الإعلام عالم

الإعلام عالم

بقلم: أحمد رمضان*

المؤلف: عبد الله زنجير

على الرغم من أن الإعلام بمفهومه الحديث تشكل في القرن العشرين، وبرز على نحو أوضح خلال الصراع الذي نشب إبان الحرب الكونية الثانية، إلا أن الإعلام بوصفه يشكل استخداماً فنياً للكلمة بغية التأثير على الرأي العام، حالة مغرقة في القدم، منذ أن لجأ الإنسان إلى الاستعانة بالرموز والرسوم، ثم الكتابة، للتعبير عن الموقف العام، وتشكيل منظومة فكرية للكتلة البشرية الواقعة ضمن إقليم جغرافي واحد.

وعلى مدى حقب عديدة طور الإنسان، ثم الكيان السياسي الجامع له، أساليبه في الخطاب والتعبير، سواء على صعيد التأثير على الرأي العام المحلي، أو الكيانات المجاورة، والكتل البشرية في الأقاليم المحيطة، ولعب الكتاب، على سبيل المثال، دوراً مؤثراً في صياغة النسيج الفكري لبعض المجتمعات، فيما اعتبر الشعر الوسيلة الأبرز للتعبير في المجتمعات العربية القديمة.

ولعل الإسلام بوصفه النتاج الحضاري الأرقى في التاريخ البشري، نجح في إعطاء الكلمة مفهوماً مختلفاً من حيث التزام الصدق في القول، والمسؤولية في التعبير، والدقة في الأداء، ورفض المراوغة والكذب والانحراف، مما جعل الأداء الإعلامي، إن صح التعبير، يدخل مجاله الأخلاقي الأندر في تاريخ الإنسانية، حيث لم توظف الكلمة في خدمة الصراع السياسي منزوية عن المبدأ الأساس الذي تنطلق منه.

*  *  *

لقد أدى طغيان البعد السياسي على حركة الإعلام إلى سريان الاعتقاد بأن الإعلام يوازي السياسة بفعله ومكوناته، غير أن الواقع الذي ينبغي التنبه إليه هو أن الإعلام في واقعه الحقيقي ينظر إليه على أنه معبر فعلي عن حركة التغيير الاجتماعي، ومؤشر للحراك الذي تشهده المجتمعات، إلى جانب دوره كفاعل أساس في عملية التغيير.

وللدلالة على أهمية تلك الفكرة يمكن ملاحظة أن أكثر المجتمعات تطوراً من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، يبرز فيها الإعلام كمحرك قوي لعملية التحديث، والمحافظة على تفاعل النظام الداخلي من زاوية النقد والمسألة واحترام حقوق الإنسان.

كما أن العولمة التي تعتبر بمؤسساتها الكبرى كاسحة للمجتمعات والنظم الصغيرة تولي الإعلام اهتمامها الأكبر، في عملية الهيمنة والضبط لأداء النظام الدولي.

وفي مجتمعات تعاني من الاستبداد والاختلال في مرجعيتها الثقافية، كما المجتمعات العربية، فإن الإعلام يساهم أحياناً في إحداث تغيير اجتماعي وسياسي سلبي، مثل التمكين للحالة الشمولية، وبث معالم التفكك الأخلاقي، والتبشير بعادات وقيم مضادة للثقافة السائدة، والتحريض أحياناً على انتهاك الحريات الأساسية، في صورة تهدد المنظومة القيمية.

وقد عنيت الدراسات عموماً بإيجاد رابط بين المكون الاجتماعي والتاريخي للمجتمعات والرؤية السياسية من خلال الدور الذي تلعبه الأدوات الإعلامية، حيث تتشكل الرؤية السياسية عادة عبر مزيج من المؤثرات الاجتماعية، والتراكمات التاريخية للخبرة والسلوك، وعوامل الاحتكاك والتأثير الخارجي.

وكلما اتسمت التفاعلات الاجتماعية بالنضج والتوازن، واستقامت المسلكية التاريخية، وضعف التدخل الخارجي السلبي في مقابل الاحتكاك الإيجابي، كانت الرؤية السياسية أكثر وضوحاً، وأقدر تأثيراً، وأثبت من ناحية الاستمرار والفاعلية، وساهم الإعلام عموماً في إنضاج تلك الرؤية وتقديمها للجمهور في صورتها الواضحة.

*   *   *

ويعتبر الصراع الدائر حالياً في المجتمعات بشأن السيطرة على الرأي العام وحركة الجمهور، أهم ميادين التحرك الحثيث للعمل الإعلامي، ونقطة الاختبار الأبرز للخطاب الذي يقدمه الإعلاميون للناس كافة على اختلاف مشاربهم.

