أدب السجون في سورية

أدب السجون في سورية
الداخل مفقود والخارج مولود .. انجُ سعد فقد هلك سعيد

خالد السمان : ( كلنا شركاء ) 4/7/2004

أدب المهجر يشغل مساحة واسعة في الأدب العربي الحديث ، وأدب السجون في الوطن العربي وسورية بالذات لا تقل المساحة التي يشغلها عن مساحة أدب المهجر ، ومثلما شهدنا عواطف صادقة وحنيناً جارفاً وحباً للوطن ولكل من فيه وما فيه ، فضلاً عن التجديد في الأشكال والموضوعات في أدب المهجر .. سوف نلحظ الظواهر نفسها في أدب
السجون السورية .

الأديب السوري محمد الحسناوي ( المولود في جسر الشغور1938م) صدر له ما لا يقل عن كتابين في أدب السجون  الأول ديوان شعر بعنوان ( في غيابة الجب ) عن مكتبة الأقصى – الأردن – 1968م ، والثاني رواية بعنوان(خطوات في الليل ) عن دار الشفق- بيروت – 1985 .
أما ديوان الشعر فهو شعر حديث أو ما يسمى شعر التفعيلة ، يعكس تجربة الشاعر التي عاناها في اعتقاله لمدة شهر واحد في سجون المخابرات العسكرية في مدينة حلب ، بمناسبة اعتقالات الرأي التي جاءت على أثر الإضرابات العامة ، احتجاجاُ على مقالة إبراهيم خلاص ( من الحزب الحاكم ) المنشورة في مجلة (جيش الشعب ) نيسان 1967م ، تطاول فيها على المقدسات والذات الإلهية ، ثم أطلق سراح الشاعر مع مئات المعتقلين الجدد والقدامى ( معتقلي قيادات حزبية منذ 1965 ) ، بمناسبة هزيمة حزيران وسقوط جبهة الجولان المنيعة ، بعد أن اعتذر لهم محافظ حلب عبد الغني السعداوي بقوله ليلة الإفراج : ( باسم القيادة أعتذر إليكم . نحن أبناء وطن واحد ، والخطر يتهددنا الآن جميعاً ) . وهذه بعض مرويات الحسناوي لمعارفه ، وكتبه توثق ذلك .
أول ما يلفت النظر أن الشاعر الحسناوي قبل سجنه هذا لم يكن ينظم على شعر التفعيلة ، ويبدو أن حب الحرية الذي اشتعل في صدره على أثر تجربة السجن المرة كانت السبب المباشر لاختياره التعبير الحر هذا ، فكم لسجون الرأي من فوائد! يقول في قصيدة بعنوان ( الهواء ) : ( أنعشني الهواء / ذكَّرني حريتي القديمةْ /عارية ، ناجية بجلدها / وحيدة ..تنعم بالسكينة / بالكلمة العذراء ../ هاربة من أعين الجريمةْ / حيث مُدى الجريمةْ ../ تطوف في الآفاق .. في الأحداق/ تقتحم البيوت / تكمن للوسواس / حيث مُدى الجريمةْ / تمسخني والناس كالبهيمةْ / ما أعطر الإحساس بالهواء../ لو يخرس الخفير !)

