ديوان "صبا الباذان" إضافة في شعرنا النسوي لنبيلة الخطيب

ديوان "صبا الباذان" إضافة في شعرنا النسوي لنبيلة الخطيب

بقلم: محمد الحسناوي

المدرسة النسوية في الشعر العربي مستمرة منذ الخنساء إلى نازك الملائكة، وأظهر مظاهرها الحزن، الحزن على النفس، أو الحزن على الآخرين، ثم الهرب من الحزن أو التعبير عنه بالغناء أو التفجع أو الثورة.

قد يكون الحزن متنفساً اجتماعياًُ مسموحاً به لدى بعض النساء أو الشاعرات، أما حزن الشاعرة نبيلة الخطيب، فهو أكبر وأرحب من متنفس جائز، وإذا كانت الخنساء حزينة على فقد أخيها صخر، فإن نبيلة الخطيب تراكم لديها بل تضاعف حزنها على نفسها، وعلى بنيها، وعلى أطفال الآخرين الجياع، وعلى الهجرة من الوطن، ومن استلاب هذا الوطن، ومن تردّي العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فلم تقتصر على الغناء، بل أنضجت سلسلة أو منظومة من الحكم والأمثال، واضطرت أخيراً إلى الثورة:

أسرجْ حصاني قد عزمت على الرحيل..

واجعل ركائبه من الحزن المعتق والأصيل..

فإذا استويت على الحصان..

ورأيت سيفي يشرئب إلى العنان..

فاعلم بأني لن أعود،

إلا وريح الليل ترزح في السلاسل من قيود..

افتتحت ديوانها بقصيدة حزينة مطوّلة بعنوان: "رائية المواجع: 109 أبيات" تقول في خاتمتها "زلال":

قمْ  واعمر  الدار،  هذا  البين iiأتلفها
إياكَ   والشوك   بين  الورد،  iiيذبله
وازرع  نَباتكَ  فيها،  واروها  عرقاً
طينُ  البلاد  زلالٌ  إن  رضيتَ  به




 
وليعلُ  فوقَ  رباها  الزهرُ iiوالشجرُ
وفي  الوجود  لنا  من  حالنا  iiصُورُ
يجد  بما  طاب،  مما  يشتهي النظر
والماء من غير أحواض الحِمى عكرُ

إنها حكم وأمثال مكتسية بحلل الفن الشعري، ومستنبتة من واقع المعاناة، معاناة الغربة عن الأهل والوطن، وهي في الوقت نفسه إيجابية تحض على الإقبال والعمران لا الانسحاب، وعلى هذا اللحن توقع أيضاً قصيدتها: "والناس كالزرع" ثلثاها مقدمة حكمية ممهدة للخاتمة التي اقتصرت على الثقل الأخير حول الغربة والهجرة أيضاً:

ضمّد جراحك واكظم ما ابتُليتَ به
فمسقطُ  الرأسِ  لا  بادت iiمشارفُهُ
 


 
مهما  تعمّق  جرحُ  الشوكِ iiيندملُ
ينازع  القلبَ  فيه  السهلُ والجبل
 

وبالمناسبة.. مسقط رأس الشاعرة هي "الباذان" قرية جميلة قرب مدينة نابلس، تكثر فيها الينابيع العذبة، وتشتهر بالبساتين وجنائن العنّاب، ونابلس مسقط رأس الشاعرين إبراهيم وفدوى طوقان!

واختتمت ديوانها بقصيدة حزينة أيضاً طويلة عنوانها: "ميلاد موت" تنتهي بخاتمة متفائلة:

فلتوقني يا أمّ أن الصبح آذنَ باقترابْ

فلتوقني يا أم أن الصبح آذن باقترابْ

الشعر والقضية

في ديوان "صبا الباذان" أربع قصائد ذاتية: "يا حيف" تعاتب زوجها، "ما أبكاك أبكانا" تحن فيها إلى الأهل والديار، "كنا ولكن كنتُ وحدي" تصف عزلتها، "صبا الباذان" حبها لمسقط رأسها، "دعوني أغني" عنوانها يدل على مضمونها، وللأمانة لم تكن القصائد ذاتية محضة، بل تكاد تكون ذاتية جماعية إن صحّ التعبير:

