شريف الراس شاعراً ساخراً
بقلم : عبد الله الطنطاوي |
شريف الراس شاعراً ساخراً |
عندما كنت أقرأ لشريف الراس في الخمسينيات –وأنا طالب ثانوي- وفي أوائل الستينيات وأنا طالب جامعي- كنت أتصوّره عملاقاً: طويل القامة، عظيم الهامة، عريض المنكبين، مفتول العضلات، قاسي القسمات، يده المديدة تسبق لسانه، ولسانه الذرب يسبق قلمه |
وقلمه مشحوذ كسيخ المعاش (ساطور الجزار) إذا انتقد عرّى، وإذا سخر بامرئ ألصقه في الأرض ومرّغه بالوحل، وإذا خاصم قصم، ينطلق في كل ذلك من مبدئية لا تريم، وعن اقتناع في صدق التوجه، تجعله خصماً عنيداً يقف في مواجهة من تراوده الظنون والشكوك في نظافته الوطنية، أو من يراه عدواً للحرية، ديكتاتوراً أو ذيلاً لمستبد..
هكذا كان يبدو لي شريف الراس، وقد صدق حدسي إلا في وصفه الجسماني، فقد كان مغايراً لما كنت أتخيّل.. ولما رأيته عجبت لصاحب هذا الجسد النحيل يبطش بأعداء الحرية والوطن هذا البطش، ويقتلهم بضربات سريعة، كدأبه في كل شيء، فهو سريع في حركته الذهنية، سريع في حركته البدنية، سريع في اختيار الهدف والتسديد إلى قلبه أو رأسه، ذهنه في توقد، وأعصابه في حالة احتراق، تشم رائحة شواء قلبه عن بعد، في كل ما تقرأ له، كما ترى بخار دمائه الفائرة عن كثب..
إنه موهوب.. متعدد المواهب، ولو أنه خلق في باريس أو القاهرة مثلاً، لطبق صيته الآفاق، ولأقاموا له –في حياته- أنصاباً تذكارية هنا وهناك، ولكتبوا تحت كل تمثال: هكذا فليعمل العاملون، فهو شعلة نشاط، لا يعرف جسمه المكدود طعماً لراحة، حتى إني لأحسبه يتحرك وهو نائم، كما يتحرك ذهنه وعقله وعواطفه في سائر أحواله.. يعرض عليك مشروعاً فإذا أحسَّ أنه لا يروقك عرضه عليك بصورة أخرى، أو استبدل به مشروعاً آخر وآخر وآخر.. إذا فتح كتاباً أو تصفّح جريدة، انثالت على ذهنه الخواطر والموضوعات والمشروعات، وتفتقت الأفكار.. إنه يعمل في اليوم والليلة يوماً وليلة، يعمل وهو يأكل، وهو نائم، وهو يقود سيارته، بل إنه ليعمل وهو يعمل، يفرد على منضدته المنصوبة في مطبخ بيته –يبدو أنه في قصر منيف كثير الغرف، واسع الحجرات، حتى جعل من المطبخ مكتباً له- بضعة كراريس يصفّ بعضها إلى جانب بعضها الآخر، وقد شرع في كل كراس بموضوع، فهو يكتب هنا مقالاً سياسياً، وهناك مقالاً نقدياً، وفي الثالثة فصلاً من رواية لم يتم، وفي الرابعة قصة قصيرة تنتظر الخاتمة، وفي الخامسة يكتب مسلسلاً تلفزيونياً عن اللغة العربية، وفي السادسة، وفي السابعة.. ثم هو –فوق كل ذلك ومع كل ذلك- يجلس إليك ويحدثك وهو ينفث حزمة ضخمة من دخان سيجارته التي تعاونت هي والظروف و(الأصدقاء) والسهر والعمل الدؤوب على إتلاف صحته.. صدّق أو لا تصدّق..