من التجديد في الديوان غير الالتزام بعروض شعر التفعيلة .. ارتباط مجموعة القصائد كلها برباط واحد هو تجربة السجن وحدها ، من بداية الاعتقال إلى الإفراج ، بل ظل الشاعر يحمل عاهة السجن معه بعد الإفراج حيث يقول في القصيدة الأخيرة ( هل الكرات قدري ) : ( أُحسّها في زحمة الركّاب / ينتقدون ، يشتمون صادقين / نفسي تودّ لو تشاطر السباب / لو تشتم الدرب المحفَّرْ / لو تغمز الوحش المُهندَمْ / لكنَّ شيئاً يا حفيظْ / يفغر فاهُ من جديدْ ) . وبقية القصائد تقص بنفس شعري ملحمي أيام السجن وتجاربه المرة ، وعنواناتها تدل على مضموناتها : ( تعال – إلى أين – خمس دقائقأسماء – العبور – ظلام – عبث – هبوط – شيء بجيبي تفجير – بعد التحقيق – إذا كان – بسمة – عيد أكبر – وردة – وراء الظل – في الطريق – في الدرك الأسفل – الهواء – حكمة – ليالي الجب – هات خذ – الغرفة المجاورة – خواطر – صفارة الإنذار – لا تسحروا الأبصار – بُنيّ – صباحكِ سُكَّر قتيل الليل – هل الكرات قدري ) ، أما أوجع الآلام ففي القصيدة التي تصور مشاعر السجين حين تم العدوان الصهيوني في الخامس من حزيران ، وحصلت الهزيمة النكسة ، والشاعر في السجن ، فيقول : (علا نُباح الحفنة اليهود /لم نسمع النباح لكنِ الصدى / علا هديراً في صراخ السادة العرب! / لقد مُنِعنا العيشَ والصدى / ما أنكر الصدى / والعيشَ .. بين العيش والردى . / الضجةُ الصفراءُ تمخض المدينةْ / نسمعها تقرع أبواب الدهاليز الحصينةْ / الطائراتُ في الأحلام والمهاجعْ / الكهرباء عُصِّبتْ عيناها / ليلَ نهارْ / الرعبُ كذّب الدعاوى ، أسقط الأصباغْ / ما أكذب المذياعْ ! / أزيزه يشكّك الأسماعْ / يُنذر بضياع الخفّ ياحُنيَنْ / ( عاوي الكلاب لا يعضّ / عاوي الكلاب خائر جبانْ ) / أيتها الظنون ! / موتي ليحيا شعبُنا المسكين/ نحن عرفنا البدء والنهايةْ / نحن وضعنا القيد في أرجلنا / لأننا لم نُمهلِ الحُواةْ / لأننا صحنا اكشفوا الأستارْ / أيتها الظنون :/ نحن صدقنا شعبنا ، فلا تصدِّقينا / لأجل كل حبة من قمحنا / لأجل كل زهرة من روضنا / كوني كما ترجو النساء ْ / كوني كما ادّعى الدّجّالْ / وكذّبينا / ... أيتها الظنون : / ما أعذب الحقيقة ! / ما أحمض الحقيقة ! ) .
أما رواية ( خطوات في الليل – للحسناوي ) فيقول عنها الأديب عبد الله عيسى السلامة في المقدمة النقدية التي كتبها لها : ( فكرة الرواية : داعية مسلم مدرس مفكر أديب ، تنشأ في بلده أحداث دامية بين السلطة الحاكمة ، ومجموعة معارضة للنظام ، فتلاحقه أجهزة أمن السلطة ، فيتوارى ، ثم يغادر بلاده ليستقر في بلد مجاور لها ، ثم يعتقل في هذا البلد ، ويحبس في زنزانة لمدة ثلاثة أشهر تقريباً .. وفي الزنزانة تتجمع في ذهنه عناصر القصة ، وتتلاحم وتتفاعل مع جو الزنزانة ، ليشكل الإطار الفني العام ، في عمومه ، وفي كثير من خصوصياته ) ويضيف : ( الإطار العام للتناول الفني الروائي- الشكل الخارجي - : كتابة الرواية على شكل مذكرات ، مؤرخة بأيام وليال: ( النهار كذا ) .. ( الليلة كذا ) . وعن (زمان الأحداث) يقول : ( هناك ثلاثة أزمنة ، زمنان رئيسيان وآخر ثانوي : - الزمن الرئيسي الأول : هو الفترة التي قضاها المؤلف في السجن عام 1980م ..وهذا الزمن الضيق هو زمن تاريخ الأحداث ... – الزمن الرئيسي الثاني : هو حياة الكاتب برمتها ، وهي في حدود نصف قرن تقريباً ... – الزمن الثانوي : هو زمن كتابة الرواية ... وقد جاء بعد خروج المؤلف من السجن ، بحوالي خمس سنوات ...)

