأن الكاتب يتنصل أيضاً من وضع صورة مسبقة يريدها، وتدفع قصته بقوة نحوها، فهو يرسم صورة الشخصية الرئيسة في هذه البداية بشكل موضوعي نسبياً، ويترك المجال مفتوحاً لنسف تصورات المرأة البدينة؛ القائمة على الوهم والخوف، ولذلك يتفاجأ المتلقي بعد قليل بإيجابية محمد التي تظهر تدريجياً، لكنه لا يُصدم بها، وتحقق البداية بذلك هدفها في إثارة لهفة المتلقي للتواصل مع نسيج القصة وعالمها اللغوي منذ اللحظة الأولى، وتبقيه مشدوداً من خلال تقسيط التفاصيل على مراحل الحدث النامي.

        وإذا كانت البداية في القصة تنقسم إلي عدة أنواع، منها: البداية المتناهية، والمتعالقة، والواصفة، بالإضافة إلى احتمالية كون العنوان بداية ناجحة للنص، فإن بداية قصة  الرصيف تعد بداية واصفة، تنتمي إلى الوصف المشهدي؛ القائم على جلاء الغموض عن حركة الأبطال، والكشف عن قسم من حوارهم، دون انفلات عنصري الزمان والمكان، بالإضافة إلى تقديم العلاقات القائمة بين الشخصيات مختصرة مفسرة([10])، فالمكان هو محطة رصيف القطارات قبل وصول القطار بقليل، والزمان ماضٍ ينتمي إلى وصف الحاضر وتفاصيله، والعلاقات بين الشخصيات قائمة على الغربة والتنافر، مما يفسر خوف المرأة البدينة، الذي ينكشف بعد قليل عن شعورٍ بالذنب، ورغبةٍ في التكفير عنه بايقاظ محمد من  نومه؛ حتى يدرك القطار، وفي أثناء هذه العلاقات استطاع الكاتب بحيله فنية أن يقدّم خلفيةً للمشهد، ويوجز تصويراً أولياً لشخصية بطله، والظروف المحيطة به، والتعب الشديد الذي يعاني منه، الذي يظهر من خلال حقيبة ثقيلة، ونوم ثقيل، ينكشف فيما بعد عما يمكن تسميته استراحة محارب.

 

 

اللغة:

        يطغى الحوار على لغة القصة، فهو يشكل نسبة (51.7%)، بينما يأتي السرد في المرتبة الثانية (42.3%)، وتقنع المناجاة بحصيلة ضئيلة هي (6%)([11])، وهو بذلك يخالف الشائع عن استبداد السرد باللغة الروائية، وإن حافظ على الشكل القصصي بوجود فارق نسبي بين الحوار والسرد، حتى لا تتحول القصة إلى مسرحية، ولا يضيع السارد والسرد بين الشخصيات المتحاورة،  فمن الواضح أن زمام المبادرة ظل بيد السرد، وأفاد طغيان الحوار قليلا إتاحة المجال نسبياً للشخصيات في الظهور والتمايز والاستقلالية النسبية عن سطوة السارد، كما منح القصة طاقة درامية، وشكلاً أقرب إلى الواقعية.

        وقد تميزت لغة السرد بأنها فصحى، تنتمي إلى ما يمكن تسميته بلغة الصحافة القريبة من متناول جميع المستويات الثقافية، فهي بسيطة، وحادة في بعض الأحيان، مفهومة، وإن كانت لا تحفل بالأناقة والتزين، وتمس الشاعرية في مواضع قليلة جداً، وقد نجحت بالتالي في أداء وظيفتها التعبيرية من خلال تقديم الشخصيات بشكل حميم، ووصف المكان بطريقة مفعمة بالتفاعل، والتعبير عن عواطف الشخصيات ومخاوفها، من ذلك قول الكاتب: "وصلت السيارة بعد طول تردد إلى مشارف القاهرة، ولم تستطع بعد الآن أن تواكب وطأة الزحام، فقررت أن تستريح؛ لتسترد أنفاسها اللاهثة، وتبرد حرارتها، فقرر الجميع تركها والاستعانة بغيرها... سيارات الأجرة كثيرة.

        وقفت بجوار السيارة وتعمدت أن تطيل النظر في ساعتها، وبدا عليها الغيظ، كانت طوال الساعات الماضية تتمنى أن تتوقف العقارب، وأن يتجمد الزمن، أو يتراجع، لتصل إلى مسكنها في الموعد المحدد... لكن عبثاً.

        كان هو آخر من انتزع الحقيبة من جوف السيارة، ونظر إليها، وهي لا تزال تحدق في ساعة يدها، ولم تكن قد أخذت حقيبتها الثقيلة بعد..."([12]).