يا عازف الناي ما أبكاك أبكانا

تبكي دياراً وأحباباً وجيرانا

أما بقية قصائد الديوان، فواحدة في الأقل اجتماعية "يا رغيف الخبز" والأخريات وطنية حول الغربة والهجرة، وحب الوطن، في قصيدتها "رغيف الخبز" أداء شعري متميز، تفتتحها بمقدمة ممهدة لمعاناتها والناس من فقده:

ألا لو زرتني يوماً ببيتي     تجدْ لقيا الحفاوة والودادِ

ثم تعرض حلماً فنياً معبراً، على شكل أقصوصة شعرية:

ومرّ  عليّ  طيفك  ذات  iiليل
وكدت   أشمّ  منك  صَبا  أدام
وصحت ألا هلمّوا يا iiصغاري
شهيُّ  اللون، في الوجهين لين
فسال  على شفاه البعض iiريق
وهزّت   أمهم  كتفي،  ونادت
ففرّت  دمعة،  وكففت  iiأخرى







 
يراود     باقترابٍ     وابتعادِ
فخلتك  يا  عزيزاً في iiالأيادي
كلوا   الخبز  المعفّر  iiبالرماد
يسحُّ  الزيتُ  منه  على  اتئادِ
وسارع   آخرون   iiبالازدراد
تردّ  إليّ  من  نومي  iiرشادي
وزمجرَ صوتُ قهرٍ في فؤادي

وتختمها بحكمة حول الجود والبخل، وبدعوة استغفار:

ألا غفرانك اللهم إني    لعجزي قد ضللتُ وأنت هادِ

فالتزامها بالقضايا الاجتماعية والوطنية والإنسانية، لم يمنعها من إعطاء الشكل الفني حقه: تصويراً وقصاً وإدهاشاً.

توظيف التراث

من الوسائل الفنية التي أخصبت التجربة الشعورية، توظيف جواهر وشحنات من التراث العربي الإسلامي: ألفاظاً وعبارات وقيماً:

ألا لو زارني ضيفي وعندي   جواد كنت أطعمه جوادي

على أن توظيف التراث الإسلامي كان أوسع وأعمق:

مغفورة هيَ يا إبليسُ iiغفلتنا
عدنا  نحجّ  إلينا  كلنا  حُرُمٌ


 
كنّا إليك بذات الجهل iiنعتمرُ
ويوم رجمكَ مشهود ومنتظرُ

فألفاظ الحج والعمرة والغفلة، هي ألفاظ قرآنية، ومثل ذلك رمي الجمرات ورجم إبليس، شعيرة من شعائر الحج، وقد استعانت بها الشاعرة لتثري تصويرها للأنانية المفرطة، التي انحرف بها مجتمعنا، فصارت ديناً غير دين الله )أرأيت من اتخذ إلهه هواه( الفرقان 34، فهي لم تكتف بالتوظيف اللفظي، ولا باستمداد القيم، ولا بالتوافق أو عدم مصادمة التصور الإسلامي أيضاً، بل انسجمت معه أو انطلقت منه، كما سوف نوضح ذلك.

في مطوّلتها "ميلاد موت" زاوجت الشاعرة بين أنواع من توظيف التراث الإسلامي، بدءاً من قيم الصلاة والدعاء والصبر، وتعاقب الحياة والموت، وتفجر الماء من الصخور، وانتهاءً بقصص الأنبياء، فالأم التي تتحدث عنها القصيدة، تتعرض للمخاض الصعب في الولادة، مثل السيدة العذراء مريم، وتهزّ النخلة بلا جدوى، فتدعو للوليد أن يهبه الله تعالى الحياة ليبني كعبة الحبّ في القلوب، كما بنى إسماعيل عليه السلام الكعبة، وأن يُسقى بمثل ماء زمزم، كما تدعو الله تعالى أن يصونه من إخوانه مثل إخوان يوسف، وأن يحميه مثل ما حمى النبي يونس في بطن الحوت، وإذا خافت عليه فإن الشاعرة تدعوها إلى إلقائه في تابوت في اليم مثل تابوت موسى عليه السلام، ثم ينصره أخوه هارون إن قصر السامري أو جار عليه فرعون وأمثاله، وتطمئنها الشاعرة بالخلاص من العقم، لأن زوجة النبي إبراهيم العاقر أخصبت بإذن الله.