هذا هو شريف الراس كما عرفته وعايشته منذ بضع عشرة سنة.. إنه أعجوبة في نشاطه، وأعجوبة في تعدد مواهبه.. وأعجوبة في مخاصماته.. فلقد عرفت كثيرين، وسمعت عن كثيرين من الذين وقفوا في وجه الاستبداد السياسي، وقارعوا الطواغيت، ولكني لم أر منهم من وقف موقف الراس الذي وقف في عناد وصلابة وعنفوان، ضد ذلك الخبيث المخبث الشيطان الرجيم، المسمّى بالاستبداد والديكتاتورية ومن يمثّلها في بلده هذه الأيام، ولو أتيحت له الظروف التي تعينه على تفجير طاقاته في هذا المجال، بدل كبتها وقهرها، لقدم ما لم يخطر على البال في فضح ذلك العتل الزنيم، وكشف عوراته، وإضحاك الناس على سوءاته، وسيندم الناس ذات ليلة، عندما يفتقدون هذه الطاقة الجبارة، لمَ لم يكونوا إلى جانب صاحبها..
هذا عن (الرجل) شريف الراس، فماذا عن شعره؟
شريف الراس لم يزعم لنفسه ولا لأحد من الناس أنه شاعر، أو أنه كان شاعراً أو أنه يتطلع ليكون شاعراً في يوم من الأيام.. فكيف كان ما كان؟
كيف صار شاعراً؟ ولماذا؟
هل يريد أن يكمل نُقْلَ سخريته بالزعرور؟
والجواب –فيما يبدو لي، والله أعلم- أن شريفاً يحمل قلب شاعر أولاً، ولأن ما يمر به وبوطنه وأمته في هذه المرحلة المتردية من حياة أمتنا ووطننا كفيل بأن يفجر ينابيع الشعر والثورة معاً في النفوس، كما البراكين تتفجر.. والشعر بركان، أعني شعر شريف والأحرار.
اسمعوا إلى هذه القصيدة:
(سألولنا: ما معنى الحرية؟
قلنا: عفواً.. نحن رعية)
انتهت (القصيدة).. وليدبج الكتّاب الصفحات في نقد الأوضاع السياسية في الوطن العربي، ولينظم الشعراء القصائد، ولكنهم لن يستطيعوا أن يزيدوا على ما قاله شريف في بساطة وإيجاز وتكثيف يلخص أوضاعنا المتردية إلى حد القرف.. وإليكم (القصيدة) الثانية:
(سأل الطفل أباه فقال:
- ما الحرية؟
اهتزت أوصال أبيه وقال:
- اخفض صوتك يا ابن الكلب
لا تفضحنا)
أرأيتم إلى السحر الحلال يتغلغل في الأعماق، ملخصاً مأساة الأمة العربية في واقعها المرير، مأساة الإنسان العربي المذل فوق أرضه وبعد أن يوارى في باطنها؟..
عنوان (الديوان): اسق العطاش تكرماً..
ونحن العطاش.. نحن العطاش إلى الحرية.. إلى الحياة الكريمة.. إلى أن يمارس الإنسان منا إنسانيته..
لن أتوغل في عرض الديوان، وإلا اضطررت إلى نقله من الجلد إلى الجلد.
وإذا كان أحد النقاد وصف أحد كتب شريف الراس بأنه كتاب سريع الطلقات، فإنني أصف (قصائد) هذا (الديوان) بأنها صواريخ موجهة إلى عيوبنا التي نزلت بنا إلى ما نزلتْ إليه، وموجهة إلى الأنظمة الطاغوتية التي جعلت من أفكار المفكرين لحماً على عظم تفرمه عصابات الأجهزة القمعية التي فعلت بنا ما لم تفعله الصهيونية وأعدى أعدائنا بنا..
ليكتب غيري عن الجوانب الفنية لهذا الشعر.. ليكتبوا عن العفوية والبساطة والصور والأسلوب والموسيقا وغيرها من القيم الفنية، أما أنا، فلن أقول سوى أن الشاعر أراد أن يسخر وبمرارة من كل شيء مقرف في حياتنا، فبادر إلى كتابة أو نظم أو تأليف هذا الذي بين أيدينا، فكان هذا الديوان، وعلى نمط شعر التفعيلة الذي يكرهه شريف، ويعتبره مؤامرة على الشعر العربي الأصيل، وعلى اللغة العربية والموسيقا العربية أيضاً.
هذه واحدة، وأما الثانية: فهي أن الشاعر شريف الراس أراد أن يصرخ بقوة وعمق وإخلاص ويقول: آخ.. فثأر شريف ثأر عريان، يريد أن يثأر لوطنه، ولأرضه، ولمدينته ولأمته العربية