        فهو هنا يعرض في البداية المشهد الكلي لشخصيات ركاب سيارة الأجرة القديمة، التي خذلتهم قبل ذلك، وهي تخذلهم الآن من جديد، ويمنح السرد نفحةً من المفارقة المؤذية المضحكة، إذ إن قرار السيارة اللامعقول بالراحة واسترداد الأنفاس، يبرز معاناة الركاب، الذين لم يستريحوا لهذا الأمر، ثم ينتقل في قطع سريع من مشاعر السيارة، أو مشاعر ركابها جميعا، إلى دخيلة سميرة، ومعاناتها الشخصية من هذا التأخير، الذي يسبب لها الحرج مع سكن الطالبات الذي تتجه إليه، ومن ثم ينتقل إلى شخصية محمد، وهو من خلال هذا المقطع البسيط قدّم الشخصيات، ووصف حالة المكان (مشارف القاهرة، والسيارة المعطلة، والزحام، وسيارات الأجرة الكثيرة)، ولم ينسَ العواطف والأهواء، سواء من خلال الوصف المباشر (تطيل النظر في ساعتها، بدا عليها الغيظ، انتزع الحقيبة)، أو من خلال التسلل إلى أعماق الموجودات: (وصلت السيارة بعد طول تردد، فقررت أن تستريح، لتسترد أنفاسها اللاهثة، تتمنى أن تتوقف العقارب).

        وقد لجأ الكاتب إلى التنويع في أسلوب السرد، فلم يمزج بينه وبين الحوار والمناجاة وحسب، بل لجأ إلى تقانات أخرى، أسهمت في نمو الحدث وتصاعد الصراع، منها التعامل مع أسلوب (خبر الصحيفة)، الذي يلخص مجريات أحداث، تشكل خلفية قوية تدعم النص وأحداثه، من ذلك خبر مذبحة مدرسة بحر البقر، مع وصف ما جاء فيه، من صور للأطفال وهم غرقى في دمائهم، وصورة كتاب مصبوغ بالدم، وسيارات الإسعاف، وجدران المدرسة المهدّمة، والعنوان الأحمر القاني: "إسرائيل تضرب بطائراتها مدرسة بحر البقر"([13])، ولا يأتي هذا الخبر بنصه عبثاً، إنه يسخّن الحدث، ويدفع نحو تفجير أكثر من مأساة، لتمهّد جميعها لنهاية حاسمة، يسجلها خبر آخر بتعبيرات الصحافة الواقعية، التي تثير على واقعيتها أكثر من انفعال في أكثر من مكان: "فمدّ الضابط يده ليفرد صحيفة، وقال:

- عملية استشهادية ناجحة في قلب تل أبيب، أكثر من عشرين قتيلاً من العدو، وأكثر من مائة وخمسين جريحاً معظمهم من الجنود...”([14])، وفي صحيفة أخرى: "عملية جريئة داخل الوطن المحتل قادها محمد عبد الله، أسفرت عن قتل..."([15])، ويوظف الكاتب تفاصيل الخبر الصحفي أو التقارير الصحفية لينطلق من خلالها إلى الجوانب الإنسانية الأكثر دفئاً في التعبير عن الخبر: "بعضهم يقرأ ودموعه ترطّب لسانه، وبعضهم يلخّص ما جاء فيها:

- لقد وجدوا في جيب قائد المجموعة... البطل... وصيته، طالب فيها أخته أن تتصل بأمها أينما كانت، وحيثما حلّت، أن تبحث عن أمها التي تنتظرها منذ عام 1948... وكلمات إلى أمه أنه نفذ ما ربّته عليه، وألا تحزن، فإنه أعد لها تاج الوقار يوم القيامة، وسيقف مع الشهداء، يشفع لها... ستكون أمه أول من سيطلب لهم من الله الغفران والجنة، وفيها كلمات موجهة إلى إنسانة مجهولة، يقول فيها اذكريني عند زوجك، وأولادك، وبناتك، كلما سقط المطر، واشتد البرد، وأغلقت الدنيا أبوابها في وجهك..."([16])، فبهذا الخبر أو التقرير الصحفي يربط الكاتب بين جوانب سرده المتباعدة، عندما تحدث عن لقاء محمد الأول بسميرة على رصيف الشارع في البرد والمطر، وعن ذكريات محمد المرّة عن مأساته ومأساة عائلته، ويربط بين البدايات والنهاية، عندما يجعل هذا العمل البطولي تتويجاً للسرد السابق.