إن توفيق الشاعرة الفني لم يقف عند حدود التوظيف المجازي البسيط بتشبيه الوليد ومعاناته، بمعاناة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، بل إن التشبيه الاستعاري يرتفع في التجريد إلى مستوى الرمز، حين نكتشف أن عملية الولادة والموت التي تتحدث عنها الشاعرة ليست تخص وليداً واحداً، أو وليداً بشرياً، بل هي مولود أضخم وأعظم حين ترمز إلى قضية الإنسان في حياته، وهدفه من هذه الحياة، فيتحوّل النفس الشعري العادي إلى نفس ملحمي:

لا تصرخي، ودعي الصراخ لمن سيولد بعد حين

صبراً.. فقد طالت سنون العقم فينا، مثلما الصفصاف كنّا، لا ثمار.

لكنه في الماء مغروسٌ، ومغروسٌ بنا قحطٌ وعارُ

لا تصرخي، هو هكذا الميلاد..

أبعاد التصور الإسلامي

في عصر التغريب والاستلاب الحضاري، نقبل ألا يعمد أدباؤنا إلى مصادمة التصور الإسلامي للإله والإنسان والكون والحياة، أما الشاعرة نبيلة الخطيب، فتنطلق أحاسيسها ومشاعرها أصلاً من هذا التصور الشامل، بكل عفوية وشفافية.. بدءاً من مفردات الدعاء والصلاة والحج والعمرة، ومروراً باستثمار الأحداث والظلال التي حفلت بها قصص الأنبياء عليهم السلام، وانتهاءً إلى تفسير التاريخ، ودور الإنسان في الإعمار أو التخريب:

النخل نخلٌ، ما تغيّر.. إنما هي أرضنا صامت وأضناها الصيامُ

منذ اقتلعنا القمح من أحضانها... مذ شرّش التبغ اللعين

وصراع الخير والشر منذ القدم:

بدءاً  بهابيل –يا قابيل- ما iiاقترفتْ
خصيمك  الله،  هل  واريت iiجثته؟


 
يدُ   ابنِ   آدمَ،   والأحقادُ   تستعرُ
وأهلُ بيتك شقّوا الثوبَ أم صبروا؟

وتقلّب الناس بين الغفلة عن الموت وتذكره:

في حضرة الموت يخشى الناسُ سيرته
وإن   تولّوا   تراهم   لا  خشوع  بهم


 
يبكون  خوفاً  على الأجداثِ إذ iiحفروا
من  شرّ  غفلتهم  ضلّوا، وما iiاعتبروا

إن التصور الإسٍلامي، فطرة متغلغلة في أعماق النفوس، لاسيما النفوس الحساسة المرهفة التي تتماهى مع عناصر الكون بأخوة أو ألفة لصدورها وإياها من مصدر واحد، ولتعايشها معها بهدف واحد، خذ مثلاً قصيدة الديوان الذي سمّي باسمها "صبا الباذان" وهي حديث النفس والعاطفة والمشاعر والذكريات وكل خلايا الجسد والروح مع وادي الباذان وعصافيره والعنّاب والغدير والريحان والصفصاف وعناقيد العنب والياسمين وغصون الزيزفون وتمر حنّة وسجاجيد النجيل، وأشجار الحور النحيل، فقد زارتهم أميرة النعناع بعد الغياب تستعيد ذكريات الطفولة في صحبة هذه الكائنات الحيّة الكريمة.. هذا المهرجان الجمالي طافت فيه الشاعرة من خلال مقطعين غلب عليهما الحوار بين الشاعرة وعناصر الطبيعة مشخّصة مجسّدة بعواطف ومشاعر إنسانية وفيّة، تفتتح المهرجان بوصف استقبال كائنات الوادي لها:

ضمّني الوادي إلى الصدر الحنون

فهمى الدمعُ، وأسبلنا الجفون

والعصافيرُ تنادت

هذه معشوقة العنّاب عادت

فاخرجي.. يا كل أشياءِ المكان..