 وعن مناخ الرواية يقول السلامة : ( هناك ثلاثة مناخات للرواية كذلك : - مناخ الزنزانة بكل ما فيه من أحداث ومواقف وعلاقات ومشاعر وأفكار وضغوط وسجانين وأخيلة وأشواق .. وهو مناخ ضيق محدود بحدود الزنزانة ، ثم حدود المبنى العام الذي يضم الزنزانة ..- مناخ الحياة : أي الحياة الحرة الطليقة ، التي كان الكاتب يحياها قبل دخوله السجن .. بكل ما فيها من حرية وانطلاق ، وضغط وملاحقة ، وأعداء وأصدقاء ، وزوج وولد وبيت ، ومدارس وجامعات ، وسياسة وأدب ، وأحلام وذكريات ...وهذا هو المناخ الواسع العريض ، المترامي الحدود والأبعاد ، في الزمان والمكان ...- مناخ التفاعل الطريف بين المناخين السابقين : وهو مناخ ذهني نفسي عاشه الكاتب بالساعة واللحظة داخل زنزانته .. فصاغ منه عالماً فنياً زاخراً بالمفارقات والمتناقضات : حرية أسر ، وطن اغتراب ..) ، وعن البعد الفني يقول كاتب المقدمة : ( إن هذه الرواية هي مدرسة بنفسها ، إذ ليس لها – بحسب اطلاعنا المحدود – مدرسة أدبية تنتمي إليها من الناحية الفنية . ثمة أسلوب مميز في مزج العناصر الفنية ، وأسلوب مميز في عرض هذا المزج ...إن هذه الرواية ميدان خصب مثير ـ لتحليلات أنماط من المحترفين والهواة ... معرفة أحلام الداعية المسلم : أحلام اليقظة وأحلام النوم .. ومعرفة لأنماط من الصراعات والمفارقات والموافقات بين أنواع من الشرائح الاجتماعية والسياسية . ومعرفة كيف يفكر ابن الخمسين ، الإنسان ، والرجل ، والداعية ، والمفكر ، والأديب ، والمنفي ، والسجين. ثم معرفة أسلوب جديد من أساليب الكتابة الروائية ) .

أشرنا في مطلع المقالة إلى أن الأديب الحسناوي .. له في الأقل كتابان في أدب السجون ، أما من حيث الدقة فإن كل ما كتبه الحسناوي من قصص ومسرحيات ودراسات أدبية أو نقدية ، أو نظمه من شعر للكبار وللأطفال منذ خروجه منفياً من وطنه عام 1980 م حتى يومنا هذا .. يعدّ من أدب السجون ، لأن النفي عن الوطن سجن من نوع آخر .

 وبوسع السادة القراء أن يتخيلوا مدى معاناة المنفي ومعاناة أسرته وأولاده وأحفاده ، المكتوب عليهم المصير نفسه بلا ذنب ، لدرجة الحرمان من وثائق السفر ، ومثل ذلك معاناة الآلالف المؤلفة أمثاله من المهجرين القسريين .

وإذا كان لابد من التخصيص فعلى الأقل ننوه بمجموعته القصصية التي بعنوان ( قصص راعفة )، نشر معظمها في مجلة ( اللواء ) الأردنية وبعض المجلات الأخرى ، والآن يعاد نشرها في موقع ( رابطة أدباء الشام ) الألكتروني .
وبالمناسبة ندعو السادة القراء والكتاب للاهتمام بأدب السجون ، لما فيه من جماليات وتجارب إنسانية كبيرة ، كما ندعوهم إلى التضامن مع سجناء الرأي أدباء وغير أدباء – وما أكثرهم ، وما أشقى مصائرهم – وإن مثل هذا التضامن يخفف من آلامهم ، كما يمكن أن يكون ضاغطاً على الطغاة للإفراج عنهم ! ويكفي أن تتصور نفسك واحداً منهم ، أو في مكانهم ، فماذا تحس وتشعر وتطلب وتتمنى ؟ ولا أرغب لأحد منكم مثل هذا المصير ، لكن من يدري كيف يدور الزمان ؟