        ويلجأ الكاتب في السرد إلى التعبير بأسلوب الخبر الإذاعي عن العملية([17])، كما أنه لجأ إلى السرد من خلال أسلوب الرسالة، واستطاع من خلالها تلخيص ما حدث بعد لقاء الرصيف بين محمد وسميرة، وانعكاسات هذا اللقاء عليها والتحولات الناشئة عنه، وذلك في رسالة مطوّلة تكتبها سميرة لوالدها([18])، ويلجأ إلى أسلوب الرسالة في موضع آخر، عند اقتراب القصة من ذروتها، ممهداً للحظة التنوير،  مشعراً من خلالها بأهمية ما سيحدث، مع المحافظة على خط تأجيل النهاية من خلال آمال سميرة وتفسيراتها المتعللة بواقع أفضل لم تخدمه كل معطيات الواقع الذي قدّمته القصة، مبرراً بذلك صدقها فيما بعد: "... يوم الجمعة تتعطر أنفاسي بريحٍ قرأنا عنها كثيراً، ولم نستطع أن ندفع ثمنها.. يوم الجمعة ألتقي بأحب الناس، وأجمل الناس، يوم السبت حياة سعيدة، لا شقاء فيها، عالم جديد، طعام جديد، وصحبة جديدة، كل ما أرجوه هو الدعاء، إنني في حاجة - هذه الأيام- لدعوات مخلصة حتى أنال توفيق الله..."([19]) .

        ويوظّف الكاتب في أثناء السرد آيات الشهادة([20])، في رمزية دالة على خبايا نفسية محمد من جهة، وعلى تفاعل مع الواقع المتشابك مع دماء أطفال مذبحة البقر.

        ولجأ الكاتب في سرده إلى توظيف لغة الجسد التعبيرية لإعطاء المعاني بعداً أعمق، ومنح المتلقي صورة أكثر إشراقاً، من ذلك: (بدت ملامح الخوف ترتسم على وجهها، ازدادت انكماشاً، يبتسم وهو يقول...رد بهدوء... يحافظ على ابتسامة... همس متنهداً... قال بحزن، مسح أنفه عدة مرات... تكررت أنفاسه المسموعة، فأجاب الجندي مضطرباً، همس بود وقد مال برأسه إلى محمد، فرك كفيه... رموشها ترتعش، يسير خلفها متودداً، اندفع بعفوية ومبالغة يعانق الشاب بحرارة، وقد رسمت أجمل ابتسامة، وقد مال برأسه إليها... واستدار الرجل)([21])، وأسهم ذلك الأمر في منح القصة بعداً درامياً، يمكن إضافته إلى سطوة الحوار قليلاً على السرد، ومن أهم إيجابيات ذلك منح القصة حيويةً أكثر.

        وكان الحوار في الغالب لغة متبادلة بين الشخصيات، فيها أخذ وعطاء، لا تطغى شخصية على أخرى، من ذلك:

        "- لماذا أتوقف يا أستاذ؟!

        - خذ السيدة معك.

        - العدد كامل يا أستاذ!

        - سنجد لها مكانا معنا.

        - هذه ستجلب مخالفة؟

        - أنا أتكفلها.

                وهنا تدخل الأصلع النحيف:

        - لا مكان لأحد هنا..."([22]).

إلا في بعض المواقع التي  طالت فيها تعبيرات شخصية ما عن الأخرى، وخصوصاً في حالة الحكي عن الذكريات والأحداث السلفية، أو في حالة التأملات، والتعليق الشاعري على الواقع والأحداث([23]).

        واعتمد الكاتب في لغة الحوار على الفصحى، الأقرب إلى لغة وسطى، أو ما يمكن تسميته باللغة الثالثة، أو لغة الصحافة، وقد شابت هذه الفصحي تعبيرات قريبة من اللغة المتداولة في الحياة اليومية، من ذلك: (مصيبة لو كان معهم، الله يساعده، نواة تسند الجرة، يا مغفل قبل أن تتهموا...، تصور يا أستاذ، كله من هذا المغفل، خذنا معك... اعمل معروفاً... الله يخرب، يا جماعة صلوا على النبي، يا أستاذ هذا مكان محترم... إلى آخره)([24]).

        وقد راعى في أثناء هذا كله مناسبة اللغة لمستويات الشخصيات الثقافية والعلمية والاجتماعية، من ذلك كلام محمد الدال على ثقافته في معظم عبارات حواره، ومنه قوله: "لا شكر على واجب"([25])، ومحاولته الاقتراب من مستوى الشخصيات غير المتعلمة، من ذلك بعض حواره مع عامل القهوة: "شاي..اثنين"([26])، كما جعل الكاتب لغة الضابط رسمية عسكرية، من ذلك ندائه للجنود في حالة بعيدة عن الرسمية، هي إبلاغهم بخبر العملية البطولية: "يا شباب اجمع بسرعة"([27])، واختار العبارات الملائمة لشخصية "أم محمد" الأمية زوجة عامل القهوة، المستمدة من البيئة الشعبية: (الله يديم المحبة، يا كبدي يا ابنتي، الله يعين أمك ويصبرها، يا حبة عيني يا ابني، يا نور عيني يا ابنتي، يارب الصبر من عندك... يا ابني ارحم نفسك، اسمع يا ابني يا حبيبي.. المهم خذ بالك من نفسك)([28]).