فتعلّق الشاعرة بعد عرض الاستقبال الحافل، قائلة:

عانقيني يا غصون الزيزفون

ضمّني يا ذلك القلب الحنون

ثم يأتي حديث الذكريات في حوار بين الشاعرة وشخصيات الطبيعة المشتاقة العاتبة، نقتطف منه:

- هل تذكرينْ؟

- يا نهر أذكرْ

وهمست للشلال: أنّ أميرة النعناع غالبها الكرى،

فاخفض هتافات الهديرْ

وأشرتَ للأغصان: أن حبيبة الأطيار ناعسةٌ فميلي ظللي وجه السرير

وتختتم القصيدة بخاتمة الذكريات، التي كانت الوداع الحزين:

والصفحة الأخرى على الساجور.. صومعتي وأحبابي:

زُريقيٌّ وأعشاشٌ وأسراب يمام وغصون

كلها اصطفّت تودعني، ولن أنسى بذاك اليوم.. كم فاضت عيونْ

عندما وجّهت وجهي للرحيل

كلّ من في الواد صلّى

كل ما في الواد صلّى

سائلاً قربَ اللقاء..

وهكذا يلتقي حب الوطن وجمال الشعر مع تصور الإسلام الذي يؤاخي بين الإنسان وعناصر الطبيعة، لا وثنية ولا صراع على شاكلة الآداب المهجنة.

تصوّر المرأة

على أن تصور الشاعرة للمرأة لا يقل جمالية واستلهاماً للتصور الإسلامي عن تصور مفردات الطبيعة الفتانة الأليفة، عرضت الشاعرة للمرأة في كثير من أحوالها وأطوارها: بنتاً وأماً وزوجة، صابرة وثائرة، مبتهجة وحزينة، منطوية على نفسها أو حاملة لواء قضية جمعية، وعندما أرادت أن تبسط تصورها للملحمة الإنسانية في توالي الولادة والموت، النجاح والإخفاق، العقم والإخصاب، لم تجد خير إطار معبر عن هذه المعاناة المتماوجة غير معاناة المرأة الحامل في كل مراحل الحمل والمخاض والولادة الناجحة والمخفقة، مضيفة إلى ذلك معارك الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، وظروف دعواهم، منزلة بشكل متسلسل متساوق مع ملحمة الإنسان أو الإنسانية، كما تراها الشاعرة المؤمنة:

لا تصرخي، هو هكذا الميلاد

تتفتت الأضلاع منه على حدود الصبر

ويجفّ ريق البحر

هو هكذا الميلاد، أول خطوة في درب عمر

*  *  *

لا تحزني، يا زوج (إبراهيم)

الخصبُ فيك إلى الأبد

والخيرُ فيما تنجبين إلى الأبد

القيم التعبيرية

بالإضافة إلى إفادة الشاعرة من توظيف التراث من زوايا متعددة، لم تحجم عن الإفادة من العروض الخليلي الذي نظمت فيه ثلاث قصائد، والرابعة شبيهة بالموشحات من بناء على مقاطع، لكل مقطع قافيته الخاصة، مثل سورة "العاديات" وأفادت من عروض شعر التفعيلة الذي قامت عليه سبع قصائد، ويلاحظ أن أسلوب الحكم يطل برأسه في الخليليات، على حين برئ شعرها على التفعيلة من مطبات شعر الحداثة (الغموض المسرف، الأساطير اليونانية، العبث، التجديف) بل إن استثمارها الفني للتكرار ألفاظاً وعبارات ومقطعاً شعرياً قصيراً، كان موفقاً:

على ضفة الجرح سجّيت قهري طويلاً

وسيّجتُ صبري طويلاً

ولكنني عندما طالَ صمتي، تفتّق صبري

وباح للحظةِ ضعفي بعمري

ويا صبر صبراً

ويا صبر صبراً

ولكن صبري، تعرّق إذ زاد حملي، وعيلا

وهذا لم يمنع من توظيف التكرار في عروض الخليل حيث تكرر بيت ثلاث مرات بنجاح:

فلا والله لست سوى خذولٍ   ولا يحظى وليك بانتصارِ

فضلاً عن الإفادة من فنون القافية التقليدية من إرصاد ورد العجز على الصدر.

أما بناء القصائد فتغلب عليه البنية الغنائية، ما عدا قصيدتين بنيتا بناء قصصياً، فيهما البداية والعقدة والحل أو الحوار وارتجاع الذاكرة: "صبا الباذان" و "يا رغيف الخبز" كل ذلك يعني أن الشاعرة من ديوانها الأول قطعت شوطاً بعيداً في النضج.