"خطوات في الليل" ورواية السيرة الذاتية الإسلامية (1)
"خطوات في الليل" ورواية السيرة الذاتية الإسلامية (1من4)
د. حلمي محمد القاعود
هذه رواية لشاعر، تحفل بالتصوير الشعري لفظاً ومعنى وتضميناً، وهي تطرح رؤيتها وتصورها للفكرة التي تعالجها، فالشعر وراءنا وأمامنا، يتسلل إلينا من سطور الرواية، وينفحنا بعطر الشاعرية ومذاقها، وهو يبني أسس الحكاية ومفرداتها، أو وهو ينشئ حواراتها ومفارقاتها، وكأنه لم يرد أن يتخلى عن "الشاعرية"، وهو ينتقل من جنس أدبي إلى جنس آخر، فأعطى لروايته ميزة فنية ملحوظة، في الوقت الذي أصرَّ فيه على أن يقنعنا فنياً بأصالتها، وبنائها على نسق مغاير لمعظم الأنساق السائدة في بناء الرواية.
"خطوات الليل" هي الرواية الأولى والوحيدة
للشاعر "محمد الحسناوي"، وإن كان قد كتب بعض المجموعات القصصية منها: الحلبة
والمرآة، بين القصر والقلعة، وكان الناس قد عرفوه شاعراً، فأخرج بعض المجموعات
الشعرية منها: عودة الغائب، في غيابة الجب، وهو يكتب الشعر بشكليه العمودي
المقفّى، وشعر التفعيلة.
وروايته "خطوات في الليل"، تبدو لي نوعاً من رواية السيرة الذاتية، حيث تتطابق
ملامح بطلها الرئيس مع ملامح المؤلف وتجربته الإنسانية في واقع الحياة، وميزة هذا
النوع أنه يمكّن الكاتب من تناول الأحداث والأشخاص بصورة تبعد عنه الحرج المباشر،
على أي حال، فإنني أستأذن القارئ الكريم في اقتباس بعض السطور من مقدمة الرواية
التي كتبها عبدالله عيسى السلامة، لتعطينا بعض الخطوط الرئيسة للرواية، قبل أن
نتناول بعض جوانبها الفنية، فقد قال: إن القارئ "يفيد منها أي من الرواية بطرائق
شتى"، فالباحث عن المعرفة الممزوجة بمتعة فنية قصصية: معرفة ما جرى ويجري...
معرفة بعض مسارات الحركة والفكر لشرائح من الدعاة، على مستوى الفرد والمجموعة،
معرفة ما يجري في الأقبية والسجون لرجال الفكر... معرفة طعم الزنزانة، وطعم
الغربة، أو طعم البعد عن الأهل والوطن.
ثم معرفة أحلام الداعية: أحلام اليقظة، وأحلام النوم، ومعرفة أنماط من الصراعات
والمفارقات والسياسة... ومعرفة كيف يفكر ابن الخمسين: الإنسان، والرجل، والوالد،
والداعية، والمفكر، والأديب والمنفى والسجن.. ثم معرفة أسلوب جديد في الكتابة
الروائية.. هذا وغيره يمكن أن يعرفه قارئ "خطوات في الليل".
وتذكرني هذه الرواية بأخرى كتبها "نجيب الكيلاني" رحمه الله حول تجربة المعتقل
الشخصية التي شهدها في الحقبة الناصرية حيث سجلها في روايته "رحلة إلى الله"،
وفيها نرى أبشع أنواع التعذيب والوحشية والمطاردة للإنسان المسلم، وتجاوز القيم
والأعراف الإنسانية في سبيل القضاء على أصحاب فكر مغاير لما عليه أهل السلطان.
لقد حاول "الحسناوي" أن يضيف إلى "الكيلاني" معالجة أخرى، تختلف شكلاً، وإن اتفقت
مضموناً، وهو ما يكشف عن عيوب خطيرة في المجتمع، وعناصر سلبية تعرضه للهزائم
العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية أمام أعداء الأمة والمتربصين بها.
إن رواية "خطوات في الليل" تصور بأسلوبها الخاص، محنة أعداد غفيرة من أبناء الوطن
في بلد عربي، اضطروا للهرب من بلدهم، والوقوع في قبضة الشرطة التي تتبع بلداً
عربياً آخر، ومن خلال وجودهم في زنازين السجن بهذا البلد نتعرف على ما جرى ويجري
في البلد الأول، وندرك حجم المأساة التي أصابت الأمة، ومازالت تدفع ثمنها مضاعفاً
حتى اليوم.
لا تخضع الرواية للتقسيم الروائي المألوف، فصول أو فقرات مرقمة أو نحو ذلك،
ولكنها تبدأ بوثائق رسمية تتلوها مذكرات، ثم أيام وليالي تجرى من خلالها الوقائع،
مما يجعل القارئ يقتنع بواقعية الرواية.
بداية الرواية محضر شرطة يتضمن مداهمة بعض البيوت في بلد ما، واعتقال من فيها،
ومصادرة كتب وأوراق وصحف ومجلات وجوازات سفر ومحاضر جلسات... إلخ، ثم تقارير حول
الموضوع وتقويم له، يتم رفعها إلى الجهات المختصة لاتخاذ القرار.