        ولجأ الكاتب إلى توظيف تقانة الحذف في الحوار، لأكثر من غرض، على رأسها منح الحوار حيوية تعتمد التبادل والأخذ والعطاء، بالإضافة إلى الواقعية، من ذلك مقاطعة سميرة لمحمد:

 

"- بيت طالبات...

وبدا أنه لم يفهم ماذا تقصد، فتابعت:

- أغلق أبوابه الساعة التاسعة، والآن... بعد منتصف الليل.

- لو ذهبت معك وأخبرتهم الحقيقة؟ ربما...

فهزت رأسها يمنة ويسرة رافضة"([29])، فهى ترفض الفكرة، لأنها بخبرتها تدرك النتيجة، وقد حدث فيما بعد ما توقعته.

        ومن ذلك مقاطعة محمد لها وهي تمدحه أمام أخيها، وتحدثه كيف أنه حماها([30])، ومن ذلك التصوير الواقعي لمشهد الركاب المزدحمين على الرصيف في المطر والبرد يلتمسون وقوف أية سيارة: "-الله يخرب...

        - البرد سيقتل الأولاد... اعمل..." ([31])

حيث لا تكتمل العبارات نتيجة مرور السيارة السريع عنهم، فلا تلتقط الأذن إلا أنصاف الجمل.

 كما وظّف الكاتب الحذف في بعض المواقع الانفعالية، التي تغني فيه الكلمة عن عبارات وجمل، من ذلك تعليق محمد على دموع سميرة وهي تتذكر مأساتها:

"- ما حدث لنا في الإسماعلية حدث في السويس وفي بور سعيد، لا من أين أنت، وما هي تجربتك، ولا ماذا تعمل، ولا إلى أين أنت تسير، ولكن جمعنا الألم...

- دموعك ...

قامت متثاقلة إلى حيث غسلت وجهها"([32]).

        واعتمد أسلوب الحذف اختصاراً ومنحاً للحدث واقعية عند حدوث ما هو أهم من الكلام، من ذلك الحوار بين محمد والجنود الباحثين عن المهربين في القطار: "يا مغفل قبل أن تتهموا الناس اسألوهم... و..."([33] حيث توقف القطار عندها وحضر الضابط الذي قد يكشف خدعة محمد لهم، فكان لا بد واقعياً من بتر الكلام وإخلاء المكان.

        واعتمد أسلوب الحذف في الحوار لتجنب ذكر ما يعيب من شتيمة أو مكان يخجل من ذكره، أو تصرف مشين([34]).

        ووظف الكاتب المناجاة للتعبير عن عمق الأحداث وإعطاء خلفية تفسر جوانب الصراع والتنامي، بالإضافة إلى إعطاء بعد نفسي للغة القصة، وعبر من خلال هذه التقانة عن جوانب لا يسهل التعبير عنها دونها، فليس من السهل أن يعبر الحوار عن ذكريات بعيدة، وإلا ستطول عباراته، ويقع في عيب الإطالة، كما أن الواقعية تمنع السارد -نسبياً- من سرد بعض الخصوصيات، فيلجأ إلى حيلة المناجاة الفنية، لتأتي المعلومات بشكل طبيعي، يوهم بالواقعية، ومن ذلك مناجاة طالب الطب لنفسه، والعجوز الأجنبية، ومحمد، وسميرة، وعامل المقصف([35])، إذ تناجي سميرة نفسها: "وهمست إلى نفسها تتحدث بما لا يسمع... كيف لا أشغل نفسي وقد قررت ألا أضيع هذه الفرصة، رجل يحمي العرض، ويحفظ من الخوف، ويدفّىء من البرد"([36])، فالسارد يهرب من سطوة الحوار والسرد ليلجأ إلى المناجاة هنا؛ حتى يخرج بحيادية مشاعر سميرة وأفكارها، وانطباعاتها وهو من خلال ذلك يفسر تصرفاتها ويصوغ توجهات الحدث وتناميه نحو غايته المتوخاة.

        وقد تميزت المناجاة بالقدرة على صياغة ذلك الهدف بنجاح أكبر من سطوة الإنشائية على الحوار في بعض الأحيان، بمعنى أن المناجاة أدت وظيفتها، وعندما تخلى عنها الكاتب ولجأ إلى الحوار للتعبير عن بعض المعاني التي لا يسهل توظيف الحوار لها وقع في التعبير الإنشائي نسبياً، وحاول التخفيف منه بمزجه مع الحكمة والتأمل، وإعطاء أبعاد فلسفية وإنسانية لمعاناة الشخصيات، من ذلك كلام محمد عن التأخر والمهاجرين وضمير العالم، والملايين على رصيف الحياة، والأمل والألم، وكلام سميرة عن الأمل والألم، وعن معاناة فلسطين([37]).