ويشكل الرأي العام (المحلي والخارجي) عادة مصدر اهتمام خاص للناشطين في قضايا التحرر، نظراً لما يلعبه التأييد الأهلي من دور مركزي في مساندة النضال التحرري وتمكينه من تحقيق أهدافه في تقويض ركائز الاستعمار وتفكيك بناه، وفي الصورة المقابلة ما يسببه فقدان هذا التأييد من خسائر، وانقلابه إلى سخط واستياء نتيجة سياسات خاطئة وأدوات منفرة.

ونظراً للأهمية التي يحتلها الرأي العام، فقد سعت دول الهيمنة في الغالب إلى جعله في صدارة اهتماماتها، ليس من جهة الاستجابة لآماله وطموحاته، ولكن من زاوية التأثير عليه وتغذيته باستمرار بالمعلومات والأفكار التي تجعله مسانداً لبرامجها، مستخدمة في ذلك منظومة معقدة من الأدوات الإعلامية.

وفي حالات الاحتلال والهيمنة، سعت الدول المستعمرة إلى توظيف الرأي العام، سواء لديها، أو في المناطق المعنية بالنزاع لجهة تأييد خطط وبرامج الهيمنة، أو اتخاذ مواقف لا مبالية، وفي الحالتين، يمكن وصف الرأي العام الخارجي بعدم الفاعلية الإيجابية، التي تتيح للقوى المستعمرة توظيف الكتلة البشرية التي تستند إليها قوة الصراع المهيمنة لصالح التحرر والاستقلال.

ويتيح استقراء التاريخ المعاصر، حيث بات مفهوم الرأي العام الخاضع للتأثير الإعلامي المباشر، يأخذ شكلاً أكثر نضجاً ووضوحاً، الوقوف عند حالات مميزة، عندما أخفقت سياسات قوى الهيمنة في مواصلة عملية الإطباق على الرأي العام بفعل التغطية الإعلامية المميزة، ليرغم حكوماته على تعديل خططها، والاستجابة لواقع يزول فيه الظلم والحيف الذي وقع على شعوب أخرى.

وتتجلى النماذج البينة في هذا المجال، في حالتي فيتنام وجنوب أفريقيا، حيث نجحت حركة الرأي العام الدؤوبة في الغرب ودول أخرى على إرغام الحكومة الأمريكية في نهاية المطاف على الانسحاب من فيتنام بالتزامن مع فاعلية المقاومة وصمود الشعب الفيتنامي.

وفي حالة جنوب أفريقيا فقد أدى إبراز الإعلام لنضال حركة التحرر للأغلبية السوداء، بالتعاضد مع مناصريها في العالم، إلى تحويل النظام العنصري إلى عبء أخلاقي وسياسي واقتصادي على مجمل النظام الغربي، واضطرا الأخير في نهاية المطاف إلى سحب مساندته للأقلية البيضاء، والإقرار بأحقية الأغلبية في الحرية وتقرير المصير.

ويبدو النضال التحرري في فلسطين، شبيهاً في تداخلاته مع القضايا الكبرى ذات الأثر الإنساني، والتي تتشابك فيها عوامل الضغط السياسية والاقتصادية والإعلامية، ويبدو الصراع حول الفوز بتأييد الرأي العام من خلال الأداء الإعلامي، محتدماً على الدوام بين الأطراف كافة، بما في ذلك استغلال أخطاء الخصم الميدانية أو السياسية لإحداث انعطافة في رأي الجمهور ضمن إقليم معين، أو في مناطق أوسع، سواء من جانب قوى التحرر الفلسطينية خدمة لبرنامجها الكفاحي، أو من جانب العدو المحتل، الذي يسعى إلى تسويغ احتلاله والتغطية على أعماله الوحشية بمنحها صفة "الدفاع المشروع عن النفس"، مستفيداً على الدوام من وجود ركائز له تعينه على شن حملات إعلامية متتابعة عبر وسائل الإعلام الغربية.

*   *   *

لقد عانى الوطن العربي على مدى عقود من هيمنة الإعلام الرسمي على الرأي العام، ويعاني هذا النمط من الإعلام عموماً من ضعف المحتوى وانحدار المستوى المهني، وينظر إليه في كثير من الأحيان على أنه تعبير عن حالة الانكسار التي تعاني منها الساحة السياسية العربية. وإذا كان المشهد السياسي العام مرتبكاً ويعاني من الشمولية والاستبداد والجمود فإن الإعلام يعاني من الأعراض نفسها، إن لم يكن في الغالب أداة للتبشير بقيم فاسدة تبقي المجتمع رهناً للانحطاط الاجتماعي والسياسي.