واستخدام التقارير الرسمية أو المحررات الرسمية، له تأثيره الواضح على البناء
الروائي، حيث يجعل من الحوار الروائي أساساً مهماً من أسس هذا البناء، في العديد
من صفحات الرواية وفصولها غير التقليدية، فالمحضر الذي تحرره الشرطة مثلاً، لابد
أن يتضمن في أغلبه الأعم حواراً بين الشرطي والشخص الذي يفترض أنه متهم، وهكذا
يبرز الحوار بطلاً رئيساً من أبطال الرواية إلى جانب أبطال آخرين، من الشخصيات
الروائية أو الوسائل الفنية التي استفاد بها الكاتب في بناء روايته.
ولعل المكان في الرواية يمثل أول ملمح من ملامح بنائها الفني، وهو على امتدادها
عبارة عن زنزانة لها رقم، وتتعدد الزنازين من رقم "1" إلى رقم "45"، والزنزانة
بطبيعة الحال، ضيقة مظلمة، كريهة الرائحة، باردة، لا شيء فيها يشير إلى الأمل،
اللهم إلا تلك "الكوة" الضيقة في أعلاها حيث يتسلل منها عندما تعلو الشمس في
الأفق بعض الخيوط الواهنة من الضوء، ما تلبث أن تتلاشى عندما تتهيأ الشمس
للانحدار، المكان بصفة عامة يمثل حالة من القهر، فهو سجن، وهو مخبأ، وهو موضع
تحقير ومطاردة ومنفى وغربة، وميدان مذابح وقصف إلا في لحظات قليلة حين يكون أبطال
الرواية أو شخوصها أحراراً في الحقيقة أو الخيال، يعيشون في بيت ترفرف عليه علائم
السعادة في أسرة متضامنة، أو متنزه يحلم فيه رجل مع امرأته بالمستقبل الجميل، وإن
كانت تخيم على هذا المستقبل نذر القهر والغموض، أو مسجد يضيء بالأمل في وسط حالك
بالظلام والسواد، وقد يثير المكان مفارقة عجيبة ومؤثرة، فقد يكون رمزاً لأمجاد
الماضي بما فيه من آثار وتراث، ثم يتحول إلى سجن شهير يُجمع فيه معارضو النظام،
وتتم فيه عمليات تصفيتهم وذبحهم بطريقة وحشية.
المكان هنا مرتكز لحركة الإنسان، بحيث يجري بينه وبين الإنسان عملية تأثر متبادل،
يصبح كل منهما جزءاً من الآخر، في حالتي الحرية والسجن، والسرور والحزن، والأمل
واليأس، إنه مكان متسع باتساع الحياة وثرائها، وصراع الأحياء فيها، هو مكان حميم
يفرض وجوده حتى في أشد لحظات الأشخاص يأساً وحرجاً ومعاناة، يصبح فاعلاً في حياة
المقيم به وفي تصوراته وحالاته النفسية والوجدانية.
والمكان أيضاً وسيلة لإبراز مفارقات طريفة، ففي حوار بين معتقل إسلامي ومعتقل
شيوعي نجد أن الأخير لا يعرف شيئاً عن أشهر مدينة في وطنه بعد العاصمة، بل إن
معلوماته عن مدن بلاده محدودة للغاية، في الوقت الذي يعرف فيه كل شيء تقريباً عن
دولة "كوبا" الشيوعية، ويعلل ذلك بأنه زارها في مهمة حزبية، وما زال يحتفظ
"بالسيجار" الكوبي ليزهو به أمام صاحب البيت والتجار والغرباء!.
وتجتهد الرواية في وصف المكان وصفاً تفصيلياً، وتقدم أحياناً بعض الجزئيات على
النحو الذي سنشير إليه فيما بعد، ولكن المكان يتحول في بعض المواقف إلى "كابوس"
تشخصه الرواية وتجسمه ليمثل صورة كئيبة تبرز بشاعة السلطة، ووحشيتها في مواجهة
المعارضين، وفي المقطع التالي بعض ملامح هذه الحالة:
"أصوات الموسيقى تعكر سكون الليل الرائق، أجنحة الحمام المجفلة تضرب أطراف
الأبواب والنوافذ المضاءة بحثاً عن ملجأ".
يا نقيب اسمعني جيداً. أنت صاح طبعاً يا ابن... في آخر صف المهاجع الكائنة على
الجدار الشمالي الغربي، هناك هن....ا ك.. بقرب الزاوية الغربية.. تفوه.. تقع غرفة
"الورشة" نعم الورشة. سوف نخصصها لجمع السجناء. تسمع. السجناء الذين سوف ننفذ
فيهم حكم الإعدام.. طبعاً، إيش شغلنا هنا؟ الإعدام.
احمر كل شيء في الغرفة، بدأ الدم ينقط من الصور، من الخزانات، صارت ترددات
الموسيقى أشبه بموجات نحيب حاد.
هناك.. في الفسحة التي تقع أمام الجدار "الجنوبي الغربي" ما أدري "الغربي
الجنوبي" التي تصل بين الباحتين الخامسة والسادسة، لعنة الله على المهاجع
والباحات.. هناك سوف ننصب خشبات المشانق. اسمع.. انتبه. احذر. إن المعتقلين في
المهجع المجاور رقم (31) وبقية المهاجع المطلة على الباحة السادسة يمكن أن
يتلصصوا خلسة ليروا عمليات الإعدام.. إلخ".
المكان في معظم الرواية مصدر إزعاج وقهر، وهو كابوس خانق، لأنه مرادف لسلب الحياة
أوالحرية.
يتبع