        واجتهد الكاتب بشكل عام في صياغة لغة قصصية قادرة على رسم لوحة حياتية وإنسانية تضج بالتفاعل والتفاوت والتمايز، واستطاع بشكل نسبي أن يحل المعادلة بين الفصحى والعامية في لغة الحوار، وظل النسيج اللغوي منسجماً بين الحوار والسرد والمناجاة، لكن ذلك كله لم يمنع من وقوع  الأخطاء اللغوية.

 

السرد:

        أما عن السرد فقد عدّته بعض الدراسات عنصراً من عناصر فن القص، غير أن آخرين عدّوه وسيلةً لبناء العنصر الفني وصناعة المادة الفنية، ولذلك تتعدد أنماطه ومظاهره تعدد الرؤى، وزوايا النظر، والبؤر السردية([38])، حيث يمكن أن تتنوع أشكاله انطلاقاً من علاقته الحميمة بالشخصية، فيأتي من خلال عدة زوايا، منها أن تقدّم الشخصية نفسها، أو تقدمها غيرها من الشخصيات، أو أن يقدمها سارد آخر، أو يجتمع على تقديمها نفسها والسارد والشخصيات الأخرى معا([39])، مما يعدد أنواع الرؤى السردية، فالرؤية الخارجية ترتبط بصوت لا علاقة له بالشخصيات والحدث والزمان والمكان، يقوم على التنقلات الحرة في الوصف، مع إتاحة فرصة ضيقة لظهور الرؤى الأخرى، أما الرؤية الداخلية فتتيح للشخصية أن تسفر عن أفكارها ومواقفها، وتوقد شرارة السجال حول الفكرة الجوهرية للقصة، وتعتمد الرؤية الثنائية على تضافر الرؤيتين الخارجية والداخلية وتداخلهما، أما الرؤى المتعددة فتقوم على تناوب عدة رؤى لتقديم الحدث والشخصيات، وتظل محكومة برؤية خارجية ينظمها راوٍ عليم، لكنها تمنح المتلقي فرصة مشاهدة الشخصية في أكثر من مرآة، وبأكثر من بعد ودلالة ووجه([40])، ويُلاحظ أن الراوي العليم يكاد يسيطر على الرؤية الخارجية، والرؤى المتعددة، وهو يعتمد الهيمنة على عالم روايته، حيث يمكنه التدخل بالتعليق أو الوصف الخارجي دون تحليل أو تفسير، ويجيء منحازاً إلى صف أبطال قصته بشكل مكشوف أحياناً وخفي أحياناً أخرى([41]).

        ويعتمد الزهار في قصة الرصيف على الراوي العليم بكل شيء، من خلال الرؤية السردية الخارجية في الأغلب، مع إتاحة فرصة أوسع لظهور الرؤى الخارجية، وقد انطلق في بداية القصة بوصف محمد وما يحيط به في رصيف القطار، حيث وصف المرأة وأولادها، ثم انتقل داخل نفسية المرأة البدينة، وبدأ يصف من خلالها محمد وظروف قدومه، ومخاوفها من شكله المريب، وأسهب من خلالها في تأمل المكان ووصفه والمتغيرات الطارئة، وانتهى بتعاطفها مع محمد وإيقاظه، ثم انتقل الراوي العليم إلى ذات محمد فراح يصف من خلاله حادثة مساعدة العجوز الأجنبية، وجاء نقل أحاديث الركاب عرضياً، وكأن محمد يستمع إليه، لكن محمد كان جزءاً من المشهد، ولم يتكلم هو، وإنما الراوي العليم، ويصف الأخير الحوار الدائر بين محمد ومصطفى، ثم ينتقل إلى ذاكرة مصطفى ليبرز قضيته الخاصة، لينكشف الأمر بعد قليل عن أن مصطفى هو من يتحدث عن نفسه، ثم ينتقل الراوي العليم ليصف لقاء الشكر بين محمد والعجوز الأجنبية، وحادثة القبض على محمد ومصطفى وكيفية التخلص من ورطة الحقيبة.