وفي الحالة العربية فإن حالة التخلف التي تسري في عموم الوضع السياسي تلقي بظلالها على الوضع الإعلامي الحكومي الذي يبدو عاجزاً عن إدراك التحولات الكبرى التي تعصف بالعالم، وغير قادر على توظيف الطاقات الوطنية في عملية التحديث التي تشكل حاجة ملحة لعموم المجتمعات العربية.

وفي المقابل تفتقر غالبية الأحزاب العربية، حتى العريقة منها، إلى وسائل إعلام قوية تعبر عن أفكارها، وتعكس قيمها، وما زال بعضها يصدر نشرات محدودة التأثير، مما يعكس فقدان الأهمية التي توليها القيادات السياسية العربية لمسألة الإعلام وأهميته في الحراك الاجتماعي والسياسي.

وإذا كانت النقلة التي برزت في العقد الأخير في انتشار الإعلام الفضائي، أرغمت بعض الحكومات العربية على نقل صراعاتها إلى وسائل أكثر تطوراً منشئة قنوات فضائية تابعة لها، فإنه يصعب القول إن تلك الانعطافة تمثل انبعاثاً جدياً وحقيقياً لظاهرة الإعلام المستقل الذي يعبر بشكل دقيق عن الرؤى المجتمعية المتعددة، وهو ما لم تصله مجتمعاتنا العربية بعد.

إلا أنه يمكن النظر بإيجابية لبروز الإعلام الإلكتروني بوصفه نقلة نوعية في التطور الذي شهدته الحركة الإعلامية في العالم خلال العقد الأخير، وجاء هذا التحول بفعل التطور غير المسبوق في التقانة والصناعات الدقيقة، وما امتازت به من تمدد سريع وواسع، مستعينة بالعولمة وتبني النظام الرأسمالي لها.

كما أن الإعلام الإلكتروني شكل البديل الواقعي والأنسب للإعلام الذي تهيمن عليه الحكومات والشركات الكبرى، حيث تمتع بخواص عديدة منها محدودية الكلفة، وعدم وجود رقابة، والتعبير الحر عن الآراء، والوصول الآمن، إلى حدّ كبير، إلى مناطق شاسعة من العالم.

وترافق ذلك مع توق العديد من بلدان العالم لاستبدال أنظمتها الشمولية بأنظمة ديمقراطية وتعددية، إلى جانب التمدد الذي شهده المشهد السياسي العالمي من ناحية بروز قوى سياسية جديدة في قلب النظام الرأسمالي تسعى إلى التغيير والتحديث.

*  *  *

وقد تزامن التطور في الأداء الإعلامي مع التغيرات في البنى الاجتماعية والرؤية الأكثر احتراماً لمفهوم "حقوق الإنسان" الذي كان يُنظر إليه على أنه قرين للنهضة المعاصرة ويمتزج في غالب الأحيان بالحضارة الغربية، إلا أن هذا الموضوع في حقيقته نابع أساساً من انطلاق النشأة الإنسانية، وقد انبثق من أصل الخلق، عندما منحت العناية الإلهية الإنسان حرية اختيار المنهج والعقيدة (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وتقرر بذلك أهم حق من حقوق الإنسان، وهو حرية الاعتقاد حيث (لا إكراه في الدين) وقد عنيت جميع الرسالات السماوية بتبصير الإنسان بحقوقه الدنيوية، ومن ثم حقوق الخالق عليه، ونشأت بذلك منظمة التوازن بين "الحقوق والواجبات" (وعلم الإنسان مالا يعلم).

ولابد للإعلامي العربي الذي يرسخ لمفهوم الحقوق الإنسانية أن يتوفر لديه النسيج الفكري المتين والمتوازن في مسألة البناء الثقافي للقضية النظرية (المبدأ) والتطبيق (الممارسة) وبما يربأ عن توظيف المبادئ الإنسانية في خدمة الأهداف البراغماتية المرحلية ويحولها من مُثل عليا إلى غايات آنية.

لقد عنيت النظرية الإسلامية، التي تزاحم الإعلام الغربي لإقصائها الآن من المشهد العام، بمسألة المزج بين الرؤية السامية (النظرية النموذجية) والتطبيق الميداني (التجسيد الحي للأفكار) فأوجدت نماذج براقة للكيفية التي تُحمى فيها قضية الحقوق والحريات للبشر كافة على اختلاف معتقداتهم، وتباين أعراقهم، وذلك من خلال نظام قضائي مُحكم، ورقابة مدنية، وشفافية في المعرفة والاطلاع.