        ويُلاحظ أن الكاتب وإن اعتمد أسلوب الراوي العليم إلا أنه وظّف الرؤية الداخلية في انتقالات تحاول أن تمنح السرد مصداقية، وتمنح المتلقي زوايا متعددة للرؤية، من ذلك ما دار في وجدان السيدة البدينة، وكلام مصطفى طالب الطب عن حكايته، وكلام سميرة عن ظروفها وظروف عائلتها، وحديثها عن المجزرة التي تعرضت لها عائلتها في الإسماعيلية، وحديث محمد عن نفسه وعائلته وحكايته المأساوية([42])، ويحقق ذلك بتلقائية ومنطقية وخفة في كثير من الأحيان، وبطريقة منحازة مكشوفة في أحيان أخرى، حيث يشغله اهتمامه المميز بالتفاصيل عن توظيف حيلة فنية مثل الحوار أو الرؤية الداخلية، من ذلك دخوله في وجدان الرجلين النحيف والبدين واعتقاديهما المتضادين حول نوايا محمد؛ مفسراً تصرف كل منهما تجاه إفساح المجال لفتاة الطريق "سميرة" للركوب في السيارة: "قرر أربعة من الركاب ألا يتدخلوا، ولم ينطق منهم أحد بحرف، بينما كان الأصلع النحيف يعتقد أن الشاب صياد فتيات جميلات، وما أسهل  صيد الطريق المعتم المبتل، تمنى- للحظات- لو أنه كان صاحب فكرة انتشالها من هذا الموقف، أما الآن فعليه أن يعارض، كيلا يظفر بها هذا المصارع المتهور.

        كان الرجل البدين، ومن طول تجربة، ولكثرة ما أنجب من بنات، قد قرر في نفسه أن يوافق على نقلها في هذا الظرف..."([43])، ومن ذلك أيضا تسجيل أفكار الفتاة عن محمد ونومه، وعن غيظها من تأخرها، ودخيلة سميرة بعد لبس الجلباب([44]).

        ويلجأ الراوي العليم إلى حديث شخصيات القصة عن شخصيات أخرى غائبة، ليستكمل فضاء قصته، والخلفية الدرامية التي تحرك شخصياتها، والبواعث الخفية وراء تصرفاتها، بطريقة تنتمي إلى شكل قريب من الفسيفساء، التي يكرس كل جزء منها الصورة العامة، من ذلك: حكاية جار كمال الناجي من مذبحة الأسرى المصريين، وحكاية محمد عن "الشيخ عمر" الزاهد المتصوف في قريتهم، وحديث كمال عن عمه المتطوع في حرب عام 1948، وحال عائلته من بعده، وكلام "أم محمد زوجة عامل المقهى" عن زوج ابنتها الشهيد الذي استشهد في سيناء([45]).

        ويستخدم الراوي العليم عدة رؤى تظل تحت سيطرته لمنح الشخصيات أكثر من بعد، فهو يقدم كسارد شخصية محمد في أكثر من موقع([46])، ويقدمه من خلال رؤيته الداخلية لنفسه([47]) إما من خلال الذكريات أو الحوار أو الرسالة، ويقدمه في مرات أخرى من خلال رؤية الشخصيات الأخرى الداخلية، ليخلق أكثر من بعدٍ له قد تتناقض، لكنها تجمع خيوط حكايته في النهاية، فتقدمه السيدة البدينة مشبوهاً يثير الرعب، ويقدمه الرجل النحيف صياد فتيات مريب، وتقدمه سميرة بإضافة لمسات شكلية ذا بعد إنساني، وتقدمه الشخصيات الأخرى لحظة انكشاف الحقيقة شهيداً نبيلاً وبطلاً يملؤ سمع الدنيا.

        وينسج هذا التوجه السردي مع استعمال أكثر من ضمير في القصة، حيث يغلب استخدام ضمير الغائب "هو" فابتدأت به القصة وانتهت، وتناسب ذلك مع طبيعة الراوي العليم، الذي أتقن التواري خلفه، وأخذ حرية كبيرة من خلال انتقاله من زاوية رؤية إلى أخرى، ولكن الضمائر الأخرى لم تفقد نصيبها من النص، حيث ورد ضمير المتكلم في بعض النصوص السردية التي جال خلالها الراوي العليم في وجدان أكثر من شخصية، بالإضافة إلى معظم مواقع الحوار في القصة، خصوصاً تلك التي تعلقت بالحديث عن الذكريات، وحديث بعض الشخصيات لنفسها، مثل حديث سميرة لنفسها([48])، كما ظهر ضمير المخاطب في مواقع الحوار([49])، بالإضافة إلى بعض مواقع السرد والمناجاة، من ذلك قول سميرة وهي تخاطب نفسها: "وبدت حركاتها تعكس لهفة دفعتها إلى أن تلوم نفسها: ما بالك؟ هل فقدت عقلك؟! شخص لا تعرفينه ولا يعرفك!! ماذا أصابك؟ ... ... ثم توقفت نادمة، تحدث نفسها... ما هذا الابتذال؟! يجب أن تتماسكي، ولاحت لها فكرة..."([50]).

        ومن الواضح أن الحوار في القصة يفرض استعمال ضمير المتكلم أو المخاطب حتى لو اصطنع الكاتب السرد بضمير الغائب، وبالتالي لا يغيب الضميران، وإن كان ذلك يختلف عن اعتماد الكاتب بشكل رئيس على أحدهما، ويمكن القول هنا أن مدى نجاح الكاتب لا يتعلق بتوظيف ضمير دون الآخر بقدر ما يكمن في قدرته على رسم الشخصيات من خلال بعث سماتها وخصائصها المميزة من كلماتها المعبرة عنها، بنسيج يتمايز عن حوار الشخصيات الأخرى وعن نسيج السرد في القصة بشكل عام، ولعل هذا مما ينسجم مع ما يراه الدكتور عبد الملك مرتاض، من أن المراوحة بين الضمائر الثلاثة مسألة جمالية شكلية لا دلالية جوهرية، وذلك لا يرفع من شأن الكتابة السردية إن كانت مسفّة، ولا يغض منها إن كانت سامية، فلا تفاضل بين الضمائر بشكل عام، بل إن ما يحكم على ملاءمة ضمير دون الآخر هو المقام السردي الذي تتفاوت مطالبه تجاه ذلك([51])، مع اعتقادنا بأن الشكل لا ينفصم عن المضمون.

 

الوصف:

        ويجمع النقاد على أهمية الوصف للسرد، و يغالي البعض بأهمية الوصف على أنه يضيف إلى المسرود ويكسبه قيمة عالية جداً([52])، والرأي في هذا الأمر أن بعض المواقف تتطلب السرد لأنها تحمل أحداثا خالصة، ومواقف أخرى تتطلب الوصف للحد من غلواء الحدث وسرعته والتركيز على مشاهد معينة ليلتفت إليها المتلقي، وفي الحالتين يختلط الاثنان ويتمازجان، وكأن طغيان أحدهما على الآخر هو الأمر الممجوج، واختيار أحدهما في غير مقامه هو النشاز([53])، وقد نجح الكاتب في توظيف الوصف لخدمة السرد، حيث تخلل الوصف في السرد في معظم أجزاء القصة، من ذلك وصف محمد على لسان المرأة البدينة، ووصف سميرة عند رؤيتها لأول مرة، ووصف الاستراحة المتواضعة "العشة" والعجوز وزوجها في الطريق، ومشهد تعطل السيارة([54])، وغير ذلك.

        ولم يسلم الوصف المجرد والوقفات التعبيرية التأملية، التي لا يكاد يظهر فيها تنامي الحدث، وكأنه وقفة أو مساحة بيضاء في نسيج السرد؛ لم يسلم من لمسات الحدث والأفعال، من ذلك الوقفات التأملية في قضيتي الأمل والألم([55])، وقوله: "كان ينظر إلى الأرض، إن الأرض عنده مكان مفضل للتأمل، وبدت كلماته التي قالها من قبل تتردد في ذاكرتها:

- كثيرون هم الذين ينظرون إلى السماء يبحثون، وكثيرون هم الذين ينظرون إلى الأرض يبحثون، ولكن قليلون هم الذين ينظرون لما بعد السماء، وما تحت الأرض..."([56])، فالوصف لم يكن مجرداً هنا، حيث اتسم بحركة الفعل وانسجم مع تشكيل بنية شخصية محمد الصامت المعلق قلبه بالسماء، والمحاط بالغموض والكتمان.

        وقد تعامل الكاتب مع الوصف بذكاء، فهو لم يعمد إلى وصف المكان أو الشخصية مباشرة تمهيداً لأي حدث، بل كان يترك الفرصة أحياناً لأشياء أهم، ثم يعطي المجال للوصف، وذلك يتناسب مع التشويق من جهة، ومع المنطق من جهة أخرى، حيث لا يكون المجال متاحاً في بعض المواقف للوصف بسبب سرعة الحدث أو انشغال الشخصيات أو ظلمة المكان، من ذلك شخصية سميرة التي دخلت معترك القصة بوصف عابر يتناسب مع الجو المعتم والبارد الذي شُوهدت فيه([57])، ثم حظيت بوصف موسع قليلاً يتعلق بالشكل والمظهر في أول خروج من الليل والظلام([58])، ثم جاء بعد ذلك وصف ظروفها النفسية والاجتماعية([59])، وكل ذلك في تدرج منطقي يحقق أكثر من هدف، وكذلك جاء وصف محمد على مراحل وفق رؤى مجموعة من الشخصيات، حتى جاء كلامه عن نفسه ليكمل الصورة ثم يتوّجها بفعله في نهاية القصة، وقد تأخر وصف عامل المقهى الذي ظهر بوصف عابر، ثم وصف مشاهد من عمله، ثم وصف حالته وابنه، ليأتي في النهاية وصف بعض ملامح وجهه الشكلية([60]).


 

         


([1]) الزهار؛ محمود، الرصيف، فلسطين، غزة، ط1، يوليو 2002، (119-120).