*  *  *

إن عملية التأصيل للمفاهيم الإعلامية في عصر يضطرب فيه نسيج القيم العامة لا تبدو مهمة يسيرة، بما في ذلك القطاعات من الخبراء الذين عركتهم التجارب والسنون، وإذا ما تصدى المرء لمهمة من هذا القبيل فإن تلك الخطوة تقيّد ضمن المساعي الدؤوبة والشجاعة التي يتحرك فيها حملة الهمّ الإعلامي لسدّ فراغ ناشئ عن عدم بلورة إطار فكري واضح يتحرك فيه رجل الإعلام العربي.

إن الجهد المميز الذي بذله الصديق الإعلامي المميز عبد الله زنجير في كتابة "الإعلام.. عالم" يصب في خانة الاجتهاد ومحاولة تحريك المياه الراكدة في دنيا الفكر من خلال سلسلة مقالات طافت بقرائها ضمن هموم الكلمة والفضاء الإعلامي ومحاولات سد الفجوة القائمة بين الإعلام العربي ونظيره في البلدان الأخرى، ثم جوانب متصلة بالعمل الإعلامي مثل الفن والسينما والكتاب وغير ذلك من آفاق الكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية.

لقد دعوته "اجتهاداً" ذلك أن بعض ما يطرح في عملية التأصيل والحث على إيجاد المكون الفكري يحتاج من العاملين في الإعلام إلى جلسات نقاش وحوار، وسجالات رأي، وصولاً إلى إنضاج الرؤية الشاملة المعبرة عن القطاع الأوسع من الفضاء الإعلامي.

وكما أصاب المؤلف في عملية التأشير الذكية إلى أهمية الكلمة والصورة في نسج الموقف العام، ومقارنة ما تستخدمه الوسائل التي تمتلكها الأمة الآن في مواجهة ما يحوزه الخصم/ المقابل، فإن الإغراق في استدعاء الأرقام، ووضع مقارنات تبدو فيها المعطيات شديدة الفجوة لا تخدم في نهاية المطاف الفعل المؤثر المطلوب للحث على النهضة العامة ليس في مجال الإعلام فحسب، بل في كافة أنحاء المعطى الحضاري الذي تحاول الأمة العربية المسلمة النهوض خلاله.

إن عملية المقارنة استناداً إلى أرقام مستجلبة أمر يستدعي أكثر من وقفة، سواء تركز ذلك في الميدان الإعلامي، أو غيره من الميادين التي تسعى بعض الدوائر إلى التأثير على المعنويات العامة للإنسان العربي من خلال زرع اعتقاد لديه مفاده استحالة التوصل إلى توازن في القدرات بينه وبين خصمه الحضاري، وبالتالي فقدان القدرة على التأثير المتوازن، وهو أمر تدحضه كثير من الوقائع الميدانية، ولا أحسب أن مؤلفنا قصد ذلك عبر الاستدعاء المكثف للأرقام والمقارنات.

إن عبد الله زنجير ليس كاتباً إعلامياً فحسب، ولكنه فنان اكتسب خبرته في هذا المجال في مؤسسة رائدة كان أحد أركانها إلى جانب الأستاذين، الشاعر والأديب سليم عبد القادر، والفنان المبدع محمد سداد عقاد، ولذا فإن عصارة تجربته في ميدان الفن، تمثل إضافة نوعية ينبغي للعاملين في مجال التأسيس لفن ملتزم بقضايا الأمة النظر إليها بجدية واهتمام، ومحاولة الاكتساب منها، سعياً إلى تعميم تجربة حظيت على مدى سنوات بعناية واسعة من لدن قطاعات الإعلام والثقافة والتربية بعد أن تبين دورها المميز في صياغة الرؤى الفكرية لأجيال من الناشئة، والعمل على تقويم عاطفتهم وسلوكهم بعيداً عن التشنج والسلبية والانحراف.

إن المشوار الذي بدأه مؤلفنا في جمع اجتهاداته ورؤاه بين دفتي كتاب وعرضها للجمهور، يجب أن يستكمل منه ومن آخرين معنيين بالهم ذاته، وهو طريق ينبغي حث الخطى فيه، بعد أن تبين أن عالمنا الإسلامي يفيق من رقدته، وتحسس مكانه، ويسبر غور واقعه ومستقبله، وفي زمن النهوض تستدعى كل عوامل التأثير المباشرة، وفي مقدمتها الإعلام بوصفه جسر العبور الذي بوسعنا أن نخاطب من خلاله جمهورنا في أرضنا العربية المسلمة، والرأي العام في كافة أنحاء العالم، وكلما نجحنا في المزج بين الفكر النير والأداء المنفتح فإن بوسعنا أن نستبشر أن نجاحات ذات قيمة مميزة ستكون في انتظارنا في قابل الأيام.

         

عدد الصفحات: 280

الناشر: دار الراية – دمشق

بقلم: أحمد رمضان

*مدير عام ورئيس تحرير وكالة "قدس برس" انترناشيونال – لندن