([2]) نور الدين؛ صدوق، البداية في النص الروائي، سورية، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، 1994، 71.

([3]) حليفي؛ شعيب، النص الموازي للرواية: استراتيجية العنوان، مجلة (الكرمل)، العدد (46)، 1992، 84-89.

([4]) الزهار، الرصيف، يمكن تتبع ذلك في الصفحات: (1، 32، 43، 56، 57، 74، 100، 107، 114، 116، 118).

([5]) حليفى، النص الموازي للرواية، 88.

([6]) الزهار، الرصيف، 8.

([7]) الزهار، الرصيف، 56.

([8]) نور الدين، البداية في النص الروائي، 19.

([9]) الزهار، الرصيف: الرجل النحيل الأصلع الراكب في سيارة الأجرة (ص25)، تتبين له إيجابية محمد (ص107).

([10]) ينظر: نور الدين، البداية في النص الروائي، 57-63 .

([10]) شكّل الحوار ستين صفحة ونصف، والسرد تسعة وأربعين ونصف، والمناجاة سبع صفحات من مجموع الصفحات المائة وسبع عشرة صفحة.

([11]) الزهار، الرصيف، 43.

([12]) الزهار، الرصيف، 63.

([13]) الزهار، الرصيف، 110.

([14]) الزهار، الرصيف، 116.

([15]) الزهار، الرصيف، 117.

([16]) الزهار، الرصيف، 108.

([17]) الزهار، الرصيف، 104.

([18]) الزهار، الرصيق، 114.

([19]) الزهار، الرصيف، 68.

([20]) الزهار، الرصيف، (1، 2، 7، 14، 21، 58، 59، 66، 73، 74، 78).

([21]) الزهار، الرصيف، 33 .

([22]) الزهار، الرصيف، (14، 53، 55، 56، 57، 61، 62، 72، 87، 100) .

([23]) الرصيف، الزهار، (3، 4، 7، 22، 25، 29، 30، 34، 46)، ويمكن ملاحظة ذلك في الصفحات: (47، 55، 56، 57، 58، 72، 74، 88، 109، 111، 118)، واستخدم في بعض الأحيان لغة عامية مثل: (تمرمغت ص86، يافطة ص45، كحة ص51،...) .

([24]) الزهار، الرصيف، 82 .

([25]) الزهار، الرصيف، 59 .

([26]) الزهار، الرصيف، 110 .

([27]) الزهار، الرصيف، (88، 94، 98، 100، 101) .

([28]) الزهار، الرصيف، 45 .

([29]) الزهار، الرصيف، 81 .

([30]) الزهار، الرصيف، 30 .

([31]) الزهار، الرصيف، 66 .

([32]) الزهار، الرصيف، 22 .

([33]) الزهار، الرصيف، (29، 60، 71).

([34]) الزهار، الرصيف، (9-11، 17، 31، 32، 48-51، 54-55، 69، 86، 89-90) .

([35]) الزهار، الرصيف، 55.

([36]) الزهار، الرصيف،( 14، 53، 55، 56، 57، 61، 62، 72، 87، 100) .

([37]) إبراهيم؛ عبد الله، المتخيل السردي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، 116.

([38]) مرتاض؛ عبد الملك، في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسة عالم المعرفة، العدد 240، ديسمبر 1998، 176 .

([39]) إبراهيم، المتخيل السردي، (126-142).

([40]) يوسف؛ آمنة، تقنيات السرد: في النظرية والتطبيق، سورية، دار الحوار، ط1، 1997، 36 .

([41]) الزهار، الرصيف، (1، 9، 53، 64، 88، 94-96) .

([42]) الزهار، الرصيف، 34 .

([43]) الزهار، الرصيف، (41، 43، 103) .

([44]) الزهار، الرصيف، (83، 91، 93، 94) .

([45]) الزهار، الرصيف، (1، 5، 37، 40، 41، 43) .

([46]) الزهار، الرصيف، (30، 88، 95، 100، 113) .

([47]) الزهار، الرصيف، 114 .

([48]) الزهار، الرصيف، (من ذلك: 4، 7، 8، 14... وباقي مواقع الحوار).

([50]) الزهار، الرصيف، (51، 52).

([51]) مرتاض، في نظرية الرواية، (95، 197) .

([52]) نور الدين، البداية في النص الروائي، 49 .

([53]) مرتاض، في نظرية الرواية، (295-300) .

([54]) الزهار، الرصيف، (1، 31، 38، 43،...).

([55]) الزهار، الرصيف، (57، 61، 62) .

([56]) الزهار، الرصيف، 72 .

([57]) الزهار، الرصيف، 31 .

([58]) الزهار، الرصيف، 49 .

([59]) الزهار، الرصيف، 53

([60]) الزهار، الرصيف، ( 51، 59، 69، 75).